آخر الأخبار
موضوعات

الأربعاء، 8 مايو 2013

- الأدب مع الشيخ

قد استنبط الامام الآداب الواجبة على السالكين للأئمة والمرشدين من كتاب الله، ضارباً بذلك الطقوس والحركات التي انتشرت في صوفية العصر، والتي جعلت الناس ينكرون على أهل الطريق نتيجة خروجهم عن حد الاعتدال في هذه الآداب، فمثلاً بعضهم يقف ولا يستطيع أن يجلس ما دام في حضرة شيخه، وبعضهم يضع ذقنه على صدره ولا يرفعها إلا بإذن من شيخه، وبعضهم يخرج من حضرة شيخه بظهره حتى لا يستدبر الشيخ، وغيرها من الأفعال التي تتنافى وسماحة الإسلام، فأرجع الآداب المرعية في صحبة العارفين إلى الآداب التي بينها الله في كتابه فيقول:((وقد أدب الله أوليائه بهجرة الكليم عليه الصلاة والسلام للعبد العالم، وبين لنا أدب الكليم عليه الصلاة والسلام معه مع ما لاقاه منه من الجفوة والاحتقار في مخاطبته بقوله ( إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً{67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً )[الكهف] بين لنا الله سوء أدب موسى السامري وبلعام ابن باعوراء الذي أخبر الله عنه بقوله ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) [الأعراف]، وكان من خاصة أصحاب الكليم، فبلغ في محبته مبلغاً ظن فيه مساواته له وتفوقه عليه}} وقد أجمل الامام الأدب الواجب مع المرشد في عبارة واحدة حيث يقول:((تقيمه مقام الوالد الرؤوف الرحيم، وتقوم له بما يقوم به الولد البار الكريم)) وقد طبق ذلك في تربيته لمريديه، فقد حكى لي الشيخ عرفات الجمال رحمه الله تعالى: أنه كان جالساً متربعاً واضعاً رأسه على صدره، جامعاً يديه على فخذيه في حضرته، فما كان من الإمام أبي العزائم إلا أن قال له:( يا عرفات ارفع رأسك وأرح نفسك في جلستك، فأنا بالنسبة لك إما أب أو أخ أكبر، والأب لا يرتاح مع تعب ابنه، والأخ الأكبر لا يستريح مع تعب أخيه.يا بني: ... لا تظن أن هذا هو الأدب المطلوب مع الشيخ، وإنما الأدب المطلوب مع الشيخ أن تحفظ له باطنك في حضرته وتحفظ ظاهرك عن الوقوع في المعصية في غيبته))وبعد أن بين أن أدب السالك مع شيخه هو أدب الابن البار الذي وضحه كتاب الله، وبينه سيدنا رسول الله في معاملة الابن البار لوالده الرؤوف الرحيم، ينبه بلطف إلى أمور يجب أن يعيها السالك حتى لا يحرم من الامدادات الإلهية التي ترد إليه عن طريق شيخه أبرزها ما يلي:

1-      أن يكون تطهر ظاهراً وباطناً مما يخالف الشرع من كل الكبائر خلقاً أو عملاً.

2-      أن يتخلق بأخلاق الرسالة من الصبر والرضا والتوكل.

3-      أن يجعل ذات المرشد هي المقصودة له لا لكرامة يبتغيها أو مكانة يرجوها أو دنيا يصيبها أو علم يناله أو فقه يفهمه، لأن أهل خصوصيته هم خاصة رسول الله

4-      يلزمه أن يكتم أحوال الرجل التي أباحها له في سر إلهي أو ديني أو دنيوي أو أخروي - مادام تسمعه منه منفرداً - لئلا يقدح ذلك في حفظه لأمانته.

5-      أن يكون مألوفاً لجميع المخلوقات من الحيوانات والناس بما يناسب كل طبقة.

6-      أن يكون بعيداً عن الشبهات ظاهراً وباطناً ولا يعتمد على حفظه بحاله، ولا يقلد الرجل في أحواله عند مقتضيات الجمع فإنه فرض.

7-      مهما أكرمه الله تعالى بخصوصية لا يخطر على قلبه إنه أشبه المرشد أو ساواه أو استغنى عنه، فإن ذلك دليل القطيعة عن الله تعالى، وإن كان الرجال لا يحظرون على فضل الله تعالى، ولكن الطريق لا يسلم فيه إلا أهل الأدب وفيه سوء الأدب عطب.

وهكذا يبين الإمام ، أن السعادة كل السعادة في طريق الله تعالى في الأدب مع المرشد فيقول:((الوقوف عند المرشد - أمان ونجاة - وإن أنزلك عن مقامك وحالك - لأنه يريد لك الوسط لتتمتع بشهود ربك في كل شئ بوجود كل شئ، وهو السنة في التربية، وانظر إلى ذات السيد صلى الله عليه وسلم برده ابن عمر إلى الوسط، فكن كالميت مع المرشد تحيا أبداً، فنظر المرشد ببصره أعلى في مراتب التمكين من كشفك ببصيرتك فاحذر أن تقف عند حالك أو كشفك وكن - مهما ترقيت - حلة من حلل جماله، وغصناً نضراً من أغصان شجرته، اتصاله حياتك وانفصاله هلاكك)) ثم يبين قبساً من الآداب العالية في صحبة الواصلين للمرشد فيقول:((المرشد سر غامض مرتبته، وجهر جلي مكانته، ظاهره ذل العبودية وخشوع المشاهدة، وخوف الإطلاق واستكانة المعرفة، كن اشفق عليه من شفقتك على نفسك، وارهب له من خوفك من النار، ومهما ظهر لك من ذله واحتياجه إليك واستعانته بك، فاجعل ذلك منزلة الاختبار، وبداية الامتحان، وابذل النفس والنفيس قبل الإشارة والروح عندها، وانظر إلى حوادث الصديق مع السيدالمصطفى وعلى ذلك فانهج، إذا أخبرك بخصوصية أو رفعك بمزية، فلا تجعلها شاغلاً لك عن العكوف على ذاته، واحتقر ملك الأرض في جانب خدمة أعتابه، فإنه لو أنس بك ما أبعدك عنه إلا إذا أقامك مقام ذاته في شأن من شئون واجباته، كما فعل موسى بهارون عليهما الصلاة والسلام، ورسول الله لعلي بن أبي طالب في غزوة تبوك)) وهكذا يرد الإمام أبي العزائم الآداب في هذا الباب إلى آداب الأصحاب رضي الله تعالى عنهم، فالسالك يتأدب في نفسه بما كان عليه أصحاب رسول الله في خاصة أنفسهم، ويتجمل مع أخوانه بما كان يتجمل به أصحاب رسول الله مع بعضهم ويسلك مع المرشد ما كانوا يسلكونه مع سيدنا رسول الله مع حفظ المكانة المحمدية، لأن ذاته ليست كسائر الذوات، وهيئته ليست كبقية الهيئات وإنما المشابهة من باب قوله :{ الشيخ في قومه كالنبي في أمته } وصدق الامام إذ يقول:

وي عجيب آخر الأزمان عادت  لنا أحوال أفراد حسان

وهكذا ما ترك الإمام شيئاً يهم أهل الطريق في سيرهم وسلوكهم وحالهم مع ربهم، إلا وقد بين لهم مأخذه من كتاب الله ، ووضح لهم السنة العملية في فعله، والمطابقة لعمل سيدنا رسول الله فجدد الله به أحوال الصوفية وردها إلى حقيقتها التي كانت عليها في عصر رسول الله وأصحابه الكرام.وأما المقامات التي ينزل فيها أهل الطريق، والمشاهدات التي يواجهون بها والأحوال التي يتجملون بها، فهذا أمر يحتاج إلى بسط كبير ويحتاج أيضاً إلى أن ينزل الإنسان في هذه الأحوال ويصل إلى تلك المقامات ليتعرف عليها ذوقاً، إذ الكلام النظري في هذا الأمر لا يفيد ما لم يصحبه التطبيق العملي...ولذا كثيراً ما يعترض نفرٌ من أهل العلم على السادة الصوفية وذلك لأنهم قرأوا أذواقهم ومشاهداتهم ولم ينزلوا بأنفسهم فيها، ويعايشونها، فأنكرتها عقولهم ولم تتذوقها قلوبهم، لكن علوم الصوفية الحقة وأسرارها لا ينبغي أخذها إلا من باب ((ذق تعرف)) ولذا آثرنا ألا نتحدث عن المقامات والأحوال التي يمر بها السالكون وينتهي إليها الواصلون - وإن كان أشار إليها الامام في كتاب شراب الأرواح، وقسم علوم اليقين من كتاب أصول الوصول - اكتفاء بما نبيحه منها للمريدين في الجلسات الخاصة بعد صفاء نفوسهم وتهذيب أحوالهم، فالأمر كما قال الإمام :((نحن قوم نكتم أسرارنا عن الطالب حتى لا يكون له شهوة إلا في الحق)) ويقول:

إن كان ما قلت نوراً فالسر أعلى وأغلى

 يعطي لفرد مراد   عن كل غير تسلى

 باع النفوس ومالاً   حتى به صرت أولى

فمن أراد الأسرار، فليقترب من الأخيار، ويواصل جهاد النفس أناء الليل وأطراف النهار، حتى يصفو قلبه من الأغيار، ويجمل بخالص الأنوار، وهنالك يكون بيتاً مؤهلاً لتنزل الأسرار، وكنزاً للهدى والأنوار.وصلى الله على سر الأسرار ونور الأخيار وآله وصحبه وكل من انتظم في عقد معيته إلى يوم القرار. والحقنا بفضلك بمعيتهم يا عزيز يا غفار.



آداب التعامل مع الشيخ
ويحتاج المريد بصلته بالشيخ الذي يدلُ على الله بعد أن يتأكد من حال هذا الشيخ وصدقه مع الله، يحتاج الى آداب في التعامل، بعض هذه الآداب عامة ينبغي أن يتعامل بها المسلم مع كل حواليه.. منها أن لا يقاطعه في كلامه .. أن لا يسيء إليه في المعاملة، منها أن يتودد إليه، هذه مع الكل.
ثم هناك أخلاق نتعامل بها مع العلماء العاملين مع من يُعلـّم، التلميذ مع المعلم، بقدر ما يكون عند التلميذ من نباهة وذكاء ومطالعة، أيضا ومن أدب وحُسن المعاملة يستفيد.

- أدب تلاميذ الرسول: كان التلاميذ .. أعظم تلاميذ في الوجود عند أعظم أستاذ في الوجود صلى الله عليه وعلى آل بيته وعليهم أجمعين إذا جلسوا بين يديه وكان على رؤسهم الطير، يغضون البصر، إذا تكلم كانوا كلهم آذان صاغية.. غاية في الأدب معه، لا يحدون البصر إليه إمعاناً، نعم لأنه رسول الله لكن أيضاً لأنه معلمهم ومربيهم، لأن الصحابة رأينها منهم ذلك مع بعضهم البعض التلاميذ مع الأساتذة .

- أدب الصحابة مع بعضهم : ابن عباس رضي الله عنهما تتلمذ على زيد بن ثابت رضي الله عنه، كان يجلس على باب زيد لا يدق الباب ينتظر متى يخرج زيد، قال ربما يأتي الريح فيسف التراب عليه حتى يمرّ المار لا يظنه إنسانا يظنه من متاع المنزل من كثرة التراب، فاذا خرج زيد ينظر من هذا فيقول ابن عباس ينفض الغبار عليه ما الذي جاء بك إلى هنا يا ابن عم رسول الله ؟ أدب الصحابه مع آل البيت لا حد يتفلسف يقول الصحابة وآل البيت كيف كانوا .. هذا أدب الصحابة مع آل البيت، فيقول جئت أسألك عن علم رسول الله الذي أخذته، ابن عباس توفي المصطفى وهو في الثانية عشرة من عمره وزيد أخ أكثر من التحصيل العلمي في الرواية، قال هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ أنت ابن عم رسول الله .. يقول العلم يؤتى (الأدب)، لِمَ لـَمْ تقرع عليَّ الباب؟ قال خشيت أن تكون بعض حاجتك مع أهل بيتك فأؤذيك.

- أدب الأستاذ مع التلميذ : يُرى ابن عباس وهو يحمل جنازة زوجة زيد فإذا به يأخذ بزمام دابة زيد أي كأنه من الخدم الذين عند زيد ويفعل زيد عن الراحلة فيأخذ هو بزمام الراحلة يسوقها .. لاحظ ..ابن عباس قـُرَشي وزيد وإن كان في الأصل من الأحرار لكنه كان مولى من الموالي، وكانت في العرب يصعب عليها أن يتواضع السيد القرشي مع المولى المملوك لكنه تأديب رسول الله لنفوس الصحابة كانه مملوك بين يديه، “عن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوما فأخذ ابن عباس بركابه، فقال له: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا فقال زيد: أرني يدك، فأخرج يده، فقبلها فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا” ، هذا معنى من الأدب فيما بينهم البين على هذا الرُقي في المعاملة .. التلميذ مع الأستاذ والأستاذ مع التلميذ ورثَ ذلك مَن بعدهم..

- تسلسل الأدب فيمن بعدهم : حتى رؤي الإمام الشافعي رحمه الله يصف حاله مع شيخه الإمام مالك كان يقول كنت أصفح الورق بين يدي مالك برفق لئلا يسمع وقعها .. و تلميذ الشافعي الربيع قال كنت أستحي أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي أدباً مع الشافعي ..
الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تلميذ الامام الشافعي كان يجلس مع بعض الكبار محدثي عصره من الأئمة الأكابر فيمر الشافعي من بعيد على بغلته فيقطع المجلس الإمام أحمد ويسارع الى الامام الشافعي ويأخذ بزمام بغلة الشافعي .. وهو أحمد ابن حنبل الشيباني العربي ابن القبيلة يأخذ بزمام دابة الإمام الشافعي ويتذاكر معه في العلم، فلما أوصل الشافعي إلى مقصده وعاد إلى أقرانه تغيضوا عليه قالوا كنا نتذاكر في حديث رسول الله فتركت هذا الامر لتأخذ بزمام البغلة؟ وأنت احمد ابن حنبل؟ قال دعوكم من هذا الكلام إذا أراد أحدكم الفقه فليأخذ بزمام الآخر لهذه البغلة للشافعي.. الأدب الذي كانوا يعيشون عليه .. هذه آداب ينبغي أن نحرص عليها في حسن المعامله ..

الأحد، 5 مايو 2013

- نتائج مجلس العلم

- نتائج مجلس العلم
أمرنا ربنا أن نطلب المعرفة التي أدى أمانتها رسول الله r لأصحابه في البدء لتصل  إلينا جيلا بعد جيل كاملة محفوظة لا نقص فيها ولا خلل، فذكرها ربنا بقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..} ولا يخشعُ قلب عن ذكر المذكور إلا إذا كان عارفا بعظمة المذكور على قدره هو لا على قدر المذكور إذ لا يدرك كنه عظمة المذكور سبحانه إلا هو {..وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } (الأنفال:2)، وهذه هي مراحل التكليف العرفاني الثلاثة :
(1)  ذكر الله : إذا ذكرَ الله وجلت القلوب من خوف المقام.

(2)  تلاوة الآيات : وهى تشمل : تلاوة الآيات في المصحف، وتلاوة الآيات في الآفاق،    وتلاوة الآيات في الأنفس، وهناك آيات بعد ذلك لا تباح ولا تلوح إلا لمن صفا ووفا          وتأدب بآداب أهل الإصطفا وووجه بالجمال.

(3)  زيادة الإيمان: ومعنى هذا أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لأن الطاعة نور على الصراط الموصل، أما المعصية فظلمة تحجب السالك عن طريق ربه وهي لهذا تسبب إنقاص الإيمان في قلب كل إنسان يتعرض لكل ذلك، لهذا ذكر سبحانه الإيمان كثيرا وذكر أيضا المحبة الناتجة عن الإيمان الناتج عن المعرفة فقال { والذين ءامنوا أشد حبا لله } (البقرة:165) فهناك : حب شديد وحب أشد، فنحن نحب الآباء والأبناء والأزواج ومتاع الدنيا الذي من حلال، ولكن لا بد أن نحب الله ورسوله أكثر من أي حب آخر{ قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } (التوبة:24) وهي الأصناف الثمانية لمحبة الدنيا، فشعب الإيمان التي هي بضع وسبعون كلما تجمل العبد منا بجمال شعبة منها تحلى بحـللها وعلومها وحكمها وأسرارها فيزيد مقام إيمانه بقدر ما وصل إليه. ولا يزال العبد كذلك ما دام سالكا مع عارف مرشد معلم دال على الله بالله ومتصل القلب بالمصطفى r فهو على مزيد من عطايا الله ويزداد إيمانا مع إيمانه ما دام محاسبا لنفسه ( والمحاسبة شعبة من شعب الإيمان ) ومراقبا لربه ( والمراقبة أيضا شعبة من شعب الإيمان )، فيتفضل المتفضل بتمام النعمة وبإحسان العقيدة وإحسان العبادة وإحسان المعاملة وإحسان الأخلاق وإحسان الآداب. ومقامات الإحسان في القرآن كثيرة ولكن أجملها ربنا في آية واحدة فقال { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (البقرة:112) ووجه الشيء حقيقته.

وكلمات العلم النافع لآلئ ودرر لمن ألقى السمع وهو شهيد، والإمام أبو العزائم رضي الله عنه ينبهنا إلى حقيقة هامة فيقول :

واحفظ إذا سمعت  أذناك  جوهرة   ***       واحرص عليها تنل كل السعادات
فالكلمة النافعة يصحبها التوفيق، فإذا وصلت إلى قلب سامع مسلم أسعده الله سعادتين :

1 ـ السعادة الأولى لفهمها والعمل بها.
2 ـ السعادة الثانية بأن يفتح له باب العلوم اللدنية تحقيقا لقول رسول الله r [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] (رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس).
ولمجلس العلم آثار شتى، ولك أن تسأل نفسك بعد السماع :
$  هل تغير منك شيء ؟
$  انتقلت بالسماع من حسن إلى أحسن ؟
$  تحققت في مجلس العلم بحقيقة الإقبال على حضرة العليم سبحانه ؟
$  هل بإقبالك منحتَ طمأنينة القلب وأنت في مجلس العلم ؟
$  هل ذكرت الله في المجلس ذكرا كثيرا يخشع له القلب ويطمئن به ؟
$     هل عاهدت نفسك معاهدة كاملة أن تعمل بعد انتهاء المجلس بمقتضى ما علمت بقدر الإستطاعة ؟ إذ أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وما آتاها.

ومجلس العلم فيه ومنه النجاة من الفتن التي نبه رسول الله r عنها بقوله [ ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا إلا من أحياه الله بالعلم ] (أخرجه ابن ماجه في الفتن والدارمي  في المقدمة) قال تعالى { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } (الأنعام:122)، وبين رسول الله r أهمية هذا العلم في مرحلة الدنيا – سواء كان متعلما أو معلما، بقوله [ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالما أو متعلما ] (رواه الترمذي وابن ماجه في الزهد)، حتى إذا ما انتقل الإنسان إلى برزخه تظل صحيفة حسناته مفتوحة وقابلة للمزيد لأنه r قال [ إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ] (أخرجه مسلم في الوصية) وكلها من ثمار العلم.

علم التلقي وعلم الدراسة :
وليس كل متحدث بعالم، فقد سبق وذكرت قول إمامنا أبي العزائم رضي الله عنه في ذلك. والقرآن يميز بين علم السطور وعلم الصدور :
(1) علم السطور : وهو علم الدراسة، ويشترك في تحصيله أهل القرب وأهل الإيمان وأهل الكفر. والقرآن كمصحف مكتوب - وكذلك السنة - يقرأه ويحفظه المسلم وغير المسلم، ومن يعطون الشهادات الجامعية والعلمية في بلاد العالم المختلفة للمسلمين وغير المسلمين الوافدين للدراسة لا يؤثر فيهم ما يقولون وهم هم على كفرهم.

(2) علم الصدور : وهو علم الإيتاء والاختصاص، ولا يصل إليه إلا أهله {بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } (العنكبوت:49)، فعلم الإيتاء هو العلم النوراني وكذلك حكمة الإيتاء { يؤتِي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب } (البقرة:269). يبين الإمام أبو العزائم الفرق بين علم التلقي وعلم الدراسة فيقول في مواجيده :

علم التلقي وعلم  الدراسة      شتان عندي بنص الفراسه
تلقى من الله من خصه      بتفريده       بالرياسه
تلق من الدرس من نفسه      من   السفل أو من كتابه
فأهل التلقي من الله  هم      أولوا العزم أو  بالوراثه
فلا تأمنن غيرهم واحذرن      فأهل الجهالة أهل التعاسه
وتابع  فتىً  مرشدًا   كاملا      تحقق بالعلمين بعد السياسه

وعلم الصدور أهله قليلون، وعلم السطور أهله كثيرون من المسلمين وغير المسلمين وعلامتهم أنهم يقرءون - وقد يحفظون، ولكن المهم هو التوفيق للعمل بمقتضى ما علموا، فهم يحصلون علوما كثيرة جدا، وقد عبر الإمام عن ذلك بقوله ( يحصلون أمثال الجبال علما ولكنهم لهم مثلين واضحين في القرآن : مثلهم بالحمير مرة وبالكلاب مرة أخرى )، قال تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } (الجمعة:5)، وقال تعالى {واتلُ عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين~   ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثـله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثـل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } (الأعراف:175،176)، والأرض هنا هي أرض الطبع والحظ والهوى والبعد، والتكذيب بالآيات ضرب الله له مثلا آخر في قوله { أرءيتَ الذى يكذب بالدين~   ..} وهو خطاب لرسوله أولا ولكل واحد منا من خلاله r بعد ذلك ، والذي يكذب بالدين ليس الذي يعلن كفره ولكنه {..فذلك الذي يدع اليتيم  ~  ..} ولما سئل رسول الله r عن ذلك قال : ينهره ويقهره ويضربه بغير دليل لأنه يتيم {..ولا يحض على طعام المسكين   ~  ..} فلا يعطف ولا يجعل الناس تعطف {..فويل للمصلين ~   الذين هم عن صلاتهم ساهون  ~  الذين هم يراءون  ~  ويمنعون الماعون }(سورة الماعون) .. فالتكذيب بالدين ليس بإبطان أو إعلان  الكفر  كما سبق وذكرت، لكنه عدم العمل بما جاء به المصطفى r ، فالذي لا يأمن جاره بوائقه مكذب بالدين، والذي يصلي ولا يعرف كيف يصلى مكذب بالدين لأنه مأمور بتصحيح العمل بطلب العلم من أهله لأن كل عمل له أساسه فهو علم، والعلم يطلب لأنه المنهاج وهو يحتاج لطالب وحامل له، فلا يطلب العلم للمراءاة أو للتفاخر أو ليقال عالم، إنما يطلب لانشراح الصدور به فتزكو النفس ويطمئن القلب ويصفو الفؤاد وبه يكون الإنسان إنسانا بمعناه، نفخت فيه الروح فأقبل ولم يدبر وسمع وقال سمعت وأطعت، ودليل السمع مع الطاعة هو التنفيذ، والتنفيذ في أول المسألة هو في اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتناب المعاصي يقدم على الدخول في الطاعات لأن الإتيان بالطاعات أمر لا بد منه لكن يقدم عليه اجتناب المعاصي حتى تصفو الروح وقت القيام بالطاعة فأصبحت الظلمات بتعددها نورا واحدا نتيجة ولاية الله للعبد.

والعلم صفة إلهية، والصفة الإلهية لا تتناهى. ولا يزال العبد يقول لربه في صباحه ومسائه : رب زدني علما، ويظل في طلب الزيادة حتى ينتقل إلى العالم البرزخي فيطلبها أيضا من ربه. ويجب أن نكون على يقين أن العالم البرزخي فيه علوم وحكم ومعارف لا تتناهى .. ففيه مجالس أهل الإقبال على الله ، ومجالس العلماء والحكماء، ومجالس الورثة والخلفاء، ومجالس الأنبياء والمرسلين بعلومهم وحكمهم وأحوالهم، ففيه مجلس سيدنا آدم بعلمه، وفيه مجلس سيدنا نوح بعلمه .. وفيه مجلس سيد الخلق r . ولا يحظى بهذه المجالس إلا من جاهد نفسه هنا في الدنيا.

يتساءل الإمام أبو العزائم ليلقي لنا الضوء على حقيقة العلم فيقول :
العلم  هل   فهمه  يكفى  لتقريبي      إلى مقام التداني : نور محبوبي ؟
إن  كان  هذا  فما  لي  قد  أميل إلى      داعي الهوى بعد فهمي  بعد تأديبي ؟
العلم كالمال برهان على نفسي      أني  تطهرتُ أو أني كمكلوب
أما اليقين فبرهان على  قربي      صححت حالي لتأييد وترغيب
ذق باليقين مقام الفرد واستجل      سر الحقيقة منه غير  مكذوب
كم عامل تائه يهوي إلى  سفل      مسارع للهوى في كل منسوب
لو كان علمي  جذاب  إلى الأعلى      لما دعانى الهوى في سفل تقريبى
العلم عند بني   الإفرنج  أرفَعَهم      في  هوة الظلم  في كفر وتعذيب
علم اللسان وعلم  الكون هادينا      شركٌ لكل امرئ  للعلم مقلوب
العلم بالله  حصن  الأمن  يطلبه      فرد يقول أيا نفسى الهوى غيبى
العلم بالله طهرُ النفس  ظاهرهُ      سير إلى الله من أمن وترهيب
وباطن العلم كشف الغيب بعد هدى      كشف  الحقائق يعلي كل   مطلوب

والمكلوب إشارة إلى قوله تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين  ~   ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }(الأعراف:175،176).

ويشرح رضوان الله عليه حقيقة العلم بمعاني أخرى فيقول :
هو العلم لا يجلى بغير الحقائق      وعلم بكشف فيه  قرب  لخالق
وما العلم والأعمال من غير خشية      سوى  آلة  صماء  سؤل   المنافق
وما العلم إلا  ما يعلمه  العلي      وآي { يعلمكم } دليل لصادق
وفي  أول { الرحمن } نور لمهتد      بها { علم القرآن } جذب  الموفق
تبرأت من حولي وقولي وقوتي      تحققت أن الله بالفضل  رازقي
تبرأت من نفسي وكل جوارحي      أنبت  إلى  ربى بإخلاص واثق

ثم ينادي المعاني والمباني فيقول :
أيا علم يا حال وكل جوارحي      ويا مال يا أولاد لستم مرافقي
أنيبوا معي أو فاتركوني فإنني      تحققت  أن الكون أحلام وامق
ومرارة   دنياي   بل   غرارة      وضرارة والعبد في ليل غاسق
ففروا  من الدنيا إلى الله  سارعوا      إلى اللهِ من تلكَ الملاهي الخوارق

الخميس، 2 مايو 2013

- رسالة آداب سلوك المريد

الحمدُ لله الذي يـَقـِذفُ إذا شاء في قلوب المُريدين لـَوْعَة الإرادة،فيزج بهم إلى سُلوك سَبيل السّعادة، التي هي الإيمانُ والعِبادة، وَمَحْوُ كلّ رَسمٍ وعَادة، و صلَّى الله و سلـَّم على سيـِّدنا مُحمَّدٍ سَيِّد أهلِ السِّيادة، وعلى آله و صحبهِ الـسَّادة الـقـَادة،
أمّا بعدُ:
فـَقد قال تعالى وهُو أصدقُ القائلين (مَنْ كـَانَ يـُرِيدُ العَاجـِلـَة عـَجـَّـلْـنا لـَهُ فِيها ما نـَشاءُ لـِمَنْ نـُريدُ ثـُمَّ جـَعـَلـْنا لـَهُ جَهنـَّمَ يـَصْلاها مـَذمُوماً مَدْحوراً وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لـَها سَعيَها وَهُوَ مُؤمنٌ فـَأولئكَ كانَ سَعْيُهُم مَشْكوراً).
والعاجِلة هي الدنيا، فإذا كانَ المُريدُ لها فضلاً عن السّاعي لِطلبها مَصيرُهُ إلى النار مَعَ التلوم و الصّغار، فما أجدَرَ العاقِلَ بالإعراضِ عنها، والاِحتراسِ مِنها، و الآخرةُ هي الجنة. ولا يَكفي في حُصُولِ الفـوزِ بها الإرادَة فقط بَل هي معَ الإيمان والعَملِ الصّالح المُشار إليه بِقوله تعالى (وَسَعى لـَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤمِنٌ)، والـسَّعي المَشكور هو العملُ المَقبول المُستوجِبُ صاحبُه المدحَ و الثـناء و الثّواب العظيم الذي لا ينقـَضي ولا يفنى بـِفضل الله ورَحمته، و الخاسِرُ مِن كلِّ وجهٍ مِن المُريدين للدنيا الذي يتحقـَّقُ في حقـِّه الوعيدُ المَذكور في الآية هو الذّي يُريد الدنيا إرادةً ينسى في جَنبـِها الآخرة فلا يـُؤمن بها، أو يـُؤمن و لا يعملُ لها. فالأوَّل كافرٌ خالدٌ في النار، و الثاني فاسقٌ موسومٌ بِالخَسار.

وقال رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلـّم "إنـّما الأعمالُ بـِالنـِّياتِ وإنـِّما لِكُلِّ اِمرِئٍ ما نـَوى فـَمَن كانـَت هِجرَتـُهُ إلى الله ورَسُولِه فـَهجرتـُه إلى الله ورَسولِه وَمَن كانت هِجرَتـُه إلى دُنيا يـُصيبُها أو امرأةٍ يـَنكِحُها فـَهجرتـَه إلى ما هاجَرَ إليه".

أَخبَر صلّى الله عليه و سلَّم أنـَّه لا عملَ إلا عن نـيّة، وأنَّ الإنسان بحسبِ ما نوى يـُثاب ويـُجزى إن خيراً فخير، وإن شرّاً فـشر، فمن حسنت نيّـتهُ حسن عمله لا محالة، ومن خَبُثت نِـيّته خَـبُثَ عمله لا محالة، وإن كان في الصورة طـيّباً كالذي يعمل الصّالحات تصنـّعاً للمخلوقين.

وأخبرَ عليه الصَّلاة والسلام أنّ من عمل لله على وِفقِ المُتابعة لِرسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم كان ثوابُه على الله وكان مُنـقلـبه إِلى رِضوانِ الله وَجنّته، في جِوارِ الله وخيرته، وأنَّ مَن قَصدَ غير الله وعمل لِغيرِ الله كان ثوابُه وجزاؤُه عند من تصنَّعَ له و راءى له مِمَّـن لا يملك له ولا لِنفسه ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نـُشوراً.

وخَصَّ الهِجرةَ عليه الصّلاةُ والسَّلام مِن بينِ سَائِرِ الأَعمال تَنبِيهاً على الكُلِّ بِالبعضِ لأنَّ مِن المعلومِ عند أُولي الأَفهام أنَّ الإِخبارَ ليسَ خاصّاً بالهجرَةِ بل هو عامٌّ في جميعِ شرائِعِ الإِسلام.

ثمّ أًقولُ : اِعلَم أَيـُّها الـمُريدُ الطالِبُ، والمتوجه الرَّاغبُ أنـَّك حين سأَلتَـني أَن أَبْعثَ إِليكَ بِشيءٍ مِنَ الكلامِ المنسوبِ إليَّ لم يـَحضُرني منه ما أَراهُ مُناسباً لما أنتَ بِسبيلهِ. وَقَد رأيْتُ أَنْ أُقَيـِّدَ فُصُولاً وَجِيزةً تَشتملُ على شيءٍ مِن آدابِ الإِرادةِ بِعبارةٍ سَلِسةٍ، والله أسألُ أن ينـفعني و إيَّـاك وسائِر الإِخوانِ بما يُوردُهُ عليَّ مِنْ ذَلِك ويُوصِلُهُ إِليَّ مِمَّا هُنالِك، فهو حَسبي ونِعمَ الوَكيلُ.

فـصـلٌ
اِعلم أنّ أوّل الطريق باعثٌ قويّ يُقذف في قلب العبد يُزعجه ويُقلقه ويـَحثّه على الإقبال على الله والدّارِ الآخرة، وعلى الإعراض عن الدُّنيا وعمّا الـخَلْـقُ مشغولون به مِن عَمارَتِـها وجَمعِها والتَّـمَتُّع بشهواتِها والاغتِرارِ بِزخَارِفها.

وهذا الباعِثُ مِن جنود الله الباطِنة، وهو مِن نَفحاتِ العِناية وأعلامِ الهِدايَة، وكثيراً ما يُفتَح بهِ على العبْدِ عِند التَخْويف والتّرغيب والتّشويق، وعِند النّظَرِ إلى أهل الله تعالى والنّظَرِ منهم، وقد يقعُ بِدون سببٍ.

والتّعرُّضُ للنَّفحات مأمورٌ به ومُرغَّبٌ فيه والانتِظار والاِرتِقاب بدون التَّعرُّض ولزوم الباب حُمقٌ وغَباوةٌ. كيف و قد قالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: "إنًّ لِرَبّكم في أيّام دهركُم نفحاتٍ ألاَ فتَعـرّضوا لها".

ومَن أكرَمه الله بهذا الباعِث الشَّريف فَليَعرِف قَدرَهُ المُنيف، وَلْيَعلَم أنـّهُ مِن أعظَم نِعَم الله تعَالى عليه التي لا يُقدّرُ قَدرُها ولا يُـبْلَغُ شُكرُها فَلْـيُبالِغ في شُكر الله تعالى على ما منَحه وأوْلاهُ، وخصّه به مِن بين أشكالِه وأقرانِه فَكم مِن مُسلمٍ بلَغَ عُمرُه ثمانين سنَةً وأكثر لم يجد هذا الباعِث ولم يطْرُقْهُ يوماً مِن الدّهر.

وعلى الـمُريد أن يجتهد في تَقْويَته وحِفظِه وإجابَته-أعني هذا الباعِث-فَتقوِيَته بالذّكر لله، والفِكر فيما عِند الله، والمُجالسة لأهل الله، وحِفظِه بالبُعد عَن مُجالسة المحجوبين والإعراضِ عَن وَسوَسة الشياطين، وإجابَتهِ بأن يُبادر بالإنابة إلى الله تعالى، ويَصْدُقَ في الإقبالِ على الله، ولا يَتَوَانى ولا يُسوِّف ولا يَتَباطَأ ولا يُؤَخِّر وقد أمكنَتْه الفُرصةُ فلْيَنتهِزها، وفُتِح له الباب فلْيَدخُل، ودَعاه الدّاعي فليُسرع وَلْيحذَر مِن غدٍ بعد غدٍ فإنّ ذلك مِن عمَل الشّيطان، ولْيُقبل ولا يَتَثبّط ولا يتَعلَّل بِعَدم الفَراغ وعدم الصّلاحِيّة.

قال أبو الرّبيع رحِمه الله: سِيروا إلى الله عُرْجاً وَمَكَاسِير ولا تَنتَظروا الصِّحة فإنّ انتظار الصِّحة بَطالَةٌ. وقال ابنُ عطاءِ الله في الحِكم: إحالَتُك العَمَل على وُجود الفراغِ مِن رُعوناتِ النّفوس.

فـصـلٌ
وَأوَّلُ شيءٍ يَبْدَأ به المُريدُ في طريق الله تصحيحُ التَّوبة إلى الله تعالى مِن جميع الذنوب وإنْ كان عَليه شيءٌ مِن المَظالِم لأحدٍ مِن الخَلق فَليُبادر بِأدائها إلى أربابها إن أمكن وإلا فيَطلُب الإحلال منهم، فإنّ الذي تكون ذمّـته مُرتَهنة بِحقوق الخَلق لا يُمكنه السّيرُ إلى الحقّ.

وشَرط صِحّة التّوبة صِدق النّدم على الذنوب معَ صِحّة العَزم على تَرْك العَوْد إليها مُدّة العُمر، ومَن تابَ عَن شيءٍ مِن الذنوب وهو مُصرٌّ عليه أو عازمٌ على العَوْد إليه فلا توبة له.

وَليكُن المُريد على الدوام في غايةٍ مِن الاِعتراف بالتَقصير عن القيامِ بما يجبُ عليه مِن حقِّ ربِّه، ومتى حزِنَ على تقْصيره وانكَسر قَلبه مِن أجله فليَعـلم أنَّ الله عندَهُ إذ يقول سُبحانه: أنا عِندَ المُنكَسِرةِ قُلُوبهم مِن أجلي.

وعلى المُريد أن يَحتَرِز مِن أصغَر الذنوب فضلاً عن أكبرها أشدّ مِن اِحترازِهِ مِن تَناولِ السُّم القاتِل، ويكون خوفُه لو ارْتكبَ شيئاً منها أعظم من خَوفه لو أكلَ السُّم، وذلكَ لأنّ المعاصي تعمل في القلوب عمَل السُّم في الأجسام، والقلبُ أعزُّ على المُؤمن مِن جِسمه بل رأس مالِ المُريد حِفظُ قلبه وعمارَتهُ. والجِسمُ غرضٌ للآفاتِ وعمّا قريبٍ يُتلَفُ بِالموتِ، وليس في ذهابِه إلا مُفارقةُ الدُّنيا النَّـكِدة النَّـغِصة وأمّا القلبُ إن تلِف فقد تلِفت الآخِرة فإنه لا ينجو مِن سخطِ الله ويفوزُ بِرِضوانه وثَوابه إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ.

فـصـلٌ

وعلى المُريد أن يَجتهِد في حفظِ قَلبه مِن الوَساوِس والآفات والخواطِر الرَّدِيَّة، وليُـقِم على بابِ قَلبه حاجِباً مِن المُراقبة يمنعُها مِن الدخولِ إليه فإنها إن دَخَلته أفسَدتهُ، ويَعـسُر بعد ذلك إخراجها مِنه.

وَليُبالِغ في تـَنقِية قَلبه الذي هو مَوضِعُ نَظَر ربِّه مِن المَيل إلى شَـهوات الدنيا، ومِن الحِقد والغِلِّ والغِشِّ لأحدٍ مِن المسلمين، ومِن الظـّـنّ السوء بأحدٍ منهم، وليكُن ناصحاً لهم رحيماً بهم مُشفقاً عليهم، مُعتقداً الخيرَ فيهم، يُحبُّ لهم ما يُحبُّ لنفسه مِن الخير، ويكرهُ لهم ما يكرهُ لِنفسه من الشر.

وَلتـَعْلم أيُّـها المُريد أنّ لِلقلبِ مَعاصي هِيَ أفحشُ وأقبحُ وأخبثُ مِن معَاصي الجوارِح ولا يَصلُح القلب لِنـزول معرفـَة الله ومحبـَّـته تعالى إلا بعد التـّخلي عنها و التـّخلُّص منها.

فمِن أفحشِها الكِبر و الرّياء والحسد. فالكِبر يدُ لُّ مِن صاحِبِه على غايةِ الحماقَة، ونهاية الجهالة والغباوةِ، وكيف يليقُ التكـَبُّر مِـمّن يعلم أنـّه مخلوقٌ مِن نُطفةٍ مَذِرةٍ وعلى القـُرب يصِير جِيفةً قذِرةً. وإن كان عِنده شيءٌ مِن الفضَائـِل والمحاسِن فذلك مِن فـَضل الله وصُنعه، ليس له فيه قـُدرةٌ ولا في تحصـيله حَولٌ ولا قوةٌ، أوَلا يخشى إذا تكبـّر على عبادِ الله بما آتاه الله مِن فـَضله أن يَسلُبـَه ما أعطاهُ بـِسوء أدبـِه ومُنازعتِه لِربـِّه في وَصفِه؟ لأن الكـِبر مِن صِفات الله الجـبّار المـُتَـكبّر.

وأمـّا الرِّياء فيَدُل على خُـلُوِّ قلبِ المـُرائي مِن عظمةِ الله وإجلاله لأنـّه يتصَنَّع و يتـزيَّـن للمخلوقين ولا يقنع بـِعلمِ الله ربِّ العالمين. ومَن عمـِل الصَّالِحات وأحبَّ أن يعرِفه النـّاس بذلك لِيـُعـظِّموه ويصطنِعوا إليه المعروف فهو مُراءٍ جاهـِلٌ راغـِبٌ في الدنيا، لأن الزّاهد مَن لو أقبَـل النـّاس عليه بِالتعظيم وبَذْلِ الأموالِ لكان يُعرض عن ذلك ويَكرهـُه، وهذا يطلـُبَ الدُّنيا بـِعملِ الآخـِرة فمن أجهلُ مِنهُ؟ وإذا لم يَقدِرْ على الزُّهدِ في الدُّنيا فَيَنبـغي لـَهُ أَن يَطلـُبَ الدُّنيا مِن المالِك لها، وهُوَ الله فإنَّ قـُلوبَ الخـَلائـِق بـِيَدهِ يـُقبـِلُ بها على مَن أقبلَ عليهِ و يـُسخـِّرها لهُ فِيما يشاءُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و أَمَّا الحَسَدُ فَهُوَ مُعاداةٌ للهِ ظاهِرةٌ، ومُنازعَةٌ له في مُلكِهِ بيِّنةٌ لأنـَّهُ سُبحانهُ إذا أَنعمَ على بعضِ عِبادِهِ بِنِعمةٍ فلا شكَّ أنـَّهُ مُريدٌ لِذلكَ ومُختارٌ لهُ إذْ لا مُكرِهَ لهُ تعالى، فإذا أرادَ العبْدُ خِلافَ ما أرادَ مَوْلاهُ فقد أساءَ الأدَبَ، واسْتَوجبَ العَطبَ. ثُمَّ إنَّ الحسَدَ قد يَكونُ على أمُورِ الدُّنيا كالجاهِ والمالِ، وهيَ أصغَرُ مِن أن يُحسدَ عليها بَل ينبغي لكَ أن تَرحمَ مَن اِبتُلِيَ بِها وتَحمَدَ اللهَ الذي عافاكَ مِنها، وقَد يكونُ على أمورِ الآخرةِ كالعِلمِ والصَّلاحِ.

وقَبيحٌ بِالمُريدِ أن يَحسدَ مَن وافَقَـهُ على طَريقِهِ، وعَاونَهُ على أمرِهِ، بل ينبَغي لهُ أن يَفرحَ بهِ لأنَّـهُ صارَ عَوْناً له وجِنساً يتقَوَّى بِهِ، والمؤمِنُ كثيرٌ بِأخيهِ، بل الذي يَنبغي لِلمُريدِ أن يُحِبَّ بِباطِنهِ ويَجتهِدَ بِظاهِرهِ في جَمْعِ النَّاسِ على طريقِ الله والاِشتِغالِ بِطاعتِه ولا يُبالي أَفضلوهُ أم فَضَلهُم فإنَّ ذلِكَ رِزقٌ مِنَ الله وهُو سُبحانَهُ وتَعالى يَختصُّ بِرحمتِهِ مَن يَشاءُ.

وفي القَلبِ أخلاقٌ كثيرةٌ مذمومةٌ، لم نذكُرها حِرصاً على الإيجازِ، وقد نـبَّهنا على أمّهاتِها، وأمُّ الجميعِ وأصلها ومَغرِسُها حُبُّ الدُّنيا فَحُبُّها رأسُ كُلِّ خطيئةٍ كما وَرَد، وإذا سَلِم القلبُ مِنهُ فقد صَلحَ وصفا، وتَنوَّر وطابَ، وتأهَّلَ لِوارِداتِ الأنوارِ وصَلُح لِلمُكاشفةِ بِالأسرارِ.

فـصـل

وعلى المُريد أن يَجتهِد في كَفِّ جَوارِحِهِ عنِ المَعاصي والآثامِ، ولا يُحرِّكَ شيئاً مِنها إلاّ في طاعةٍ، ولا يَعملُ بِها إلا شَيئاً يعودُ عليهِ نَفعُهُ في الآخِرةِ. وَلْيُبالِغ في حِفظِ اللّسانِ فإنّ جِرمَهُ صَغيرٌ وَجُرمُهُ كبيرٌ، فَلْيكُفَّهُ عنِ الكذبِ والغيبةِ وسائرِ الكلامِ المحظورِ، وَلْيحتَرِز مِن الكلامِ الفاحِشِ، ومِنَ الخَوضِ فيما لا يعنيهِ، وإن لم يَكُن مُحَرَّماً فإنـّه يُقـسِّي القلبَ، ويكونُ فيهِ ضياعُ الوقتِ، بل يَنبغي لِلمُريدِ أن لا يُحرّكَ لِسانهُ إلاّ بِتلاوةٍ أو ذِكرٍ أو نُصحٍ لِمُسلمٍ أو أمرٍ بِمعروفٍ أو نهيٍ عن مُنكرٍ أو شيءٍ مِن حَاجاتِ دُنياهُ التي يَستعينُ بها على أُخراهُ، وقَد قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ: "كُلّ كلامِ ابنِ آدَمَ عليهِ لا لهُ إلاّ ذِكرُ الله أوْ أمرٌ بمعروفٍ أو نهيٌ عن مُنكرٍ"

واعلم أنّ السّمع والبصَرَ بابانِ مَفتوحانِ إلى القلبِ يَصيرُ إليهِ كُلُّ ما يدخُلُ مِنهُما، وكم مِن شيءٍ يسمَعُهُ الإنسانُ أو يَراهُ مِمّا لا يَنبغي يَصِلُ مِنهُ أثرٌ إلى القلبِ تَعْسُرُ إزالتُهُ عنهُ فإنّ القلبَ سَريعُ التأثُّرِ بِكُلِّ ما يَرِدُ عليهِ، وإذا تأثّرَ بشيءٍ يَعسُرُ مَحوُهُ عنهُ، فَلْيكُنِ المُريدُ حريصاً على حِفظِ سمعِهِ وبصَرِهِ مُجتهداً في كفِّ جَميعِ جَوارِحِهِ عن الآثامِ والفَضولِ، وليحذَرْ من النَّظرِ بِعَينِ الاِستحسانِ إلى زَهرةِ الدُّنيا وزينَتها فإنّ ظاهِرَها فِتنةٌ، وباطِنَها عِبرَةٌ. والعَينُ تَنظُرُ إلى ظاهِرِ فِتنَتِها والقلبُ يَنظُرُ إلى باطِنِ عِبرَتِها، وكم مِن مُريدٍ نَظرَ إلى شيءٍ مِن زَخارِفِ الدُّنيا فمَالَ بِقلبِهِ إلى مَحبَّتِها والسّعيِ في جَمعِها

وعَمارَتِها، فيَنبغي لكَ أيُّها المُريدُ أن تَـغُـضَّ بَصرَكِ عَن جَميعِ الكائِناتِ ولا تنظُرَ إلى شيءٍ مِنها إلا على قصدِ الاِعتبارِ، ومعناهُ أن تذكُرَ عِندَ النّظَرِ إليها أنـَّها تَفنى وتَذهبُ وأنها قد كانَت مِن قَبلُ مَعدومةً، وأنـَّهُ كَم نَظَر إليها أحدٌ مِنَ الآدميِّينَ فذهَبَ وبَقِيَت هِيَ، وكَم تَوارَثها خَلفٌ عن سَلفٍ. وإذا نظَرْتَ إلى الموجوداتِ فانظُر إليها نَظَر المُستدِلِّ بِها على كَمالِ قُدرةِ مُوجِدِها وبارِئِها سُبحانَهُ، فإنّ جميعَ الموجوداتِ تُنادِي بِلسانِ حالِها نِداءً يَسمعُهُ أهلُ القُلوبِ المُنَوَّرةِ، النّاظِرونَ بِنورِ اللهِ- أن لاَ إِله إلاّ اللهُ العزيزُ الحكيمُ.

فـصـلٌ

ويَنبغي لِلمُريد أَن لاَ يزَالَ على طهَارةٍ، وكُلَّما أحدثَ تَوضَّأ وصلَّى ركعَتين، وإن كانَ مُتَأهِّلاً وأتى أهلَهُ فليـُبادِر بِالاِغتِسالِ مِنَ الجَنابةِ في الوَقتِ، ولاَ يمكُث جُنُباً، وَيستَعينُ عَلى دَوامِ الطَّهارَةِ بِقِلَّةِ الأكلِ، فإنَّ الّذي يُكثِرُ الأكلَ يقَعُ لهُ الحَدثُ كثيراً فَتشُقُّ عليهِ المُداوَمةِ على الطَّهارةِ، وفي قِلَّةِ الأكلِ أيضاً مَعونَةٌ على السّهَرِ وهُو مِن آكَدِ وظائِف الإِرادةِ.

والّذي يَنبغي لِلمُريدِ أن لا يأكُلَ إلا عن فاقةٍ، ولاَ ينامَ إلا عن غَلبَةٍ، ولاَ يَتكلَّمَ إلا في حاجَةٍ، ولاَ يُخالِطَ أحداً مِنَ الخَلقِ إلا إن كانِت لهُ في مُخالَطتِهِ فائدةٌ، ومَن أكثَرَ الأكلَ قَسا قَلبُه، وثَقُلَتْ جَوارِحُهُ عَنِ العِبادةِ، وكَثْرةُ الأكلِ تَدعو إلى كَثرةِ النَومِ والكلامِ، والمُريدُ إذا كُثُرَ نَومُهُ وكَلامُهُ صارَت إرادَتهُ صورةً لاَ حَقيقةَ لها، وفي الحديثِ:

"ما مَلأَ ابنُ آدمَ وِعاءً شرّاً مِن بَطنِهِ، حَسبُ ابنِ آدمَ لُقيماتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ فإن كانَ لاَ مَحالةَ فَـثُلثٌ لِطعامِه وثُلثٌ لِشَرابِه وثُلثٌ لِنَفَسِه".

فـصـلٌ

ويَنبغي لِلمُريد أَن يكونَ أَبعدَ النَّاسِ عنِ المَعاصي والمَحظوراتِ، وأَحفَظهُم لِلفَرائِضِ والمَأموراتِ، وأحرَصَهُم على القُرُباتِ، وأسرَعَهُم إلى الخَيراتِ، فإنّ المُريدَ لَم يَتَميَّزَ عن غَيرِهِ مِن النّاسِ إلا بالإقبالِ على الله وعلى طاعَتهِ، والتَّفرُّغِ عن كُلِّ ما يُشغِلُهُ عن عِبادَتِهِ. ولِيكُن شَحيحاً على أنفاسِهِ، بَخيلاً بِأوقاتِهِ، لاَ يَصرِفُ مِنها قليلاً ولا كَثيراً، إلا فِيما يُقَرِّبهُ مِن ربّهِ، ويَعودَ عَليهِ بِالنَّفعِ في معَادِهِ.

ويَنبغي أن يكونَ لهُ وِرْدٌ مِن كُلِّ نوعٍ مِن العِباداتِ يُواظِبُ عليها، ولا يسمَح بِتَركِ شيءٍ مِنها في عُسرٍ ولاَ يُسرٍ، فَلْـيُكثِر مِن تِلاوةِ القُرآنِ العظيمِ مَع التَدبُّرِ لِمعانيهِ، والتَّرتيلِ لألفاظِه، وليكُن مُمتلِئاً بِعَظمةِ المُتكَلِّم عِند تِلاوةِ كَلامِه، ولاَ يَقرأُ كَما يَقرأُ الغافِلون الذينَ يَقرؤونَ القرآنَ بِألسِنةٍ فصيحةٍ وأصواتٍ عالِيَةٍ وقلوبٍ مِنَ الخُشوعِ والتَعظيمِ لله خاليةٍ، يَقرَؤونهُ كما

أُنزِلَ مِن فاتِحتِه إلى خاتِمَتِه ولاَ يدرونَ مَعناهُ، ولاَ يعلَمونَ لأيِّ شيءٍ أُنزِلَ، ولَو عَلِموا لَعمَلوا، فإنّ العِلمَ ما نَفعَ، ومَن عَلِمَ وما عَمِلَ فَلَيسَ بينهُ وبَينَ الجاهِلِ فَرقٌ إلا مِن حيثُ إنّ حُجَّةَ الله عليهِ آكَدُ، فَعَلى هذا يَكونُ الجاهِلُ أَحسنُ حالاً منه، ولِذلِك قيلَ: كُلُّ عِلمٍ لاَ يَعودُ عَليكَ نَفعُهُ فَالجَهلُ أَعوَدُ عَليكَ مِنهُ. ولِيكُن لكَ- أيّها المُريدُ- حَظٌّ مِن التَّهجُّدِ فإنّ اللَّيلَ وَقتُ خَلوةِ العَبدِ معَ مَولاهُ فأكثِر فيهِ مِن التَّضرُّعِ والاِستِغفارِ، وناجِ ربَّكَ بِلِسانِ الذِّلّةِ والاِضطِرارِ، عَن قلبٍ مُتحقّقٍ بِنِهايةِ العَجزِ وغايَةِ الاِنكِسارِ، واحذَر أن تَدعَ قِيامَ الليلِ فلا يأتي علَيك وقتُ السَّحرِ إلا وأنتَ مُستيقِظٌ ذاكِرٌ لله سُبحانَهُ وتعالى.

فـصـلٌ

وكُن-أيُّها المُريدُ- في غايَةِ الاِعتِناءِ بِـإِقامةِ الصّلواتِ الخَمسِ بإتمامِ قِيامِهِنَّ وقِراءَتِهنّ وخُشوعِهنّ ورُكوعِهنّ وسُجودِهنّ وسائِرِ أركانِهِنّ وسُنَنِهنّ وأشعِر قَلبكَ قَبلَ الدُّخولِ في الصّلاةِ عَظمةَ مَن تُريدُ الوُقوفَ بَينَ يَديهِ جلَّ وعلا، واحذَر أن تُناجِيَ مَلِكَ المُلوكِ وجبّارِ الجبابِرةِ بِقلبٍ لاهٍ مُستَرسِلٍ في أوديةِ الغَفلةِ والوَساوِسِ جائِلٍ في مَيادينِ الخَواطِرِ والأفكارِ الدُّنيَويّةِ، فَتَستوجِبَ المَقتَ مِن الله، والطَّردَ عن بابِ الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد قالَ عَليهِ الصّلاةُ والسّلامُ "إذا قامَ العَبدُ إلى الصّلاةِ أَقبلَ الله عَليهِ بِوَجههِ فإذا التَفتَ إلى ورائِهِ يَقولُ الله تعالى: ابنُ آدمَ التَفَتَ إلى مَن هُو خيرٌ لهُ مِنّي، فإن التَفَتَ الثّانيةَ قالَ مِثلَ ذلِكَ فإن التَفَتَ الثّالِثةَ أعرَضَ الله عَنهُ" فإذا كانَ المُلتفِتُ بِوَجهِهِ الظّاهِرِ يُعرِضُ الله عَنهُ فكيفَ يَكونُ حالُ مَن يَلتفِتُ بِقَلبِهِ في صلاتهِ إلى حُظوظِ الدُّنيا وزخارِفِها، والله سُبحانهُ وتعالى لاَ ينظُرُ إلى الأجسامِ والظّواهِرِ وإنّما ينظُرُ إلى القُلوبِ والسّرائِرِ.

واعلَم أنّ رُوحَ جَميعِ العِباداتِ ومَعناها إنّما هُو الحضُورُ معَ الله فيها، فَمن خَلت عِبادَتُهُ عنِ الحُضورُ، فعِبادتُهُ هباءٌ منثورٌ. ومثَلُ الّذي لاَ يَحضُرُ مَع الله في عِبادتهِ مَثلُ الذي يُهدي إلى ملِكٍ عظيمٍ وَصيفةٍ ميّتَةً أو صٌندوقاً فارغاً، فما أجدرُهُ بِالعقوبةِ وحِرمانِ المثوبةِ.

فـصـلٌ

واحذَر أيُّها المُريدُ كلَّ الحذَرِ مِن تَركِ الجمُعةِ والجَماعاتِ، فإِنَّ ذلكَ مِن عاداتِ أَهلِ البَطالاتِ وسِماتِ أَربابِ الجهالاتِ. وحَافِظ على الرَّواتبِ المشروعاتِ قَبلَ الصَّلاةِ وبَعدها، ووَاظِب على صَلاةِ الوَترِ والضُّحى وإِحياءِ ما بينَ

العِشاءين، وكُن شَديدَ الحِرصِ على عَمارةِ ما بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ إلى الطُّلوعِ، وما بَعدَ صَلاةِ العَصرِ إِلى الغُروبِ فهذانِ وَقتانِ شَريفانِ تَفيضُ فيهما مِنَ الله تَعالى الأمدادُ، على المُتوجِّهينَ إِليه مِنَ العِباد.

وفي عَمارةِ ما بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ خَاصِّيةً قَوِيَّةً في جَلبِ الأَرزاقِ الجِسمانيَّةِ، وفي عَمارةِ ما بَعدَ العَصرِ خَاصِّيةً قَويَّةً لِجَلبِ الأرزاقِ القَلبِيَّةِ، كَذلكَ جَرَّبهُ أَربابُ البَصائرِ مِنَ العارفينَ الأَكابِرِ. وفي الحدَيثِ "إِنَّ الَّذي يَقعُدُ في مُصلَّاهُ يَذكُرُ الله بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ أَسرَعُ في تحصيلِ الرِّزقِ مِنَ الَّذي يَضرِبُ في الآفاقِ" أَعني يُسافِرُ فيها لِطلبِ الأَرزاقِ.

فـصـلٌ

والَّذي عَليهِ الـمُعَوَّلُ في طَريقِ الله تَعالى بَعدَ فِعلِ الأَوامِرِ واِجتِنابِ المحارِمِ مُلازَمةُ الذِّكرِ لله فَعليكَ بِهِ أَيُّها المُريدُ في كُلِّ حالٍ وفي كُلِّ وَقتٍ وفي كُلِّ مَكانٍ بِالقَلبِ والِّلسانِ. والذِّكرُ الذي يجمَعُ جميعَ مَعاني الأَذكارِ وثَمراتِها الباطِنةِ والظَّاهِرةِ هُوَ قَولُ "لاَ إِلهَ إِلاَّ الله" وهُوَ الذِّكرُ الذي يُؤمَرُ بِمُلازَمتِهِ أَهلُ البِدايةِ ويَرجِعُ إِليهِ أَهلُ النِّهايةِ. ومَن سَرَّهُ أَن يَذوقَ شَيئاً مِن أَسرارِ الطَّريقَةِ ويُكاشَفُ بِشيءٍ مِن أَنواعِ الحَقيقةِ فَلْيـَعكِفْ على الذِّكرِ لله تَعالى بِقَلبٍ حاضِرٍ، وَأَدَبٍ وَافِرٍ، وإِقبالٍ صادِقٍ، وتَوجيهٍ خارِقٍ. فَما اجتَمَعت هذِهِ المَعاني لِشَخصٍ إِلاَّ كُوشِفَ بِالـمَلَكوتِ الأَعلى وطالَعت رُوحُهُ حَقائِقَ العالَمِ الأَصفى وشاهَدَت عَينُ سِرِّهِ الجَمالَ الأَقدَسَ الأَسمَى. وَلْتَكُن أَيُّها المُريدُ مُكثِراً مِنَ التَّفكُّر،ِ وهُو على ثَلاثةِ أَقسامٍ:

1. تَفكُّرٌ في عَجائِبِ القُدرَةِ وبَدائِعِ المَملَكةِ السَّماوِيَّةِ والأَرضِيَّةِ، وثَمَرتُهُ المَعرِفةِ بِالله.

2. وتَفكُّرٌ في الآلاَءِ والنِّعمِ، ونَتيجَتهُ الـمَحبَّةُ لله.

3. وتفَكُّرٌ في الدُّنيا والآخِرةِ وأَحوالِ الخَلقِ فِيهما وفائِدَتُهُ الإِعراضُ عَنِ الدُّنيا، والإِقبالُ على الأُخرى،

وقَد شَرحنا شَيئاً مِن مـَجارِي الفِكرِ وثَمَرتِهِ في رِسالةِ الـمُعاوَنةِ فَلْيَطلُبُهُ مَن أَرادَهُ.

فـصـلٌ

وإِذا آنَستَ مِن نَفسِكَ أَيُّها المُريدُ تَكاسُلاً عَنِ الطَّاعاتِ وتَثاقُلاً عَنِ الخَيراتِ فَقُدها إِليها بِزمامِ الرَّجاءِ، وهُو أَن تَذكُرَ لها ما وَعدَ الله بِهِ العامِلينَ بِطاعَتِهِ مِن الفَوزِ العَظيمِ والنَّعيمِ المُقيمِ والرَّحمةِ والرُّضوانِ، والخُلودِ في فَسيحِ الجِنانِ، والعِزِّ والرِّفعةِ والشَّرفِ والَمكانةِ عِندَهُ سُبحانهُ وعِندَ عِبادهِ.

وإِذا أَحسَستَ مِن نَفسِك مَيلاً إِلى المُخالفاتِ أَو اِلتِفاتاً إِلى السَّيِّئاتِ فَرُدَّها عَنها بِسوطِ "الخَوفِ" وهُو أَن تُذَكِّرَها وتَعِظها بِما تَوَّعدَ الله بِهِ مَن عَصاهُ مِنَ الهَوانِ والوَبالِ، والخِزيِ والنَّكالِ، والطّردِ والحِرمانِ والصَّغارِ والخُسرانِ. وإِيَّاكَ والوُقوعَ فِيما وَقعَ فِيه بَعضُ الشَّاطِحين مِن الاِستِهانَةِ بِشأنِ الجنَّةِ والنَّارِ، وعَظِّم مَا عَظَّمَ الله ورَسولُه.

واعمَل لله لأَنَّهُ رَبُّكَ وأَنتَ عَبدُهُ وَاسأَلهُ أَن يُدخِلكَ جَنَّـتهُ وأَن يُعيذَكَ مِن نارِهِ بِفَضلِهِ ورَحمِتهِ. وَإِن قالِ لكَ الشَّيطانُ لَعنهُ الله إِنَّ الله سُبحانَه وتَعالى غَنـِيٌّ عَنكَ وعَن عَملِكَ ولاَ تَنفَعُهُ طاعَتُكَ ولاَ تَضُرُّهُ مَعصِيَتُكُ فَقُل لَهُ صَدقتَ، وَلكِن أَنا فَقيرٌ إِلى فَضلِ الله وإِلى العَملِ الصَّالِحِ، والطَّاعةُ تَنفَعُني وَالَمعصِيَةُ تَضُرُّني، بِذلكَ أَخبَرني رَبِّي في كِتابِهِ العَزيزِ وعَلى لِسانِ رَسولِهِ صلَّى الله عليهِ وَسلَّم.

فَإِن قالَ لكَ : إِن كُنتَ سَعيداً عِندَ الله فإِنَّك لا مَحالةَ تَصيرُ إِلى الجنَّةِ سواءً كُنتَ طائِعاً أَو عاصِياً، وإِن كُنتَ شَقِيّاً عِندهُ فسَوفَ تَصيرُ إِلى النَّارِ وإِن كُنتَ مُطِيعاً. فَلا تَلتَفِت إِلى قَولِهِ، وذَلكَ لأَنَّ أَمرَ السَّابِقَةِ غَيبٌ لاَ يَطَّلِعُ عَليهِ إِلاَّ الله وَلَيسَ لأَِحدٍ مِنَ الخَلقِ فيه شَيءٌ، والطَّاعَةُ أَدَلُّ دَليلٍ عَلى سَابِقةِ السَّعادةِ، ومَا بَينَ المُطيعِ وبَينَ الجَنَّةِ إِلاَّ أَن يَموتَ عَلى طَاعَتِهِ، وَالمَعصِيةُ أَدَلُّ دَليلٍ عَلى سابِقَةِ الشَّقاء، ومَا بَينَ العاصِي وبَينَ النَّارِ إِلاَّ أَن يَموتَ عَلى مَعصِـيـَتِهِ.

فـصـلٌ

واعلَم -أيهُّا المُريدُ- أنَّ أَوَّلَ الطَّريقِ صَبرٌ وآخِرَها شُكرٌ، وأَوَّلَها عَناءٌ وآخِرها هَناءٌ، وأَوَّلَها تَعبٌ ونَصبٌ وآخِرَها فَتحٌ وكَشفٌ وَوُصولٌ إِلى نِهايَةِ الأَرَبِ، وذَلكَ مَعرِفَةُ الله وَالوصُولِ إِليهِ والأنسُ بهِ والوُقوفُ في كَريمِ حَضرَتِهِ مَعَ مَلائِكتهِ بَينَ يَدَيهِ، ومَن أَسَّسَ جَميعَ أمورِهِ عَلى الصَّبرِ الجَميلِ حَصلَ عَلى كُلِّ خَيرٍ وَوَصلَ إِلى كُلِّ مَأمولٍ وظَفِرَ بِكُلِّ مَطلوبٍ.

واعلَم أنَّ النَّفسَ تَكونُ في أوَّلِ الأَمرِ أمَّارةً تَأمُرُ بالشَّرِّ وتَنهى عَنِ الخَيرِ، فإِن جاهَدَها الإِنسانُ، وصَبَرَ عَلى مُخالَفةِ هَوَاها صَارَت لَوَّامةً مُتَلَـوِّنةً لَها وَجهٌ إِلى المُطمَئـِنَّةِ ووَجهٌ إِلى الأَمَّارةِ فهي مَرَّةً هَكذا وَمَرَّةً هكَذا، فإِن رَفقَ بِها وسَارَ بِها يَقُودُها بِأَزِمَّةِ الرَّغبَةِ فِيما عِندَ الله صارَت مُطمئِنَّةً تَأمُرُ بِالخَيرِ وتَستلِذُّهُ وتَأنَسُ بِهِ، وتَنهى عَنِ الشَّرِّ وتَنفِرُ عَنهُ وتَفِرُّ مِنهُ.

وصَاحبُ النَّفسِ المُطمئـِنَّةِ يَعظُمُ تَعجُّـبُهُ مِن النَّاس في إِعراضِهم عَنِ الطَّاعاتِ مَعَ مَا فيها مِنَ الرَّوحِ والأُنسِ واللَّذةِ، وفي إِقبَالِهم عَلى المَعاصِي والشَّهواتِ مَعَ ما فيها مِن الغَمِّ والوَحشَةِ والمَرارَةِ، وَيَحسَبُ أَنَّهُم يَجِدونُ وَيَذوقونَ في الأَمرَينِ مِثلَ ما يَجِدُ وَيَذوقُ ثُمَّ يَرجِعُ إِلى نَفسِهِ ويَذكُرُ ما كانَ يَجِدُ مِن قَبلُ في تَناوُلِ الشَّهواتِ مِنَ اللَّذاتِ و في فِعلِ الطَّاعاتِ مِن المَراراتِ فيَعلمُ أَنَّهُ لَم يَصِل إِلى ما هُو فيه إِلاَّ بِمُجاهَدةٍ طَويلةٍ وَعِنايَةٍ مِنَ الله عَظيمَة. َقد عَلِمتَ أَنَّ الصَّبرَ عَنِ المَعاصي وَالشَّهواتِ وعَلى مُلازمَةِ الطَّاعاتِ هُو المُوَصِّلُ إِلى كُلِّ خَيرٍ والمُبلِّغُ إِلى كُلِّ مَقامٍ شَريفٍ وحَالٍ مُنيفٍ، وكَيفَ لاَ وقَد قالَ سُبحانَهُ وتَعالى : (يَا أيُّها الَّذين آمَنوا اصبِرُوا وَصابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا الله لَعَلَّـكُم تُـفلِحُون). وقالَ تَعالى (وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسنَى عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ بِما صَبَرُوا) وَقالَ (وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُون). وفي الحَديثِ "مِن أَقَلِّ مَا أوتِيتُم اليَقينُ وَعَزِيمَةُ الصَّبرِ وَمَن أوتِيَ حَظَّهُ مِنهُمَا فَلا يُبالِي بِما فَاتَهُ مِن قِيامِ اللَّيلِ وصِيامِ النَّهارِ".

فـصـلٌ

وقَد يُبتَلَى المُريدُ بِالفَقرِ والفاقَةِ وضِيقِ المَعيشَةِ فَينبَغي لَهُ أَن يَشكُر الله عَلى ذَلِك وَيَعدُّهُ مِن أعظَم النِّعَمِ، لأنَّ الدُّنيا عَدوَّةٌ والله يُقبِلُ بِها على أَعدائِه ويَصرِفُها عَن أَوليائِهِ، فَليَحمدِ الله الذي شَبَّهَهُ بِأَنبِيائِهِ وأَولِيائِهِ وعِبادِهِ الصَّالِحين، فَلَقد كَان سيِّدُ المُرسَلينَ وخَيرُ الخَلقِ أَجـمَعينَ مُحمَّدٌ صَلَّى الله عليهِ وَسَلَّمَ يَربِطُ حَجراً على بَطنِهِ مِنَ الجوعِ، وَقد يَمُرُّ شَهرانِ أَو أَكثرُ ما تُوقَدُ في بَيتهِ نَارٌ لِطعَامٍ ولاَ غيرهِ إِنَّما يَكونُ على التَّمرِ والماءِ، ونَزلَ بهِ ضَيفٌ فأَرسلَ إِلى أَبياتهِ التِّسعِ فَلم يُوجَد فيها ما يُطعِمُهُ الضَّيفَ. ومَاتَ يَومَ مَاتَ ودِرعُهُ مَرهونَةٌ عِندَ يَهوديٍّ في أَصْوُعٍ مِن شَعيرٍ ولَيس في بَيتهِ ما يأكُلهُ ذو كَبدٍ كَفٌّ مِن شَعيرٍ، فَليَكُن قَصدُكَ-أيُّها المُريدُ- وهِمَّتـُكَ مِن الدُّنيا خِرقةٌ تَستُرُ عَورَتك، وَلُقمةٌ تَسُدُّ بِها جَوعَتَك مِن الحلالِ فَقط.

وإيَّاكَ والسُّمَّ القاتِلَ، وهُو أَن تَشتاقَ إِلى التـَّنعـُّمِ بِالدُّنيا وتَرغَبَ في التَّمـتُّع بِشهَواتِها وتَغبِطَ المـُتَنعـِّمينَ بِها مِن النَّاسِ، فسَوف يُسأَلونَ عَن نَعيمِها ويُحاسَبُونَ علَى ما أَصَابُوهُ وتَمتُّـعوا بِهِ مِن شهَواتِها.

ولَو أنَّكَ عَرفتَ الـمَشاقَّ الَّتي يُقاسونَها والغُصَصَ الَّتي يَتَجرَّعونَها والغـُمومَ والـهُمُومَ التي في قٌلوبِهم وصُدورِهم في طَلبِ الدُّنيا وفي الحِرصِ على تَنمِيَتها والاِعتِناءِ بِحفظِها، لَكُنتَ تَرى ذلكَ يَزيدُ بِأضعافٍ كَثيرةٍ على ما هُم فيهِ مِن لَذّةِ التَّنعُّمِ بِالدُّنيا إِن كانَت ثَمَّ لَذّةٌ، ويَكفيكَ زاجِراً عَن محَبَّةِ الدُّنيا ومُزهِّداً فيها قَولُه تعَالى (ولَوْلآ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدةً لَجَعلنَا لِمَن يَكفُرُ بِالرَّحمَنِ لِبِيُوتِهِم سُقُفاً مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيها يَظْهَرُونَ وَلِبِيُوتِهِم أَبْوَاباً وَسُرُراً عَليَها يَتِّكِئُونَ وَزُخرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلكِ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنيا وَالآخِرةُ عِندَ رَبِّكَ لِلمُتَّقِينَ).

وقَولُ رَسولِ الله صلَّى الله عَليهِ وَسلَّمَ: "الدُّنيا سِجنُ الـمُؤمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ، وَلَو كانَت تَزِنُ عِندَ الله جَناحَ بَعُوضةٍ مَا سَقى كافِراً مِنها شَربَةَ ماءٍ". وأَنَّهُ سُبحانَهُ مُنذُ خَلَقها مَا نَظرَ إِليهَا.

واَعلَم أَنَّ الرِّزقَ مُقَدَّرٌ وَمَقسومٌ فَمِنَ العِبادِ مَن بُسِطَ لَهُ وَوُسِّعَ عَليهِ، وَمِنهُم مَن ضُيِّقَ عَليهِ وَقُتِّرَ، حِكمَةٌ مِنَ الله.

فَإِن كُنتَ-أَيُّها المُريدُ- مِنَ المُقَتَّرِ عَليهم فَعلَيكَ بِالصَّبرِ والرِّضا والقَناعةِ بِما قَسمَ لَكَ رَبُّكَ، وإِن كُنتَ مِنَ المُوَسَّعِ عَليهم فَأَصِب كِفَايَتَكَ وَخُذ حاجَتَكَ مِمَّا في يَدِكَ، وَاصرِف مَا بَقِيَ في وُجُوهِ الخَيرِ وسُبُلِ البِّرِّ.

وَاعلَم أَنَّهُ لا يَتَـعَيَّنُ على الإِنسانِ إِذا أَرادَ الدُّخولَ في طَريقِ الله أَن يَخرُجَ مِن مَالِهِ إِن كانَ لَهُ مَالٌ أَو يَترُكَ حِرفَتهُ وَتِجارَتَهُ إِن كانَ مُحترِفاً أَو مُتَّجِراً بَل الذَّي يَتعيَّنُ عليهِ تَقوى الله فِيما هُوَ فِيهِ وَالإِجمالُ في الطَّلبِ بِحيثُ لا يَترُكُ فَريضَةً وَلا نَافِلةً، وَلا يَقعُ في مُحرَّمٍ وَلا فَضُولٍ لا تَصلُحُ الاِستِعانَةُ بِهِ في طَريقِ الله.

فإِن عَلِمَ المُريدُ أنَّهُ لا يَستقيمُ قَلبُهُ وَلا يَسلَمُ دِينَهُ إِلاَّ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ المَالِ وَعنِ الأَسبابِ البتَّةَ لَزِمهُ ذَلكَ، فإِن كانَ لَهُ أَزواجٌ أَو أَولادٌ تَجِبُ نَفقَتُهُم وَكِسوَتُهُم لَزِمَهُ القِيامُ بِذلكَ وَالسَّعيَ لَهُ، فإِن عَجِزَ عَن ذلكَ عَجزاً يَعذُرُهُ الشَّرعُ فَقَد خَرَجَ مِنَ الحَرَجِ وَسَلِمَ مِنَ الإِثمِ.

وَاعلَم أَيُّها المُريدُ أَنَّكَ لا تَقدِرُ عَلى مُلازَمةِ الطَّاعاتِ وَمُجانَبةِ الشَّهواتِ والإِعراضِ عَنِ الدُّنيا إِلاَّ بِأَن تَستَشعِرَ في نَفسِكَ أَنَّ مُدَّةَ بَقائِكَ في الدُّنيا أَيَّامٌ قَلِيلةٌ، وأَنَّكَ عَمَّا قَرِيبٍ تَموتُ، فَتَنصِبَ أَجَلكَ بَينَ عَينَيكَ، وَتَستَعِدَّ لِلمَوتِ وَتُقَدِّرَ نُزولَهُ بِكَ في كُلِّ وَقتٍ.

وَإِيَّاكَ وَطُولَ الأَمَلِ فإِنَّهُ يَميلُ بِكَ إِلى مَحَبَّةِ الدُّنيا، وَيُثَـقِّلُ عَليكَ مُلازَمةِ الطَّاعاتِ والإِقبالَ علَى العِبادَةِ، والتَّجَرُّدَ لِطرَيقِ الآخِرةِ، وَفي تَقديرِ قُربِ الَموتِ وقِصَرِ المُدَّةِ الخَيرُ كُلَّهُ، فَعليكَ بِهِ، وَفَّقنَا الله وَإِيَّاكَ.

فـصـلٌ

وَرُبَّمَا تَسلَّطَ الخَلقُ عَلى بَعضِ المُرِيدينَ بِالإِيذاءِ وَالجَفاءِ وَالذَّمِّ، فإِن بُليتَ بِشيءٍ مِن ذَلكَ فَعلَيكَ بِالصَّبرِ وَتَركِ المُكاَفَأةِ مَعَ نَظافَةِ القَلبِ مِنَ الحِقدِ وَإِضمارِ الشَّرِّ، وَاحذَر الدُّعاءَ عَلى مَن آذاكَ وَلاَ تَقُل إِذا أَصابَتهُ مُصيبَةٌ هَذا بِسبَبِ أذَاهُ لِي.

وَأفضَلُ مِنَ الصَّبرِ عَلى الأَذى العَفوُ عَنِ المُؤذِي وَالدُّعاءُ لَهُ وَذَلِكَ مِن أَخلاقِ الصِّدِّيقينَ. وَعُدَّ إِعراضَ الخَلقِ عَنكَ نِعمَةً عَليكَ مِن رَبِّكَ فإِنَّهم لَو أَقبَلوا عَليكَ رُبَّما شَغلُوكَ عَن طَاعتِهِ، فإِن ابْتُليتَ بِإِقبالِهِم وَتَعظِيمهِم وَثَنائِهِم وتَرَدُّدِهِم عَليكَ، فَاحذَر مِن فِتنَتهِم وَاشكُرِ اللهَ الذَّي سَترَ مَساوِيكَ عَنهُم.

ثُمَّ إِن خَشِيتَ عَلى نَفسِكَ مِنَ التَّصَنُّعِ وَالتَّزَيُّنِ لَهم وَالاِشتِغالِ عَنِ الله بِمُخالَطَتهِم فَاعتَزِلهُم وَأَغلِق بَابَكَ عَنهُم، وَإِلاَّ فارِق المَوضِعَ الذَّي عُرِفتَ بِهِ إِلى مَوضِعٍ لاَ تُعرَفُ فِيهِ. َكُن مُؤثِراً لِلخُمولِ، فَارّاً مِنَ الشُّهرةِ والظُّهُورِ، فإِنَّ فِيهِ الفِتنَةُ وَالِمحنَةُ. قالَ بَعضُ السَّلفِ: وَالله مَا صَدَقَ اللهَ عَبدٌ إِلاَّ أَحَبَّ أَن لاَ يُشعَرَ بِمَكانِهِ. َقالَ آخرُ: مَا أَعرِفُ رَجُلاً أَحَبَّ أَن يَعرِفَهُ النَّاسُ إِلاَّ ذَهَبَ دِينُهُ وَافتَضَحَ.

فـصـلٌ

وَاجتَهِد أيُّها المُريدُ في تَنـزِيهِ قَلبِكَ مِن خَوفِ الخَلقِ وَمِنَ الطَّمَعِ فِيهم فِإِنَّ ذَلكَ يَحمِلُ عَلى السُّكوتِ عَلى البَّاطِلِ وَعَلى المُداهَنةِ في الدِّينِ، وَعلَى تَركِ الأَمرِ بِالَمعروفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، وَكفَى بِهِ ذُلاًّ لِصاحِبِهِ لأِنَّ المُؤمِنَ عَزيزٌ بِرَبِّهِ لاَ يَخافُ وَلا يَرجُو أَحداً سِواهُ.
 إِن وَصَلكَ أَحدٌ مِن إِخوانِكَ المُسلمينَ بِمَعروفٍ مِن وَجهٍ طَيِّبٍ فَخُذهُ إِن كُنتَ محُتاجاً إِليهِ وَاشكُرِ الله فإِنَّهُ المُعطِي حَقيقَةً وَاشكُر مَن أَوصَلَهُ إِليكَ عَلى يَدهِ مِن عِبادِهِ،

وإِن لَم تَكُن لكَ حَاجةٌ إِليهِ فَانظُر فإِن وَجَدتَ الأَصلَحَ لِقَلبِك أَخذَهُ فَخُذهُ، أَو رَدَّهُ فَرُدَّهُ بِرفقٍ بِحيثُ لاَ يَنكَسِرُ قَلبُ المُعطِي فَإِنَّ حُرمَةَ المُسلِمَ عِندَ الله عَظيمةٌ.

وَإِيَّاكَ وَالرَّدَّ لِلشُهرَةِ وَالأَخذَ بِالشَّهوَةِ، وَلأَن تَأخُذَهُ بِالشَّهوَةِ خَيرٌ لَكَ مِن أَن تَرُدَّهُ لِلشُّهرَةِ بِالزُّهدِ وَالإِعراضِ عَنِ الدُّنيا، وَالصَّادِقُ لاَ يَلتَبِسُ عَليهِ أَمرٌ، وَلا بُدَّ أَن يَجعَلَ لَهُ رَبُّهُ نُوراً في قَلبِهِ يَعرِفُ بِهِ ما يُرادُ مِنهُ.

فـصـلٌ

وَمِن أَضَرِّ شَيءٍ عَلى المُريدِ طَلبُهُ لِلمُكاشَفاتِ وَاشتِياقُهُ إِلى الكَراماتِ وخَوارِقِ العَاداتِ، وَهِيَ لاَ تَظهَرُ لَهُ مَا دَامَ مُشتهياً لِظُهُورِها لأَنَّها لا تَظهَرُ إِلاَّ عَلى يَدِ مَن يَكرَهُها وَلا يُريدُها غَالباً.

وَقَد تَقَعُ لِطَوائِفَ مِنَ المَغرورينَ اِستِدراجاً لَهُم وَاِبتِلاءً لِضَعَفةِ المُؤمنينَ مِنهُم، وَهِيَ في حَقِّهم إِهاناتٌ وَليست كرَاماتٍ، إِنَّما تَكونُ كرَاماتٍ إِذا ظَهرَت عَلى أَهلِ الاِستِقامَةِ، فإِن أَكرَمَك الله-أَيُّها المُريدُ- بِشيءٍ مِنها فَاحمُدهُ سُبحانَه علَيه.

وَلا تَقِف مَعَ مَا ظَهرَ لَكَ وَلا تَسكُن إِليهِ، وَاكتُمهُ وَلاَ تُحَدِّث بِهِ النَّاسَ، وَإِن لَم يَظهَر لَكَ مِنها شَيءٌ فَلا تَتَمَنَّاهُ وَلا تَأسَف عَلى فَقدِهِ.

وَاعلَم أَنَّ الكَرامةَ الجَامِعَةَ لِجَميعِ أَنواعِ الكَراماتِ الحَقيقيَّاتِ والصُّورِيَّاتِ هِي الاِستِقامَةُ المُعَبَّرُ عَنها بِامتِثالِ الأَوامِرِ وَاجتِنابِ المَناهِي ظاهِراً وَبَاطِناً، فَعَليكَ بِتَصحِيحِها وَإِحكَامِها تخَدُمكَ الأَكوانُ العُلوِيَّةُ وَالسُّفلِيَّةُ خِدمَةً لا تَحجُبُكَ عَن رَبِّكَ وَلاَ تَشغَلُكَ عَن مُرادِهِ مِنكَ.

فـصـلٌ

وَلتَكُن أيُّها المُريدُ حَسنَ الظَّنِّ بِرَبِّكَ أَنَّهُ يُعينُكَ وَيَكفِيكَ وَيَحفَظُكَ وَيَقِيكُ وَلاَ يَكِلُكَ إِلى نَفسِكَ وَلاَ إِلىَ أَحَدٍ مِنَ الخَلقِ، فَإِنَّهُ سُبحَانًهُ قَد أَخبَرَ عَن نَفسِهِ أَنَّهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ بِهِ، وَأَخرِج مِن قَلبِكَ خَوفَ الفَقرِ وَتَوَقُّعِ الحاجَةِ إِلى النَّاسِ.

وَاحذَر كُلَّ الحَذَرِ مِنَ الاِهتِمامِ بِأَمرِ الرِّزقِ وَكُن وَاثِقاً بِوَعدِ رَبِّكَ وَتَكَفُّلِهِ بِكَ، حَيثُ يَقولُ تَعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ عَلى اللهِ رِزْقُهَا) وَأَنتَ مِن جُملَةِ الدَّوَابِّ، فَاشتَغِل بِمَا طَلبَ مِنكَ مِنَ العَمَلِ لَهُ عَمَّا ضَمَنَ لَكَ مِنَ الرِّزقِ فَإِنَّ مَولاكَ لاَ يَنسَاكَ، وَقَد أَخبَرَكَ أَنَّ رِزقَكَ عِندَهُ وَأَمَركَ بِطَلَبِهِ مِنهُ بِالعِبادَةِ. فَقالَ تعَالَى: (فَابْتَـغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ). أَمَا تَراهُ سُبحانَهُ يَرزُقُ الكافِرينَ بِهِ الذَّينَ يَعبُدونَ غَيرَهُ؟ أَ فَتَراهُ لاَ يَرزُقُ المؤمِنينَ الذَّينَ لاَ يَعبُدُونَ سِوَاهُ، وَيَرزُقُ العَاصِينَ لَهُ وَالمُخالِفينَ لأمرِهِ أَوَلاَ يَرزُقُ المُطيعينَ لَهُ المُكثِرينَ مِن ذِكرِهِ وَشُكرِهِ؟

وَاعلَم أَنَّهُ لا حَرجَ عَليكَ في طَلبِ الرِّزقِ بِالحَركاتِ الظَّاهرَةِ علَى الوَجهِ المَأذونِ لَكَ فيهِ شَرعاً وإِنَّما البَأسُ والحَرجُ في عَدَمِ سُكونِ القَلبِ واهتِمامِهِ وَاضطِرابِهِ وَمُتابَعتِهِ لأوهامِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلى خَرابِ القَلبِ اِهتِمامِ الإِنسانِ بِما يَحتاجُ إِليهِ في وَقتٍ لَم يَخرُج مِنَ العَدَمِ كاَليَومِ المُقبِلِ وَالشَّهرِ الآتي، وَقَولُهُ: إِذا نَفِذَ هَذا فَمِن أَين يَجيءُ غَيرُهُ، وإِذا لمَ يَجيء الرِّزقُ مِن هذَا الوَجهِ فَمِن أَيِّ وَجهٍ يَأتي؟

وَأمَّا التَّجَرُّدُ عَنِ الأَسبابِ والدُّخولُ فِيها فَهُمَا مَقامانِ يُقيمُ الله فيِهما مِن عِبادِهِ مَن يَشاءُ. فَمَن أقِيمَ في التَّجرُّدِ فَعَليهِ بِقُوِّةِ اليَقينَ وَسِعَةِ الصَّدرِ وَمُلازَمَةِ العِبادَةِ. وَمَن أقِيمَ في الأَسبابِ فَعليهِ بِتَقوى الله في سَبَبِهِ وَبِالاِعتِمادِ علَى الله دونَهُ، وَلِيَحذَر مِنَ الاشتِغالِ بِهِ عَن طَاعةِ رَبِّهِ، وَقَد تَرِدُ علَى المُريدِ خَواطِرُ في أَمرِ الرِّزقِ وفي مُراءاةِ الخلَقِ وفي غَيرِ ذَلكَ وَلَيسَ مَلُوماً وَلا مَأثُوماً عَليها إِذا كاَنَ كَارِهاً لَها وَمجُتَهِداً في نَفيِهَا مِن قَلبِهِ.

فـصـلٌ

وَلتَكُن لَكَ -أيُّها المُريدُ- عِنايَةٌ تَامَّةٌ بِصُحبةِ الأَخيارِ وَمُجالَسَةِ الصَّالِحينَ الأَبرارِ. وَكُن شَديدَ الحِرصِ علَى طَلبِ شَيخٍ صَالِحٍ مُرشِدٍ نَاصِحٍ، عَارِفٍ بِالشَّريعَةِ، سَالِكٍ لِلطَرِيقَةِ، ذَائِقٍ لِلحَقِيقَةِ، كَامِلِ العَقلِ وَاسِعِ الصَّدرِ، حَسَنِ السِّيَاسَةِ عاَرِفٍ بِطبَقاتِ النَّاسِ مُمَيِّزٍ بَينَ غَرائِزِهِم وَفِطَرِهِم وَأَحوَالِهِم.

فَإِن ظَفِرتَ بِهِ فَألقِ نَفسَكَ عَليهِ وَحَكِّمهُ في جمَيعِ أُمورِكَ وَارجِع إِلى رَأيِهِ وَمَشُورَتِهِ في كُلِّ شَأنِكَ وَاقتَدِ بِهِ في جَميعِ أَفعَالِهِ وَأَقوَالِهِ إِلاَّ فِيمَا يَكونُ خَاصّاً مِنها بِمَرتَبةِ المَشيَخَةِ، كَمُخالَطَةِ النَّاسِ وَمُداَرَاتِهم وَدَعوَةِ القَريبِ والبَعيدِ إَلى الله وَمَا أَشبَهَ ذَلكَ فَتُسَلِّمُهُ لَهُ، وَلا تَعتَرِض عَليهِ في شَيءٍ مِن أَحوَالِهِ لا ظَاهِراً ولا بَاطِناً وَإِن وَقَعَ في قَلبِكَ شيءٌ مِنَ الخَواطِرِ في جِهَتِهِ فاجتَهِد في نَفْيِهِ عَنكَ فَإِن لَم يَنتَفِ فَحَدِّث بِه الشَّيخَ لِيُـعَرِّفَكَ وَجهَ الخَلاصِ مِنهُ، وَكَذلِكَ تُخبِرَهُ بِكُلِّ ما يَقَعُ لَكَ خُصوصاً فِيما يَتعَلَّقُ بِالطَّريقِ.

وَاحذَر أَن تُطيعَهُ في العَلانِيَةِ وَحَيثُ تَعلَمُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَليكَ وَتَعصِيهِ في السِّرِّ وَحَيثُ لا يَعلَمُ فَتَقعُ في الهَلاكِ.

وَلا تَجتَمِعَ بِأَحدٍ مِنَ المَشايِخِ المُتَظاهِرينَ بِالتَّسلِيكِ إِلاَّ عَن إِذنِهِ، فَإِن أَذِنَ لَكَ فاحفَظ قَلبَكَ وَاجتَمِع بَمَن أَرَدتَ وَإِن لمَ يَأذَن لَكَ فَاعلَم أَنَّهُ قَد آثَرَ مَصَلَحَتَكَ فَلا تَتَّهِمَهُ وَتَظُنَّ بِهِ الحَسدَ وَالغَيرَةَ، مَعَاذَ الله أَن يَصدُرَ عَن أَهلِ الله وَخاصَّتِهِ مِثلُ ذَلِكَ.

وَاحذَر مِن مُطالَبَةِ الشَّيخِ بِالكَرَامَاتِ وَالمُكَاشَفَةِ بِخَوَاطِرِكَ فَإِنَّ الغَيبَ لا يَعلَمُهُ إِلاَّ الله، وَغَايَةُ الوَلِيِّ أَن يُطلِعَهُ اللهُ علَى بَعضِ الغيُوبِ في بَعضِ الأَحيان، وَرُبَّما دَخَلَ المُريدُ علَى شَيخِهِ يَطلُبُ مِنهُ أَن يُكاشِفَهُ بِخاطِرِهِ فَلا يُكاشِفَهُ وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَليهِ وَمُكاشَفٌ بِهِ صِيَانَةً لِلسِرِّ وَسَتراً لِلحالِ فَإِنَّهُم رَضِيَ الله عَنهُم أَحرَصُ النَّاسِ علَى كِتمانِ الأَسرارِ وَأَبعَدُهُم عَنِ التَّظاهُرِ بِالكرَاماتِ والخَوارِقِ وَإِن مُكِّنُوا مِنها وَصُرِّفُوا فِيها.

وَأكثَرُ الكرَاماتِ الوَاقِعَةِ مِنَ الأَولِيَاءِ وَقعَت بِدونَ اِختِيَارِهِم، وَكاَنوا إِذا ظَهرَ عَليهُم شَيءٌ مِن ذَلِكَ يُوصونَ مَن ظَهرَ لَهُ أَن لا يُحَدِّثَ بِهِ حَتَّى يَخرُجُوا مِنَ الدُّنيا، وَرُبَّما أَظهَرُوا مِنها شَيئاً اختِيَاراً لِمَصلحَةٍ تَزيدُ علَى مَصلَحةِ السِّترِ.

وَاعلَم أَنَّ الشَيخَ الكَامِلَ هُوَ الذِّي يُفِيدُهُ بِهِمَّتِهِ وَفِعلهِ وَقَولِهِ وَيحَفَظُهُ في حُضورِهِ وَغَيبَتِهِ وَإِن كانَ المُريدُ بَعيداً عَن شَيخِهِ مِن حَيثُ المَكانُ، فَليَطلُب مِنهُ إِشارَةً كُلِّيَةً فِيما يَأتي مِن أَمرِهِ وَيترُكُ. وَأَضرُّ شَيءٌ عَلى المُريدِ تَغَيُّرِ قَلبَ شَيخِهِ عَليهِ وَلَو اجتَمعَ علَى إصلاحِهِ بَعدَ ذَلِكَ مَشايخُ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ لمَ يَستَطيعُوهُ إِلاَّ أَن يَرضَى عَنهُ شَيخُهُ.

وَاعلَم أَنَّهُ يَنبَغي لِلمُريدِ الذَّي يَطُلبُ شَيخاً أَن لا يُحَكِّمَ في نَفسِهِ كُلَّ مَن يُذكَرُ بِالمَشيَخَةِ وَتَسلِيكِ المُريدينَ حَتَّى يَعرِفَ أَهلِيَّتَهُ وَيَجتمِعَ عَليهِ قَلبُهُ، وَكذَلِكَ لا يَنبَغي للِشَيخِ إِذا جاءَ المُريدُ يَطلُبُ الطَّرِيقَ أَن يَسمَحَ لَهُ بِها مِن قَبلِ أَن يَختَبِر صِدقَهُ في طَلَبِهِ، وَشِدَّةِ تَعَطُّشِهِ إِلى مَن يَدُلُّهُ علَى رَبِّهِ. وَهذَا كُلُّهُ في شَيخِ التَّحكِيمِ، وَقَد شَرَطُوا عَلى المُريدِ أَن يَكونَ مَعهُ كَالَمِّيتِ بَينَ يَدَيِّ الغَاسِلِ وَكالطِّفلِ مَعَ أُمَّهِ، وَلا يَجرِي هَذا في شَيخِ التَّبَرُّكِ، وَمَهمَا كَانَ قَصدُ المُريدِ التَّبَرُّكَ دُونَ التَّحكِيمِ فَكُلَّما أَكثَرَ مِن لِقاءِ المَشايِخِ وَزِيارَتِهم وَالتَّبرُّكَ بِهم كَان أَحسَنَ.

وَإذا لَم يَجِدِ المُريدُ شَيخاً فَعَليهِ بِمُلازَمَةِ الجِدِّ وَالاجتِهادِ مَعَ كَمالِ الصِّدقِ في الاِلتِجاءِ إِلى الله وَالاِفتِقارِ إِليهِ في أَن يُقَيِّضَ لَهُ مَنْ يُرشِدُهُ، فَسَوفَ يُجِيبُهُ مَن يُجِيبُ المُضطَرَّ، وَيَسُوقُ إِليهِ مَن يَأخُذُ بِيَدِهِ مِن عِبادِهِ.

وَقَد يَحسِبُ بَعضُ المُريدينَ أَنَّهُ لا شَيخَ لَهُ فَتَجِدَهُ يَطلُبُ الشَّيخَ وَلَهُ شَيخٌ لَم يَرَهُ، يُرَبِّيهِ بِنَظَرِهِ وَيُرَاعيهِ بِعَينِ عِنايَتِهِ وَهُوَ لا يَشعُرُ، وَعِندَ التَـناصُفِ مَا ذَهبَ إِلاَّ الصِّدقُ، وَإِلاَّ فَالمَشايِخُ المُحَقِّقُونَ مَوجُودونَ، وَلكِن سُبحانَ مَن لَم يَجعلِ الدَّلِيلَ عَلى أَولِيَائِه إِلاَّ مِن حَيثُ الدَّليِلُ عَليهِ وَلمَ يُوصِل إِليهِم إِلاَّ مَن أَرادَ أَن يُوصِلَهُ إِليهِ.

تـَتِـمَّـةٌ

وَإِذا أَردتَ -أيُّها المُريدُ-مِن شَيخِكَ أَمراً أَو بَدا لَكَ أَن تَسأَلَهُ عَن شَيءٍ فَلا يَمنَعُكَ إِجلالِهِ وَالتَّأدُّبُ مَعَهُ عَن طَلَبِهِ مِنهُ وَسُؤَالِهِ عَنهُ، وَتَسأَلُهُ المَرَّةَ وَالمرَّتينِ وَالثَّلاثَ، فَلَيسَ السُّكوتُ عَنِ السُّؤاَلِ وَالطَّلبِ مِن حُسنِ الأَدَبِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَن يُشيرَ عَليكَ الشَّيخُ بِالسِّكوتِ وَيَأمُرَكَ بِتَركِ السُّؤالِ، فَعِندَ ذَلكَ يَجِبُ عَليكَ اِمتِثالُهُ.

وَإِذا مَنعَكَ الشَّيخُ عَن أَمرٍ أَو قَدَّمَ عَليكَ أَحداً فَإِيَّاكَ أَن تَتَّهِمَهُ، وَلْتَكُن مُعتَقِداً أَنَّهُ قَد فَعَلَ مَا هُوَ الأَنفَعُ وَالأَحسنُ لَكَ، وَإذا وَقَع مِنكَ ذَنبٌ وَوَجدَ عَليكَ الشَّيخُ بِسَبَبِهِ فَبادِر بِالاِعتِذارِ إِليهِ مِن ذَنبِكَ حَتَّى يَرضَى عَنكَ.

وَإِذا أَنكَرتَ قَلبَ الشَّيخِ عَليكَ كَأَن فَقَدتَ مِنهُ بِشراً كُنتَ تَأَلَفُهُ أَو نَحوَ ذَلكَ، فَحَدِّثهُ بِما وَقعَ لَكَ مِن تَخَوُّفِكَ تَغَـيُّرَ قَلبِهِ عَليكَ فَلـَعلَّهُ تَغَـيَّرَ عَليكَ لِشيءٍ أَحدَثتَهُ فَتَتُوبَ عَنهُ، أَو لَعَلَّ الذِّي تَوَهَّمتَهُ لَم يَكُن عِندَ الشَّيخِ وَأَلقاهُ الشَّيطانُ إِليكَ لِيَـسُوءَكَ بِهِ، فَإِذا عَرَفتَ أَنَّ الشَّيخَ رَاضٍ عَنكَ سَكَنَ قَلبُكَ بِخلافِ مَا إِذا لَم تُحَدِّثهُ وَسَكَتَّ بِمَعرِفةٍ منِكَ بِسلامةِ جِهَتِكَ.

وَإِذا رَأيتَ المُريدَ ممُتَـلِئاً بِتَعظِيمِ شَيخِهِ وَإِجلالِهِ مُجتَمِعاً بِظاهِرِهِ وَبَاطِنهِ عَلى اِعتِقادِهِ وَامتِثالِهِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدابِهِ فَلا بُدَّ أَن يَرِثَ سِرَّهُ أَو شَيئاً مِنهُ إِن بَقِيَ بَعدَهُ.

خاتمـة

نذكر فيها شيئاً من أوصاف المريد الصادق

قَالَ بَعضُ العَارِفينَ رَضِيَ الله عَنهُم وَنَفَعنا بِهم أَجمَعين:

لاَ يَكُونُ المُريدُ مُرِيداً حَتَّى يَجِدَ في القُرآنِ كُلَّ مَا يُريدُ، وَيَعرِفَ النُّقصَانَ مِنَ المَزيدِ، وَيَستَغنِي بِالمَولى عَنِ العَبِيدِ، وَيَستَوِي عِندَهُ الذَّهبُ وَالصَّعيدُ.

المُرِيدُ مَن حَفِظَ الحُدودَ، وَوَفَّى بِالعُهُودِ، وَرَضِيَ بِالمَوجُودِ، وَصَبَرَ عَنِ الَمفقُودِ

المُريدُ مَن شَكَرَ عَلى النَّعماءِ، وَصَبرَ علَى البَّلاءِ، وَرَضِيَ بِمُرِّ القَضاءِ، وَحَمَدَ رَبَّهُ في السَّراءِ والضَّراءِ، وَأَخلَصَ لَهُ في السِّرِّ وَالنَّجوَى.

المُريدُ مَن لاَ تَستَرِقُّهُ الأَغيَارُ، وَلا تَستَعبِدُهُ الآثارُ، وَلا تَغلِبُهُ الشَّهوَاتُ، وَلا تَحكُمُ عَليهِ العَاداتُ. كَلامُهُ ذِكرٌ وَحِكمةٌ، وَصَمتُهُ فِكرَةٌ وَعِبرَةٌ، يَسبِقُ فِعلَهُ قَولَهُ وَيُصَدِّقُ عِلمَهُ عَمَلُهُ، شِعارُهُ الخُشوعُ وَالوَقاَرُ، وَدِثاَرُهُ التَّواضُعُ وَالاِنكِسارُ، يَتَّبِعُ الحَقَّ وَيُؤثِرُهُ، وَيَرفُضُ الباطِلَ وَيُنكِرُهُ، يُحِبُّ الأَخيارَ وَيُوالِيهِم، وَيَـبْغَضُ الأَشرارَ وَيُعادِيهِم، خُبْرُهُ أَحسنُ مِن خَبَرِهِ، وَمُعَاشَرَتُهُ أَطيَبُ مِن ذِكرِهِ، كَثِيُر المَعُونَةِ، خَفِيفُ المَؤُونَةِ، بَعيدٌ عَنِ الرُّعُونةِ. أَمينٌ مَأمُونٌ، لا يَكذِبُ

وَلا يَخونُ، لاَ بَخيلاً وَلا جَباناً، وَلا سَبَّاباً ولا لَعَّاناً، وَلا يَشتَغِلُ عَن بُدِّهِ، وَلا يَشِحُّ بِما في يَدِهِ، طَيِّبُ الطَّوِيَّةِ، حَسَنُ النِّيِّةِ، سَاحَتُهُ مِن كُلِّ شَرٍّ نَقِيَّةٌ، وَهِمَّتهُ فيما يُقَرِّبهُ مِن رَبِّهِ عَلِيَّةٌ، وَنَفسُهُ عَلى الدُّنيا أَبِيَّةٌ، لا يُصِرُّ علَى الهَفوَةِ، وَلا يُقدِمُ وَلا يُحجِمُ بِمُقتَضى الشَّهوَةِ، قَرِينُ الوَفَاءِ وَالفُتُوَّةِ، حَلِيفُ الحَياءِ وَالمرُوَّةِ، يُنصِفُ كُلَّ أَحدٍ مِن نَفسِهِ وَلا يَنتَصِفُ لَها مِن أَحَدٍ. إِن أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِن مُنِعَ صَبَرَ، وَإِن ظَلَمَ تَابَ وَاستَغفَرَ، وَإِن ظُلِمَ عَفا وَ غَفَرَ، يُحِبُّ الخُمُولَ وَالاِسِتتَارَ، وَيَكرَهُ الظُّهورَ وَالاِشتِهارَ، لِسَانَهُ عَن كُلِّ مَا لا يَعنيِهِ مَخزونٌ، وَقَلبَهُ علَى تَقصِيرهِ في طاعةِ رَبِّهِ مَحزُونٌ، لاَ يُداهِنُ في الدِّينِ وَلا يُرضي المَخلوقِيَنَ بِسَخطِ رَبِّ العَالمِينَ، يَأنَسُ بِالوِحدَةِ وَالاِنفِرادِ، وَيَستَوحِشُ مِن مُخالَطَةِ العِبادِ، وَلا تَلقَاهُ إِلاَّ عَلى خَيرٍ يَعمَلُهُ، أَو عِلمٍ يُعَلِّمهُ، يُرجَي خَيرُهُ، وَلا يُخشَى شَرُّهُ، وَلا يُؤذِي مَن آذاهُ، وَلا يَجفُو مَن جَفَاهُ، كَالنَّخلةِ تُرمَى بِالحَجَرِ فَتَرمِي بِالرُّطَبِ، وَكَالأَرضِ يُطرَحُ عَليهَا كُلُّ قَبيحٍ وَلا يَخرُجُ مِنها إِلاَّ كُلُّ مَليحٍ، تَلوحُ أَنوارُ صِدقِهِ علَى ظَاهِرِهِ، وَيَكادُ يُفصِحُ مَا يُرَى علَى وَجهِهِ عَمَّا يُضمِرُ في سَرائِرهِِ، سَعيُهُ وَهِمَّتُهُ في رِضَا مَولاهُ، وَحِرصَهُ ونَهمَتُهُ في مُتابَعَةِ رَسُولِهِ وَحَبِيبِهِ وَمُصطَفاهُ، يَتَأَسَّى بِهِ في جَميعِ أَحوَالِهِ، وَيَقتدِي بِهِ في أَخلاقِهِ وَأَفعَالِهِ وَأَقوالِهِ، مُمتَثِلاً لأمرِ رَبِّهِ العَظِيمِ في كِتابِهِ الكَرِيم حَيثُ يَقولُ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثيراً) ، ( وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله) ، (إِنَّ الذَّينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله) ، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، (فَلْيَحْذَرِ الذَّينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبُهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فَتَرَاهُ في غَايَةِ الحِرصِ عَلى مُتابَعَةِ نَبِيِّهِ مُمْتَثلاً لأَمرِ رَبِّهِ وَرَاغِباً في الوَعدِ الكَريمِ وَهارِباً مِنَ الوَعِيدِ الأَلِيمِ الوَارِدَينِ في الآياتِ الَّتي أَورَدناها وَفِيما لَم نُورِدُهُ مِمَّا هُو في مَعناها المُشتَمِلَةِ عَلى البِشارَةِ بِغَايَةِ الفَوزِ وَالفَلاحِ للِمُتَّبِعينَ لِلرَّسولِ، وَعَلى النَّذارَةِ بِغايَةِ الخِزيِ وَالهَوانِ لِلمُخالِفِينَ لَهُ.

(اللَّهُمَّ) إِنَّا نَسأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنتَ الله الذّي لا إِلهَ إِلاَّ أَنتَ الحَنَّانُ الَمنَّانُ بَديعُ السَّمواتِ وَالأَرضِ يَا ذا الجَلالِ وَالإِكرَامِ أَن تَرزُقنا كَمالَ المُتابَعةِ لِعبدِكَ وَرَسولِكِ سَيِّدنا مُحمَّدٍ صلّى الله عَليهِ وَسَلَّم في أَخلاقِهِ وَأعمَالِهِ وأَقوالِهِ ظَاهِراً وَباطِناً وَتُحيينا وَتُميتَنا عَلى ذَلكَ بِرحمَتِكَ يا أَرحَمَ الرَّاحِمين.

(اللَّهُمَّ) رَبَّنا لَكَ الحَمدُ حمداً كَثيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ كمَا يَنبَغي لِجَلالِ وَجهِكَ وَعَظيمِ سُلطانِك (سُبحانَكَ لاَ عِلمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيمُ). (لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

تمت هذهِ الرِّسالةُ لِلمُريدِ المَخصوصِ مِن رَبِّهِ المَجيدِ بِالتثبيتِ وَالَتأيِيدِ وَالتَسديدِ، وَكانَ بِحَمدِ اللهِ إِملاؤُها في سَبعِ لَيالٍ أَو ثَمانٍ مِن شَهرِ رَمضانَ سَنةَ إِحدى وَسَبعينَ وَأَلفٍ مِن هِجرَتِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلَّم تسليماً كثيراً والحَمدُ لله رَبِّ العَالَمينَ

الأربعاء، 1 مايو 2013

- الإمام عند أهل السنة والجماعة

- الإمام عند أهل السنة والجماعة
معنى كلمة الإمام فى قاموس المعانى : مَن يأْثَمُ به الناسُ من رئيس أَو غيره ،ومنه إمام الصلاة و الإِمامُ الخليفة
إمام في اللغة من يقتدى به من رئيس أو غيره ولا يبعد المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، بإطلاقه الشّامل للمقتدى به عموماً في مجال الخير والشّرّ، طوعاً أو كرهاً.
الإمام في الصلاة هو الذي تقتدي به جماعة المصلّين وتتابعه في أفعال الصلاة كالقيام والقعود والركوع والسجود
الإمامة عند أهل السنة والجماعة عالم بالقران والسنه كأصحاب المذاهب الذين اشتهر منهم الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين  فيقال الإمام أبى حنيفة والإمام مالك وافمام الشافعى
وعلى علماء الحديث  كالإمام البخارى والإمام مسلم  وعلى العلماء العاملين كالإمام ابن القيم والإمام بن كثير  كالإمام السيوطى والإمام أبى حامد الغزالى وفى العصر الحديث الإمام  محمد ماضى أبو العزائم
والإمام العلامة الدكتور على جمعة كما يطلق هذا المصطلح إطلاقات مختلفة
2 - يطلق على الأنبياء عليهم السلام أنهم « أئمة » من حيث يجب على الخلق
اتباعهم، قال الله عقب ذكر بعض الأنبياء : «وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا» كما يطلق على الخلفاء « أئمةً » لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم.
وتوصف إمامتهم بالإمامة الكبرى، كما يطلق أيضاً على الذين يصلون بالناس - وتقيد هذه الإمامة بأنها الإمامة الصغرى - لأن من دخل في صلاتهم لزمه الائتمام بهم، قال عليه الصلاة والسلام :
« إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تختلفوا على إمامكم ».
وهناك إطلاقات اصطلاحية أخرى لمصطلح « أئمة » عند العلماء تختلف من علم لآخر، فهو يطلق عند الفقهاء على مجتهدي الشرع أصحاب المذاهب المتبوعة،وإذا قيل :« الأئمة الأربعة » انصرف ذلك إلى أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.ويطلق عند الأصوليين على من لهم سبق في تدوين الأصول بطرائقه الثلاث : طريقة المتكلمين، كالجويني والغزالي.وطريقة الحنفية، كالكرخي والبزدوي، والطريقة الجامعة بينهما،
 كابن الساعاتي والسبكي، وأمثالهم.ويطلق عند المفسرين على أمثال مجاهد، والحسن البصري، وسعيد بن جبير.
ويطلق في علم القراءات على القراء العشرة الذين تواترت قراءاتهم وهم :
 نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف.
ويطلق مصطلح « أئمة » عند المحدثين على أهل الجرح والتعديل كعلي بن المديني
ويحيى بن معين وأمثالهما.وإذا قيل عندهم ' الأئمة الستة ' انصرف ذلك إلى الأئمة : البخاري، ومسلم،
 وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وعد بعضهم مالكاً بدلاً من ابن ماجه، وبعضهم أبدله بالدارمي.ويطلق عند المتكلمين على أمثال الأشعري والماتريدي ممن لهم مذاهب
 وأتباع في العقيدة.
وعند السادة الصوفية  يقال على شيوخ الطائفة : كالإمام الجنيد  



شارك فى نشر الخير