آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 31 أكتوبر 2016

- ذكريات الـحـب الـقـديـم

الدين في حقيقته هو الحب القديم الذي جئنا به إلى الدنيا و الحنين الدائم الذي يملأ شغاف قلوبنا إلى الوطن الأصل الذي جئنا منه، و العطش الروحي إلى النبع الذي صدرنا عنه و الذي يملأ كل جارحة من جوارحنا شوقا و حنينا.. و هو حنين تطمسه غواشي الدنيا و شواغلها و شهواتها.
و لا نفيق على هذا الحنين إلا لحظة يحيطنا القبح و الظلم و العبث و الفوضى و الاضطراب في هذا العالم فنشعر أننا غرباء عنه و أننا لسنا منه و إنما مجرد زوار و عابري طريق و لحظتها نهفو إلى ذلك الوطن الأصل الذي جئنا منه و نرفع رؤوسنا في شوق و تلقائية إلى السماء و تهمس كل جارحة فينا.. يا الله.. أين أنت.
و لحظة نخطئ و نتورط في الظلم و ننحدر إلى دركات الخسران فننكس الرؤوس في ندم و ندرك أننا مدانون مسئولون.. فذلك هو الدين.. ذلك الرباط الخفي من الحنين لماض مجهول.. و ذلك الإحساس بالمسئولية و بأننا مدينون أمام ذات عليا.. و ذلك الإحساس العميق في لحظات الوحدة و الهجر.. بأننا لسنا وحدنا و إنما في معية غيبية و في أنس خفي و أن هناك يدا خفية سوف تنتشلنا، و ذاتا عليا سوف تلهمنا و ركنا شديداسوف يحمينا، و عظيما سوف يتداركنا.. فذلك هو الدين في أصله و حقيقته.
و ما تبقى بعد ذلك من أوامر و نواه و حرام و حلال و أحكام و عبادات هي تفاصيل و نتائج و موجبات لهذا الحب القديم.

- نظرية الخلق المباشر بين العلم والقرآن ‏

ما هي أدلة الخلق المباشر من العلم ومن القرآن؟ ولماذا نرفض نظرية التطور؟ وما هو الدليل العلمي على أن التطور لم يحدث أبداً؟ دعونا نتأمل....


يسأل بعض الأحبة من المقتنعين بالتطور بتقدير الله تعالى، لماذا لا نقبل بنظرية التطور مع العلم أن كثيراً من الباحثين يؤكدون أن التطور أصبح "حقيقة علمية" ولماذا لا نحاول فهم آيات الخلق في القرآن بما يتفق مع هذه النظرية؟ وإذا كانت نظرية الخلق المباشر للكائنات صحيحة، فما هي أدلتها من العلم ومن القرآن؟

نقول: إن الذي يدرس نظرية التطور ويتعمق فيها يجد أنها مجرد فرضية تمثل وجهة نظر، وأن جميع الأدلة العلمية تؤكد خطأ هذه النظرية، ويكفي أن نقول: حتى الآن لم يستطع أحد من علماء التطور أن يأتي بدليل علمي يقيني على حدوث تطور بين الأجناس المختلفة.

هل هناك إمكانية لحدوث تطور؟

السؤال الذي أفكر فيه دائماً حول نظرية التطور، إذا كان التطور قد أصبح حقيقة يقينية كما يدعي بعض العلماء، فلماذا لا تحوي هذه النظرية أي قانون؟ فالقوانين الموجودة في النظرية هي مجرد افتراضات: اصطفاء طبيعي – طفرات... وهكذا القوانين الوحيدة التي تحويها هذه النظرية هي قوانين الوراثة وهي قوانين بعيدة تماماً عن التطور.

هل يستطيع علماء التطور أن يحسبوا لنا عدد الطفرات اللازم لنشوء مخلوق جديد؟ وهل يمكن أن يحسبوا لنا الزمن اللازم لحدوث هذه الطفرات الوراثية اللازمة لإنتاج كائن جديد من كائن قديم؟ وهل بالفعل يمكن حدوث هذه الطفرات مع مرور ملايين السنين؟

إنني أتوقع أنه لا توجد إمكانية أصلاً لحدوث مثل هذه الطفرات.. لأن المبدأ الذي وضعه داروين مبدأ باطل، وما بُني على باطل فهو باطل. إذ أن حدوث طفرات وراثية في جينات كائن ما مهما حدثت لن تؤدي لنشوء كائن جديد.. وبالتالي بناء النظرية خاطئ.

وسوف نضر مثلاً بسيطاً على الإنسان الذي يعتقدون أنه تطور ونشأ من كائن آخر (طبعاً كانوا يقولون إن الإنسان تطور عن قرد.. ولكن بعد أبحاث الجينات ثبت عدم إمكانية ذلك، فقالوا إن الإنسان والقرد تطورا من سلف مشترك.. ما هو ، وكم من الزمن مرّ، وما هي السلالة التي تطور منها... كل هذا غير معلوم حتى الآن.. هناك فرضيات فقط).

لنفرض جدلاً أن الإنسان تطور عن كائن آخر.. كم طفرة حدثت في هذا الكائن حتى أصبح إنساناً عاقلاً؟ لابد أن هناك ملايين الطفرات التي حدثت بشكل منظم وليس عشوائياً.. ولكن إذا حدثت هذه الطفرات فكم من الوقت سوف تستغرق.. إنني أتصور أن عمر الكون لا يكفي لحدوث مثل هذه الطفرات.. وعلماء التطور لن يستطيعوا إثبات العكس!

كذلك من الناحية الوراثية أقول إنه لا توجد إمكانية عملية لحدوث عدد هائل من الطفرات عبر ملايين السنين.. لأن ذلك سوف يعني وجود ملايين المخلوقات بين الإنسان والكائن الذي تطور منه.. وهذا غير موجود في عالم الواقع.


منذ البداية أدرك داروين أن نظريته غير دقيقة، حيث إن كل طفرة سوف تغير صفة ما في السلالة الجديدة.. وهكذا سوف يكون لدينا مليون مخلوق شبيه بالإنسان قبل نشوء الإنسان مثلاً!! فأين هذه الملايين من الأناسي؟؟ إن كل ما تم العثور عليه حتى الآن من بقايا عظام وجماجم كلها تعود إما لقرود أو لبشر..

حتى الآن لا يستطيع علماء التطور قياس الطفرات اللازمة لنشوء جنس جديد أو نوع جديد من الكائنات.. ولا يستطيعون حساب الزمن اللازم لنشوء هذا النوع... وبالتالي أين الحقائق العلمية التي يتحدثون عنها؟

كذلك لا توجد أي تجربة علمية أثبتت التطور حتى الآن.. كل ما يُجرى من تجارب تدخل في علم الهندسة الوراثية أو هندسة الجينات، وهذه لها قوانينها وقياساتها، وقد تمكن العلماء بالفعل من قياس الزمن اللازم لحدوث الطفرات بشكل تلقائي في أي كائن.. ولكن هذه الطفرات معظمها طفرات محايدة ولا تؤثر كثيراً على الأجيال الجديدة.. ولا تستطيع هذه الطفرات أن تنتج كائناً جديداً.

لذلك يجب أن نعلم بأن كلام الله تعالى هو أساس أي نظرية نريد بناءها.. قال تعالى: (وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) [النحل: 101].. فهو أعلم بخلقه وأعلم بالطريقة التي ينزل بها آيات كتابه ولو كان التطور صحيحاً لأشار القرآن إليه صراحة.. فالقرآن كتاب بيّن واضح مفصل، وليس كتاب ألغاز أو طلاسم!

ولكن السؤال المهم: هل خلق الله كل كائن حي بشكل منفصل ومباشرة من عناصر الأرض؟ وما هي الأدلة من العلم ومن كتاب الله تبارك وتعالى؟

لكي نفهم التطور المزعوم يجب أن نأتي بمثال لتخيل هذه العملية التطورية، هل تتفق مع العلم؟

دعونا نتأمل المثال التالي:

إن أي جهاز كمبيوتر لا يمكن أن يعمل من دون برنامج تشغيل.. نعلم أن برنامج ويندوز مهمته تشغيل الكمبيوتر ويتضمن كافة المعلومات التي وضعها مصمم البرنامج لتلبية أهداف معينة. ولكن لو كان لدينا برنامج ويندوز 7 فمهما قمنا بتحديث هذا البرنامج فلن نحصل في النهاية إلا على البرنامج نفسه مع ميزات جديدة فقط أي ويندوز 7.. أي لن نحصل على برنامج ويندوز 8 لماذا؟

لأن تصميم النسخة 8 من البرنامج تختلف تماماً عن النسخة 7 وبالتالي لابد من حذف النسخة القديمة وتركيب النسخة الجديدة.. ومع أن قطع الكمبيوتر هي ذاتها إلا أن تغيير برنامج التشغيل أعطاناً مظهراً جديداً لشاشة الكمبيوتر وشكل الأيقونات وقائمة ابدأ... وغير ذلك.



إن إنتاج برنامج تشغيل جديد يحتاج لإجراء عملية برمجة جديدة، كذلك إنتاج كمبيوتر حديث يحتاج لتصميم جديد ومستقل، ولا يمكن تطوير البرامج أو الكمبيوترات القديمة.. بل يقوم المصممون بتصميم برامج وأجهزة جديدة.. وهذا هو المنطق العلمي..فأنت تعلم عزيزي القارئ أنك إذا أردتَ تحديث برنامج التشغيل لديك على الكمبيوتر من 7 إلى 8 عليك حذف البرنامج القديم وتنصيب برنامج جديد لتتمكن من العمل على البرنامج الجديد.. وإذا أردتَ أن تحدث جهازك فعليك أن تشتري واحداً جديداً بمواصفات أحدث، وهذا ما يعلمه كل واحد منا.. فلماذا نريد أن تتوالد الكائنات من بعضها وتعطينا مخلوقات أكثر ذكاء أو أكثر تعقيداً وبمواصفات جديدة دون الحاجة لتغيير المخلوق واستبداله بمخلوق آخر، أي تصنيع مخلوق جديد!!

وبالتالي فإن عملية تصميم مخلوق جديد ولو كان شبيهاً إلى حد ما بمخلوق سابق، إلا أنه لا يمكن تطويره (أو تحديثه) مهما فعلنا لأنه سينتج لدينا نفس المخلوق ولكن بشكل معدل قليلاً.. تماماً مثل ما يحدث في عالم الطيور... يبقى الحمام حماماً مهما تغير شكله ولونه وحجم منقاره وطريقة تكيفه مع البيئة وألوانه.... يبقى في النهاية عبارة عن حمام... لن يتحول إلى طير جارح مثل الصقر مهما حدث من تغيرات في جيناته.

فإذا كان هناك طائر بمواصفات جديدة مثل الصقر، فلا بد أن هناك برنامج تشغيل جديد مختلف تماماً عن القديم وتم وضع دفعة واحدة وليس بالتدريج... وكما قلنا فإن مصمم برنامج ويندوز 7 لن يستطيع أن يقدم نسخة مختلفة تماماً من حيث التصميم أي يعطينا برنامج ويندوز 8 بمجرد إجراء تحديثات متتالية للبرنامج ولو أجرى ملايين التحديثات... لن يحصل على برنامج تشغيل جديد يشبه الويندوز 10 ... لابد من برمجة جديدة.. وهذا يعرفه المبرمجون ولا يحتاج لإثبات علمي.

إذاً المنطق العلمي يفرض أن يتم وضع برنامج تشغيل جديد لكل كائن جديد! ويجب أن يتم وضع هذا البرنامج دفعة واحدة وليس بالتدريج أو عبر ملايين السنين... فإذا كان هذا التصور صحيحاً فهذا يعني أن التطور لم يحدث على الإطلاق.. ومن الخطأ أن نقول إن القرآن يشير إلى التطور.

فإذا اقتنعنا أن الله تعالى هو من يقوم بوضع برنامج التشغيل الخاص بكل كائن حي.. فهل يأتي بمخلوق ما لديه برنامج تشغيل جاهز، فيقوم الخالق عزّ وجل بنزع البرنامج القديم ووضع برنامج جديد يناسب الكائن الجديد.. هل الله بحاجة لذلك؟

لو كان هذا الكلام صحيحاً إذا لا يمكن أن يعبر عن هذه العملية بالخلق بل بالجعل أو التطور أو التغير أو أي تعبير آخر.. لأن هذه العملية ليس خلقاً.. طبعاً كل آيات القرآن تؤكد أن الله تعالى خلق الكائنات خلقاً وليس بالتطور أو بالتحول أو التغير... قال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16].

آية رائعة تؤكد الخلق المباشر

الله تعالى يقول: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة: 7]. هذه الآية تؤكد أن الله تعالى قد أحسن خلق كل شيء وبدأ خلق الإنسان من الطين.. لم يقل (جعل) بل قال (خلق) لأن الجعل تعني التحويل من شكل لآخر، ولكن الخلق للإنسان هو إيجاد شيء جديد من الطين أو الماء أو عناصر الأرض.

هل يمكن أن نأتي بعبارة أخرى تحل محل هذه العبارة؟ أي لو كان التطور صحيحاً والآية تعني أن الله تعالى خلق كل شيء في الأرض.. وبدأ خلق الخلية الأولى من الطين ثم تطورت حتى ظهر النبات ثم ظهرت الأسماك ثم الحيوانات والطيور... إلى أن ظهر الإنسان..

الآن لو قلنا (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق النبات من طين) هل هذه العبارة صحيحة حسب التطور؟ نعم ، ولو قال: (وبدأ خلق الطيور من طين) أيضاً هذا صحيح لو كان التطور صحيحاً.. كذلك لو كان التطور صحيحاً يمكن أن نستبدل الآية بعبارة أخرى مثلاً (وبدأ خلق الحيتان من طين)... وهكذا فإنه يمكننا أن نبدل كلمة مكان كلمة ولا يضر بالمعنى.. وهذا يخالف قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1]. فالقرآن كما نعلم جميعاً كلام الله، ولا يمكن لبشر أن يأتي بكلمة ويضعها مكان كلمة ويبقى المعنى صحيحاً، فلا يمكن إبدال كلمة بأخرى.

أي أن نظرية التطور لو كانت صحيحة فإن صياغة الآية بهذا الشكل (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) غير دقيق علمياً، فلماذا يخص الإنسان بالذات بهذا الخلق من الطين؟ إن هذه الآية لتشهد على أن الله قد خلق جميع المخلوقات قبل الإنسان ثم بدأ بخلق هذا الإنسان خلقاً مباشراً من الطين..



من الناحية العلمية كم يتطلب الوقت لإحدات عدد هائل من الطفرات الجينية لكائن حي حتى يتحول لكائن جديد بمواصفات جديدة مثل هذه السمكة الطائرة، كيف تطورت لديها القدرة على الطيران لأكثر من 200 متراً في الهواء؟ وكم من الزمن تطلبت هذه الأجنحة لتتطور وكم تطلبت من معلومات جديدة لوضعها في دماغ هذه السمكة لتتمكن من استعمال أجنحتها... سوف يحتاج مئات الملايين من السنين على أقل تقدير.. وإذا كان التطور حقيقة علمية فليقم علماء التطور بحساب هذا الزمن.. وطبعاً لم ولن يستطيعوا، لسبب بسيط وهو أن التطور لم يحدث أبداً إنما خلق الله تعالى هذه الأنواع خلقاً مباشراً من دون الحاجة لملايين السنين!

استحالة حدوث التطور علمياً

من الناحية العلمية يستحيل إحداث طفرات جينية متدرجة لإنتاج كائن جديد.. مثلاً الأسماك التي تعيش في الماء تطورت إلى زواحف على اليابسة.. لو قمنا بمقارنة الزواحف بالأسماك سوف نجد آلاف الطفرات الجينية التي حدثت في خلايا الأسماك حتى تطورت إلى زواحف... والسؤال: كيف يمكن أن تنمو للأسماك أرجل بدلاً من الزعانف، وهي في الماء؟ إذاً لابد أن تنمو هذه الأرجل في اليابسة..

ولكن دقيقة! كيف انتقلت الأسماك إلى اليابسة من دون تطور جهاز التنفس لديها ليتناسب مع الهواء بدلاً من الماء... فإذا تطور هذا الجهاز التنفسي في الماء فهذا مستحيل لأنها ستموت.. ولو تطور هذا الجهاز التنفسي على اليابسة ستموت أيضاً لأنه لا يمكنها الخروج إلى اليابسة إلا بعد امتلاكها لجهاز تنفس "هوائي"...

أين تطور جلد السمكة ليناسب الحياة البرية.. هل حدث هذا في الماء؟ طبعاً مستحيل لأنها لن تتمكن من العيش بجلد غير جلدها لفترات طويلة، لاسيما أن التطور يقول بأن العملية تتم عبر ملايين السنين..



هناك شيء اسمه الانفجار الكامبري الذي أنتج عدد هائل من الكائنات الجديدة التي ظهرت لأول مرة وخلال زمن قصير نسبياً.. كيف استطاعت هذه المخلوقات أن تتطور من بعضها بهذه السرعة الفائقة وإحداث هذا التنوع الهائل دفعة واحدة... إن التنوع الذي ظهر في العصر الكامبري حسب قوانين التطور، سوف يتطلب مئات الملايين من السنين حتى يحدث... ولكن الكائنات جاءت دفعة واحدة وخلال عدة ملايين من السنين فقط.

مراحل خلق سيدنا آدم

دعونا نتأمل المراحل التي مر بها الإنسان حسب القرآن:

المرحلة الأولى: قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة: 7]. هذه الآية تتألف من قسمين القسم الأول (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وهذا القسم يتضمن خلق الكائنات الحية قبل الإنسان.. ولا يمكن أن يتحدث فقط عن خلق السموات والأرض كما يعتقد البعض، لأن الآيات الستة الأولى من سورة السجدة تناولت قصة خلق السموات والأرض وما بينهما.. وليس من المنطقي أن يتكرر الكلام هنا، لذلك فإن قوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) تعني خلق السموات والأرض والجبال والبحار... وكذلك الكائنات الحية من نبات وطيور وأسماك وحيوانات وحشرات...

القسم الثاني من الآية تناول خلق الإنسان: قال تعالى: (وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) أي أن الله تعالى بعدما خلق الكائنات الحية على اختلاف أنواعها بدأ خلق الإنسان من طين خلقاً مباشراً مستقلاً.. ولو كان الإنسان قد نتج عن التطور من مخلوق سابق فليس لهذه الآية معنى بهذه الصيغة، كان الأفضل أن يقول: وجعل بدلاً من خلق، بل أكد على حقيقة الخلق المباشر من خلال قوله (بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ) أي أن الإنسان لم يكن موجوداً ولا بأي شكل من الأشكال.. فأوجده الله تعالى بشكل مستقل.

المرحلة الثانية: ولكن خلق الإنسان لا يعني أنه أصبخ بشراً عاقلاً سميعاً بصيراً... بل الخلق هو التكوين الأولي للإنسان وإعطائه الشكل المناسب الذي أراده الله تعالى. هذا الشكل الطيني يحتاج لمعلومات حتى يتمكن من الحركة والتكاثر والعيش.. ولذلك قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة: 8]... حتى الآن ليس هناك إنسان كامل، بل هناك بداية لخلق إنسان، وتقدير لنوع النسل (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي تم وضع كل المعلومات وبرامج التشغيل اللازمة لحياة هذا الإنسان وتكاثره ونسله قبل نفخ الروح، أي لا يزال الإنسان غير مكتمل حتى هذه اللحظة.

المرحلة الثالثة: ولذلك قال تعالى في الآية التالية قال تعالى: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [السجدة: 9]. وهذه الآية فيها مراحل عدة.. (ثُمَّ سَوَّاهُ) هنا تتم عملية التسوية والتشكيل وإعطاء الإنسان الصورة التي أرادها الله لنا نحن البشر. أي الشكل الخارجي.



قال تعالى: (وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) هنا تأتي أهم عملية في تكوين الإنسان وهي نفخ الروح، فمن دون هذه الروح لا يمكن أن يكون هناك إنسان.. ونظرية التطور لا تعترف بشيء اسمه الروح.. وهذا خطأ علمي، فكيف يمكن للإنسان أن يتمتع بكل هذه المواصفات من مشاعر وحب وكره وتعلم وإبداع وضحك وبكاء وتعلم ونطق واختراع وبناء وووو... ثم يقول أصحاب التطور إن نسبة التشابه بين الإنسان والقرد أكثر من 98 % !!!

طبعاً هم أغفلوا أهم عنصر في الإنسان وهو الروح.. فكيف يمكن لنا أن نؤمن بنظرية تنكر الروح وقد أثبتها القرآن صراحة؟؟

قال تعالى: (وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ) هذه مراحل لم يقل فيها البارئ تعالى: وخلق لكم السمع.. بل قال: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ... ليدل على أن عملية تشكل السمع والبصر وغيرها من أجهزة الجسم يتم عن طريق انقسام وتكاثر الخلايا في الرحم..

إن القرآن لا يتحدث عن خلق السمع أو خلق البصر أو خلق العين! بل قال مثلاً: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) [البلد: 8]. فلم يقل: ألم نخلق له عينين.. لأن عملية تشكل الأعين جاءت كنتيجة لعملية الخلق الأولى التي تمت من الطين. لذلك كلمات القرآن دقيقة جداً والله تعالى أعلم بما يقول وهو أعلم بما خلق.. قال تعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

لنتأمل من جديد: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَ قَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) [السجدة: 7-10].

هذا النص القرآني لا يمكن أن نفهم منه أن الإنسان تطور من كائن آخر قبله... فالقرآن نزل باللغة العربية ونزل واضحاً بيناً والله تعالى لا يحتاج لمن يعلمه كيف يكتب كتابه الكريم. لقد أنزل الله هذا القرآن بهذه الصيغة وهو يعلم أنه سيأتي زمن وتنتشر فيه نظرية التطور... فهل الله تعالى لم يكن قادراً على صياغة آيات الخلق بأسلوب يُفهم منه التطور؟

كذلك فإن نظرية التطور تنكر إعادة الخلق لأن قوانين التطور تسير باتجاه واحد ولا تسمح بإعادة الخلق من جديد، ولذلك هذه النظرية تخدم الملحدين الذين يقولون: (وَ قَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، ولذلك نحن المسلمون ننكر نظرية التطور لأنها تنكر إعادة الخلق وهذا تعارض واضح مع القرآن.

لماذا (خلق) وليس (جعل)؟

لماذا نجد آيات كثيرة تتحدث عن الرتق والفتق والحبك والرجع والصدع وأوتاد الجبال... وكلها آيات مطابقة مئة بالمئة لما كشفه العلماء حديثاً من أسرار الكون... بل يأتي التعبير القرآني مطابق تماماً للمصطلح العلمي مثل: البناء الكوني، الدخان الكوني، المصابيح الكونية...

فالقرآن دائماً يأتي مطابقاً للحقيقة العلمية، ولكن نظرية التطور لو كانت حقيقة علمية لرأينا آيات الخلق مطابقة لها، والله تعالى لا يمنعه شيء أن يتحدث صراحة عن تطور الكائنات، كيف لا وهو خالقها، فهل الله تعالى لا يعرف كيف يعبر عن خلقه قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

إن الله أعلم بخلقه وأعلم بكيفية خلق الكائنات.. قال تعالى: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140]. ولذلك كل من يدعي أن القرآن ليس كتاب فيزياء أو كيمياء أو طبيعة... نقول: إنه كتاب خالق الكون ولا يمكننا أن نعلم الله تعالى لأنه يعلم كل شيء!! قال تعالى: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحجرات: 16]. كما قال تعالى: (وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ) [الإسراء: 55].



القرآن الكريم غالباً ما يستخدم كلمة (جعل) مع العمليات التي فيها تطور، مثل نشوء الجبال من اصطدام الألواح الأرضية.. فعبر عن هذه العملية بقوله تعالى: (وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل: 81].. فالظلال ليست مخلوقة إنما هي نتيجة لمخلوق، فالظل يتشكل كنتيجة لحجب ضوء الشمس.. كذلك البيوت في الجبال هي نتيجة النحت أو نتيجة عوامل طبيعية... وهكذا القرآن دقيق جداً في استعمال كلمة (خلق).

الله تعالى لم يذكر خلق الجبال أو البحار أو الأنهار... لأن تشكل الجبال تم عبر تغيرات حدثت على الألواح الأرضية.. وكذلك الماء لم يُخلق خلقاً بل جاء نتيجة عمليات فيزيائية وكيميائية حدثت في الكون.. ولكن عندما يتحدث عن الإنسان يقول (خلقنا) أما الجبال فيقول (جعلنا).. قال تعالى: (وَ جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء: 31].  وعن الماء (أنزلنا) وكذلك الحديد....

إذاً كلمات القرآن دقيقة جداً فعندما يتحدث عن السموات والأرض يقول (خلق) أما عندما يتحدث عن الظلام والضوء فلا يقول خلق بل (جعل) لأن النور هو نتيجة احتراق الوقود النووي في النجوم.. فالظلام مثلاً ليس مخلوقاً لأنه نتيجة غياب الضوء، ولذلك قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]. فقد استخدم القرآن كلمة (خَلَقَ) للتعبير عن خلق السماء.. أما كلمة (جَعَلَ) فقد استخدمها القرآن للتعبير عن الظلام!

الآن تأملوا معي هذا النص الرائع:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5].

هنا تصريح واضح ومباشر أن الله خلقنا من تراب، وهذا يؤكد أن الله سيعيد خلقنا يوم القيامة من تراب، فهو يبدأ الخلق ثم يعيده، وهذا ينسجم مع حقائق القرآن أكثر بكثير مما لو قلنا إن الكائنات تطورت عن بعضها.. قال تعالى: (وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَ صِهْرًا وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) [الفرقان: 45].

فالإيمان بنظرية التطور يعني الإيمان بالمصادفة والعشوائية والطبيعة... الإيمان بالتطور يعني إنكار إحياء الموتى يوم القيامة.. لأنه حسب قوانين التطور لا يمكن إعادة الخلق بعد فنائه.. والله يقول: (وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم: 27]، فكيف يمكن القول بأن التطور لا يتناقض مع القرآن؟

احتمالات الخلق

هناك نظريتان للخلق، الأولى تعتمد على النشوء والارتقاء والتطور، والثانية تعتمد على الخلق المباشر.. دعونا نناقش كلتا النظريتين أو الاحتمالين.

الاحتمال الأول أن الله تعالى خلق المخلوقات وفق التطور.. وبالتالي فإن آيات الخلق في القرآن يجب إعادة تفسيرها بما يتناسب مع نظرية التطور.. وهذا سوف يوقعنا بمشكلات كثيرة مع كتاب الله، فكتاب الله ليس مجالاً للتجربة والقول بالرأي وتحميل آياته ما لاتحتمل من المعاني، ونكون بذلك قد وقعنا في خطأ كبير..

وماذا لو أثبت العلماء بعد مدة أن نظرية التطور خاطئة مئة بالمئة؟ ماذا سيكون رد فعل من يؤمن بالتطور؟ لذلك أحب أن أطمئن كل أخ مسلم أن نظرية التطور لن تصبح حقيقة علمية، لأن علماء الغرب منذ أكثر من 150 عاماً يحاولون إثباتها ولم يفلحوا.. أتوا بجماجم مزورة، وبمتحجرات وهمية، وأوهموا الدارسين وطلاب الجامعات أن التطور حقيقة علمية... وفعلوا الكثير ولم يتمكنوا حتى الآن من تقديم دليل علمي واحد فقط على صدق التطور إلا دليل ظاهري هو التشابه بين الكائنات.. لذلك التطور لم يحدث على الإطلاق.

الاحتمال الثاني أن يكون الله تعالى قد خلق الكائنات خلقاً مباشراً.. وهذا ما تؤيده المعطيات والدلائل العلمية من علم المتحجرات وعلم الوراثة وعلم التشريح وعلم تصميم الكائنات وعلم الاحتمالات وعلم المنطق أيضاً... وعلوم كثيرة أخرى... وتؤيده الآيات الصريحة في القرآن.. فمالذي يمنع أن نعتقد بهذا الاحتمال الذي يطابق العلم والقرآن؟!

أيهما أفضل بالنسبة لله تعالى، أن يخلق المخلوقات بشكل مستقل أم بالتطور؟

الله تعالى قادر على كل شيء.. والأقرب للعقل والمنطق أن الله تعالى يخلق الكائن الحي من الماء مثلاً خلقاً مباشراً... لأن تطوير كائن ما ليتحول إلى كائن آخر جديد يعني أن الله تعالى مثلاً يأتي بسمكة ويغير المعلومات المخزنة في جيناتها لتتحول إلى حيوان بري له أرجل وبشكل مفاجئ.. لماذا يقوم الله تعالى بذلك ثم يعبر عن هذه العملية التطورية بكلمة (خلق)؟ هذا مخالف للقرآن وللعلم أيضاً..

الانفجار الكامبري كما قلنا أنتج عدداً هائلاً من الكائنات الحية في نفس الوقت.. ولذلك هل الله تعالى قام بعمليات تطوير في نفس اللحظة.. ولماذا يقوم بذلك وهو يملك القدرة على الخلق من الماء.. الله يقول: (وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) [النور: 45].. فهذه الآية تؤكد أن الله خلق جميع الدواب من حشرات وحيوانات من ماء.. فلماذا أساساً نفترض أن المخلوقات تطورت من بعضها؟ وما الفائدة من هذه الفرضية؟ هل زادت فهمنا لسر نشوء المخلوقات، أم زادت الأمر تعقيداً وزادت العلماء حيرة؟

لو كانت هذه الدواب تتطور من بعضها لقال: والله جعل كل الدواب من الماء.. ولكن قال: كل دابة، كأنه يريد أن يحدد لنا أن كل جنس من أجناس هذه الحيوانات إنما خلق من الماء خلقاً مباشراً.

تخيّل أن أحد مصممي الكمبيوتر طور جهازاً بمظهر جديد ومزايا جديدة وتمت إضافات كثيرة على الكمبيوتر القديم مثل تطوير الشاشة العادية إلى شاشة لمس، تطوير الأزرار العادية إلى أزرار لمس مثلاً، تطوير الغلاف البلاستيكي إلى غلاف معدني،... بالإضافة لتطوير المعالج البدائي القديم إلى معالج سريع جداً... تطوير أسلوب التبريد وتقليل استهلاك الطاقة... وأخيراً تطوير برنامج التشغيل القديم إلى برنامج تشغيل حديث ويناسب هذه المواصفات الجديدة...

الآن لو طلبنا من المصمم أن يأخذ الكمبيوتر القديم ويجري تعديلات عليه لينتج لنا الكمبيوتر الجديد.. إنه سيقول على الفور: هذا مستحيل تماماً، لأن الشاشة القديمة ذات الدقة المنخفضة لا يمكن أن تصبح Full HD مهما فعل المصمم.. الغلاف البلاستيكي لا يمكن أن يتحول إلى غلاف معدني مهما قمنا بتطويره، المعالج القديم لا يمكن تطويره ليصبح سريعاً مهما فعلنا..

حتى أسوأ مصصم سوف يقول لنا: من الأفضل والأكثر كفاءة أن نقوم بتصميم كمبيوتر جديد وتصنيعه بشكل مستقل عن القديم.. هذا سيعطينا جهازاً أكثر كفاءة وأقل تكلفة وينمكن إنتاجه بشكل أسرع! لذلك عملية التطوير مستحيلة من الناحية العملية.

هذا ما يحدث أثناء خلق المخلوقات.. فالأفضل أن يتم تصمصم مخلوق جديد بمواصفات جديدة وخلقه بدءاً من عناصر الأرض، وتزويده ببرنامج تشغيل مناسب لهذا الكائن الجديد، وإعطائه التصميم المناسب للبيئة التي سيعيش فيها.. هذا من الناحية العملية أفضل بكثير من تطوير كائن قديم!!



لو كان التطور صحيحاً وبفعل الطفرات والاصطفاء الطبيعي وقوانين الطبيعة الصارمة.. إذاً لماذا بقيت البكتريا الأولى  Stromatolites التي نشأت قبل 3.5 مليار عام على حالها طيلة هذه المليارات من السنين ولم تتغير!! لماذا لم يؤثر عليها الزمن وعوامل الطبيعة والتغيرات المناخية والاصطفاء الطبيعي وقوانين الوراثة... إن وجود بكتريا تعيش منذ 3.5 مليار سنة ولم تتطور وهي تعيش وتتكاثر بطريقة عادية جداً وتشكل هذه المناظر الرائعة التي نراها في الصورة.. ولم يؤثر عليها الزمن، لهي دليل صارخ على أن التطور غير موجود أصلاً بل هو مجرد وهم!

التغير وليس التطور

هناك تغيرات مستمرة تخضع لها جميع المخلوقات في هذا الكون.. فالجبال ليست ثابتة إنما تتغير وتتحرك وتغير شكلها عبر ملايين السنين.. وكذلك الأنهار والبحار والنباتات... وحتى جميع الكائنات تتغير باستمرار.. حتى البشر يخضعون لقانون التغير، فعبر آلاف السنين يتغير شكل البشر قليلاً وتتغير ألوانهم وأحجامهم وقدرة نظامهم المناعي وحتى حجم الدماغ يتغير مع الزمن.. ولكن في النيجة النيات يبقى نباتاً والسمكة تبقى سمكة والقرد يبقى قرداً...

إذاً يمكنني القول بأن فكرة التطور أصلاً فكرة غير علمية ولا تمت للعلم بصلة! لأنه ليس هناك إمكانية لدى أي كائن أن يكتسب صفات جديدة تحوله وتطوره لكائن مختلف.. هذا الكلام مناقض لمبادئ العلم ولذلك عندما نوجه سؤالاً للتطوريين: أثبتوا لنا أن الكائنات تتطور.. يلجأون لخدعة الزمن.. ويقولون: إن التطور يحتاج لملايين السنين ولا يمكن تجربة ذلك عملياً!!



غالباً ما يلجأون لخدعة تطور الفيروس ويقولون إن الفيروسات تتطور بسرعة ويمكن رؤية ذلك في المختبر.. ويقدموا تجارب وصور تثبت أن الفيروس يتطور ويغير شكله.. ولكنه في النهاية يبقى فيروس!! وعندما نقول لهم إن الفيروس لم يتحول لكائن آخر، يعودون لخدعة الزمن ويقولون إن التطور يحتاج لملايين السنين! فكيف بكم تصدقون أن هذه الكائنات نشأت من بعضها وتطورت على الرغم من الاختلافات الهائلة بينها، وعلى الرغم من أنه لا يوجد أي دليل علمي على ذلك سوى بعض التشابهات!!

نحن نعلم علمياً أن الطفرات التي تحدث بشكل طبيعي في الكائن الحي لا تحدث كل يوم بل عبر آلاف السنين.. ولذلك يمكننا مراقبة النملة عبر ملايين السنين ونرى أن هناك تغيرات تحدث باستمرار تتعلق بشكل النملة وحجمها ولكنها تبقى نملة.. هذه التغيرات يمكن رصدها خلال ملايين السنين...

فالحيوانات التي ظهرت في العصر الكامبري قبل من 570 مليون عام، ظهرت بشكل مفاجئ.. ثم ظهرت بعد ذلك حيوانات أخرى عبر ملايين السنين.. ولكن هذه الحيوانات منها ما هو يعيش حالياً على الأرض ولم تحدث فيه إلا تغيرات طفيفة من حيث الحجم والشكل وبعض الخصائص.



هناك كائنات عملاقة مثل الديناصورات ظهرت وانقرضت خلال ملايين السنين ويجهل العلماء حتى الآن سبب انقراضها.. وهناك كائنات كثيرة ظهرت في نفس الفترة ولم تنقرض حتى اليوم، وهي تعيش وتتكاثر ولم تتغير إلا قليلاً.. فحسب نظرية التطور يجب أن يعمل الاصطفاء الطبيعي على تطوير هذه الحيوانات وعدم تركها من دون تغيير!!

الطفرات لا يمكن أن تنتج مخلوقاً جديداً

كذلك الطفرات التي تحدث في مخلوق ما لا يمكنها أن تنتج مخلوقاً آخر بمواصفات جديدة ويعمل بكفاءة عالية، ولذلك مبدأ الطفرات الوراثية هو مبدأ خاطئ من أساسه.. وهذه التغيرات أو الطفرات تتم على الجنس الواحد ولا تستطيع تحويل جنس إلى آخر..

وإننا نقول لكل من يؤمن بنظرية التطور أرجوكم أعطونا دليلاً علمياً واحداً على تطور كائن إلى كائن آخر.. لا نريد أكثر من مثال واحد فقط وسوف نقتنع معكم بالتطور! ولكن الإجابة تكون دائماً بعض المتحجرات التي لا علاقة لها بالتطور.. وبعض الأمثلة من علم الهندسة الوراثية وبعض الصور لأجزاء متشابهة بين كائن وآخر... هذا كل ما يقدمونه..



كل ما يفعله علماء التطور أنهم يخدعون الناس وهم يعلمون بذلك.. فهذه صورة لإنسان نبراسكا Nebraska Man وهو مرحلة متوسطة بين القرد والإنسان.. تم بناء هذه الصورة على ضرس وُجد متحجراً عام 1917 في أمريكا الشمالية، وقد تم قبوله في المجتمع العلمي كاكتشاف عظيم يؤكد نظرية التطور عام 1922..



وقد ثار خلاف بين علماء التطور هل هذا الضرس يعود لإنسان أم لقرد.. وقرروا أنه شبيه إنسان وأطلقوا عليه مصطلحاً علمياً Hesperopithecus haroldcooki ولكن بعد سنوات قليلة وفي عام 1925 عثر على أجزاء أخرى تبين أن الضرس يعود لخنزير بري منقرض!! فلا هو إنسان ولا هو قرد، وهكذا يخدع التطوريون الناس بطرق بدائية جداً.

كذلك فإن إنسان نياندرتال الذي اعتبر كمرحلة متوسطة بين القرد والإنسان.. أثبتت التحاليل والدراسات أنه بشر مثلنا، بل أثبتت دراسة علمية جديدة أن هذا الإنسان كان يتزوج من الإنسان الحديث وهذا الاكتشاف يقدر أن هذا الإنسان عاش قبل أكثر 100 ألف سنة وأن التزاوج حدث قبل 65000 سنة؟ وهذا يعني أنه لا يوجد إنسان قديم وإنسان حديث.. بل يوجد نوع واحد من البشر (بألوان وأحجام مختلفة) ظهر فجأة على الأرض.. هذا ما يجب أن يعتقده أي إنسان يحترم عقله!



حتى الإنسان الذي يدعى نياندرتال Neanderthals والذي قالوا إنه بشر غير عاقل ورسموا له صورة تخيلية على أنه بين القرد والإنسان (طبعاً الصورة ليس لها علاقة بالحقيقة هي فقط لخداع الناس وتزوير الحقائق والانتصار لفكرة التطور)... تبين يقيناً أنه إنسان عاقل له نفس خصائص الإنسان العادي مع اختلافات قليلة في بعض الأحجام.. وهناك دراسة تؤكد أن هذا الإنسان كان لديه ثقافة عالية ويؤمن بالآخرة، أي أنه يشبه الإنسان الحديث، وأنه لا توجد أية مراحل متوسطة كما يدعي التطوريون!!

ماذا لو أثبت العلم التطور؟

لنفرض جدلاً أن الكائنات تطورت من بعضها وأثبت العلم هذا الأمر يقيناً.. فإن العلم لن يثبت أن الإنسان تطور من مخلوق سابق مهما توصل إلى حقائق وأسرار واكتشافات.. سوف تثبت الأيام القادمة أن الإنسان بالذات خُلق خلقاً مستقلاً من طين...

إنني متأكد أن العلماء لن يستطيعوا أن يثبتوا نظرية التطور مهما فعلوا.. وأنه يجب أن يكون لدينا علماء يقومون بأبحاث في مجال علم الأحياء لإثبات هذا الأمر علمياً.. وقد يسخّر الله لهذه القضية من يخدمها ويظهر الله الحق على يديه.. إنه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.

لذلك أرجو من كل أخ مسلم قد اقتنع بالتطور أن يسأل نفسه هذه الأسئلة: هل يوجد دليل علمي على حدوث التطور؟ هل يوجد تجربة علمية واحدة أثبتت تطور كائن لآخر؟ هل يوجد متحجرة واحدة لمخلوق كان في مرحلة التطور بين مخلوقين.. أم أن كل المتحجرات التي عثر عليها حتى الآن هي لمخلوقات كاملة بتصميم مثالي؟ هل يوجد عالم واحد استطاع حساب الطفرات التي حدثت لتطور كائن إلى كائن آخر؟ وهل يوجد عالم قام بحساب الزمن اللازم لحدوث تطور مخلوق إلى مخلوق آخر؟

وهل يوجد عالم واحد تمكن من تحديد كائن محدد تطور من كائن محدد آخر وخرج ببحث علمي يؤكد فيه هذا التطور؟ وهل يوجد باحث استطاع أن يحدد لنا سر الانفجار الكامبري الذي ظهرت فيه ملايين الكائنات بشكل مفاجئ؟

هل يستطيع أكبر عالم تطور أن يفسر لنا سر بقاء البكتريا التي خلقت قبل 3.5 مليار عام على الأرض دون تغير وهي لا تزال تعيش حتى الآن؟ هل يستطيع علماء التطور ولو اجتمعوا أن يكسفوا لنا كيف تشكلت الخلية الأولى على الأرض؟؟ وهل يستطيعون أن يخبرونا كيف تشكل الشريط الوراثي DNA من عناصر الأرض؟

وهكذا أسئلة كثيرة جداً لا نتنهي كلها تؤكد جهل علماء التطور بحقيقة الخلق، لذلك يا أحبتي اتركوا المخلوقات والجأوا إلى خالق الكون سبحانه وتعالى.. فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعطيكم الحقيقة الكاملة، وهو الكتاب الوحيد الذي يمنح أتباعه العقيدة الصحيحة.. هذه العقيدة هي التي ستلقون الله بها عز وجل.. ولن ينفعكم داروين ولا داوكينز ولا علماء الدنيا.. الذي سينفعكم القلب السليم والعقيدة السليمة.. هذه العقيدة هي التي مات عليها خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو الذي رأى كيف يحيي الله الموتى ورأى المعجزات وهو الذي علمه الله أسرار الخلق.. فقال: (وَ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 87-89]. نسأل الله تعالى أن نلقاه بقلب سليم وعقيدة صحيحة، كما لقيه الأنبياء والصالحون والصديقون... وأن نكون معهك يوم القيامة.. وحسُن أولئك رفيقاً..

ــــــــــــ

بقلم عبد الدائم الكحيل

- حديث الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن

الحديث السادس
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: \"إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب\". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم : (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات .... الخ )) اختلف العلماء في حد الحلال والحرام ، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحلال مادل الدليل على حله . وقال الشافعي رحمه الله : الحرام ما دل الدليل على تحريمه .

قوله صلى الله عليه وسلم ( وبينهما أمور مشتبهات )) أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام ، فحيث انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة .وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فلا يجب البحث عن ذلك ، بل ولا يستحب ،ويكره السؤال عنه .

قوله صلى الله عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) أي طلب براءة دينه وسلم من الشبهة . وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوه إلى أكل الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم )).. وعن علي رضي الله عنه أنه قال : إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره، فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذرا*ً.

وفي صحيح الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف )) وذلك لئلا يقال عنه أحدث .

قوله عليه الصلاة والسلام( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) يحتمل أمرين : احدهما أن يقع في الحرام وهو يظن أنه ليس بحرام . والثاني : أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما يقال : المعاصي بريد الكفر .لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها ،قيل : وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }. [آل عمران:112]. يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء .

وفي الحديث ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )).

أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة ، والحمى ما يحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعي فيما حماه الغير بخلاف ما إذا رعى إبله بعيداً من الحمى .واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به ، فالفرج محرم وحماه الفخذان لأنهما جعلاً حريماً للمحرم ، وكذلك الخلوة بالإجنبية حمى للمحرم ، فيجب على الشخص أن يجتنب الحريم والمحرَّم، فالمحرم حرام لعينه، والحريم محرم لأنه يتدرج به إلى المحرم .

قوله صلى الله عليه وسلم ( ألا وإن في الجسد مضغة )) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت الجوارح، وإذا طمحت طمحت الجوارح وإذا فسدت فسدت الجوارح . قال العلماء : البدن مملكة والنفس مدينتها،و القلب وسط المملكة ،و الأعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة ، والعقل كالوزير المشفق الناصح به ، والشهوة طالب أرزاق الخدام،و الغضب صاحب الشرطة ، وهو عبد مكار خبيث، يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل ،و دأبه أبداً منازعة الوزير الناصح والقوة المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن ، والقوة المفكرة في وسط الدماغ، والقوة الحافظة في آخر الدماغ ، واللسان كالترجمان ،و الحواس الخمس جواسيس ، وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات ، فوكل العين بعالم الألوان ، والسمع بعالم الأصوات ،وكذلك سائرها فإنها أصحاب الأخبار ، ثم قيل : هي كالحجبة توصل إلى النفس ما تدركه ، وقيل : إن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها النفس ، فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية ، وإنما يحصل صلاحه بسلامته من الأمراض الباطنة كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور، وأمراض القلب كثيرة تبلغ نحو الأربعين ، عافانا الله منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم.

- حديث من أحدث فى أمرنا

الحديث الخامس
عن أم المؤمنين أم عبدالله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))؛ رواه البخاري ومسلمٌ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ)).

ترجمة الراوي:
هي الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما، أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت من أحب نسائه إليه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بِكرًا غيرها، وكانت تصوم الدهر، صاحبة كرم وزهد، وفقه وعلم، وحفظ وفصاحة، قال الذهبي: هي أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ما أشكل علينا حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا)، وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجميع علم النساء كان علم عائشة أكثر، روي لها 2210 أحاديث، توفيت بالمدينة وعمرها ست وستون سنة، ودفنت بالبقيع سنة 85 هـ رضي الله عنها[1].

غريب الحديث:
♦ من أحدث: أنشأ واخترع من قِبل نفسه وهواه.
♦ في أمرنا: في ديننا وشرعنا الذي ارتضاه الله لنا.
♦ ما ليس منه: مما ينافيه ويناقضه.
♦ فهو ردٌّ: مردود على فاعله؛ لبطلانه وعدم الاعتداد به.

منزلة الحديث:
قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، وقال: يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع[2].

قال النووي - رحمه الله -: إنه قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وإنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في رد البدع والمختَرَعات، وهو مما يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات[3].

قال ابن حجر الهيتمي - رحمه الله -: هو قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، بل من أعظمها وأعمها نفعًا من جهة منطوقه؛ لأنه مقدمة كلية في كل دليل يستنتج منه حكم شرعي[4].

قال ابن دقيق العيد - رحمه الله -: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في رد كل بدعة وكل مخترع، واستدل به بعض الأصوليين على أن النهي يقتضي الفساد[5].

قال السعدي - رحمه الله -: هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله، أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه، فحديث عمر ((إنما الأعمال بالنيات...)) ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة ميزان للأعمال الظاهرة، ففيهما الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، اللذان هما شرط لكل قول وعمل، ظاهر وباطن[6].

شرح الحديث:
((من أحدث))؛ أي: من أوجد شيئًا لم يكن ((في أمرنا))؛ أي: شأننا الذي هو دين الإسلام.

((ما ليس منه))؛ أي: ما ليس له مستند من الكتاب والسنة.

((فهو رد))؛ أي: مردود لا يعتد به؛ لبطلانه.

قال السعدي - رحمه الله -: إن كل عبادة فعلت على وجه منهي عنه فإنها فاسدة؛ لأنه ليس عليها أمر الشارع، وإن النهي يقتضي الفساد، وكل معاملة نهى الشارع عنها فإنها مُلغاةٌ لا يعتد بها.

وقال النووي - رحمه الله -: وفيه دليل على أن العبادات من الغسل والوضوء والصوم والصلاة إذا فعلت على خلاف الشرع، تكون مردودة على فاعلها[7].

الفوائد من الحديث:
1 - عبادة لا تستند إلى دليل شرعي ترد في وجه صاحبها.
2 - الحث على الاهتمام بالدين.
3 - أن من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه، وعمله مردود عليه، وأنه يستحق الوعيد.
4 - الدين الإسلامي دين كامل لا نقص فيه.
5 - النهي يقتضي الفساد.

[1] السير (2/ 135)، حلية الأولياء (2/ 43)، أسد الغابة (7/ 188 رقم 7085)، الإصابة (4/ 359 رقم 704).
[2] فتح الباري (5/ 357 ح 2697).
[3] شرح مسلم للنووي (2/ 15 ح 1718)، الجواهر البهية (85).
[4] فتح المبين (96).
[5] شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (22).
[6] بهجة قلوب الأبرار (10).
[7] شرح الأربعين للنووي (31).



- حديث خلق الانسان

الحديث الرابع
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: حدّثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق: \"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحد كم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها\". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله : وهو الصادق المصدوق ، أي شهد الله له بأنه الصادق ، والمصدوق بمعنى المصدق فيه.

قوله صلى الله عليه وسلم (( يجمع خلقه في بطن أمه )) يحتمل أن يراد أن يجمع بين ماء الرجل والمرأة فيخلق منهما الولد كما قال الله تعالى : { خلق من ماء دافق * يَخْرُج من بين الصلب والترائب } [الطارق:6،7].

ويحتمل أن المراد أنه يجمع من البدن كله ، وذلك أنه قيل : إن النطفة في الطور الأول تسري في جسد المرأة أربعين يوماً ، وهي أيام التوحمة ، ثم بعد ذلك يجمع ويدر عليها من تربة المولود فتصير علقة ثم يستمر في الطور الثاني فيأخذ في الكبر حتى تصير مضغة ، وسميت مضغة لأنها بقدر اللقمة التي تمضغ ، ثم في الطور الثالث يصور الله تلك المضغ ويشق فيها السمع والبصر والشم والفم ، ويصور في داخل جوفها الحوايا والأمعاء ، قال الله تعالى : { هو الذي يصوَّرُكُم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيزُ الحكيمُ } [آل عمران :6]، ثم إذا تم الطور الثالث وهو أربعون صار للمولود أربعة أشهر نفخت فيه الروح ، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} يعني أباكم آدم { ثم من نطفة } يعني ذريته ، والنطفة المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهو الدم الغليظ المتجمد ، وتلك النطفة تصير دماً غليظاً {ثم من مضغةٍ} وهي لحمة { مُخَلَّقَةٍ وغير مُخَلَّقَة ٍ} [الحج:5]. قال ابن عباس مخلقة : أي تامة ، وغير مخلقة أي غير تامة بل ناقصة الخلق ، وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : (( إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه فقال : أي رب مخلقة ، أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها في الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب ذكرُ أم أنثى ؟ أشقي أم سعيدُ ؟ ، ما الرزق وما الأجل وبأي أرض تموت ؟ فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك . فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي إلى آخر صفته )).

ولهذا قيل : السعادة قبل الولادة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( فيسبق عليه الكتاب )) أي الذي سبق في العلم ، أو الذي سبق في اللوح المحفوظ ، أو الذي سبق في بطن الأم . وقد تقدم أن المقادير أربعة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع )) هو تمثيل وتقريب ، والمراد قطعة من الزمان من آخر عمره وليس المراد حقيقة الذراع وتحديده من الزمان ، فإن الكافر إذا قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم مات دخل الجنة ، والمسلم إذا تكلم في آخر عمره بكلمة الكفر دخل النار .

وفي الحديث دليل على عدم القطع بدخول الجنة أو النار ، وإن عمل سائر أنواع البر ، أو عمل سائر أنواع الفسق ، وعلى أن الشخص لا يتكل على عمله ولا يعجب به لأنه لا يدري ما الخاتمة . وينبغي لكل أحد أن يسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ويسعيذ بالله تعالى من سوء الخاتمة وشر العاقبة . فإن قيل : قال الله تعالى :{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نُضَيِّع أجر مَن أحسن عملاً }. [الكهف:30] ظاهر الآية أن العمل الصالح من المخلص يقبل ، وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع ذلك من سوء الخاتمة .

فالجواب من وجهين : احدهما أن يكون ذلك معلقاً على شرط القبول وحسن الخاتمة ،و يحتمل أن من آمن وأخلص العمل لا يختم له دائماً إلا بخير ، وأن خاتمة السوء إنما تكون في حق من أساء العمل أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ويدل عليه الحديث الآخر (( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )) أي : فيما يظهر لهم صلاح مع فساد سريرته وخبثها ،و الله أعلم .

وفي الحديث دليل على استحباب الحلق لتأكيد الأمر في النفوس وقد أقسم الله تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق } .[الذاريات:23]، وقال الله تعالى :{قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم }. [التغابن:7].

والله تعالى أعلم .

- حديث بنى الاسلام على خمس

الحديث الثالث
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: \"بني الإسلام على خمسٍ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان\". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم : (( بني الإسلام على خمس )) أي فمن أتى بهذه الخمس فقد تم إسلامه ، كما أن البيت يتم بأركانه كذلك الإسلام يتم بأركانه وهي خمس ، وهذا بناء معنوي شبه بالحسي ، ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم ، فكذلك البناء المعنوي ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :

(( الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين )) ،و كذلك يقاس البقية.

وقد ضرب الله مثلاً للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى : { أفمن أسس بُنيانَهُ على تقوى مِنَ الله ورضوان خيُر أم من أسس بنيانه علىشفا جُرُف هارٍ فانهارَ به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة109]. شبه بناء المؤمن بالذي وضع بنيانه على وسط طود أي : جبل راسخ ،وشبه بناء الكافر بمن وضع بنيانه على طرف جرف بحر هار ، لا ثبات له فأكله البحر فانهار الجرف فانهار بنيانه فوقع به في البحر ، فغرق ، فدخل جهنم .

قوله صلى الله عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس )) أي بخمس على أن تكون على : بمعنى الباء وإلا فالمبني غير المبنى عليه فلو أخذنا بظاهره لكانت الخمسة خارجة عن الإسلام وهو فاسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى من كقوله تعالى { إلا على أزواجهم }. [المومنون:6والمعارج :30]. أي من أزواجهم . الخمسة المذكورة في الحديث أصول البناء وأما التتمات المكملات كبقية الواجبات وسائر المستحبات فهي زينة للبناء . وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله ، قال وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )).

قوله صلى الله عليه وسلم: (( وحج البيت وصوم رمضان )). هكذا جاء في هذه الرواية بتقديم الحج على الصوم ، وهذا من باب الترتيب في الذكر دون الحكم ، لأن صوم رمضان وجب قبل الحج وقد جاء في الرواية الأخرى تقديم الصوم على الحج.

- حديث سيدنا جبريل

الحديث الثاني
عن عمر (رضي الله عنه) أيضاً قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): \"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً\"، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: \"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره\"، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: \"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك\". قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: \"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل\"، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: \"أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان\"، ثم انطلق. فلبثت ملياً، ثم قال: \"يا عمر أ تدري من السائل؟\" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: \"فإنه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم\". (رواه مسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن الإيمان : الإيمان في اللغة : هو مطلق التصديق ، وفي الشرع : عبارة عن تصديق خاص ، وهو التصديق بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره . وأما الإسلام فهو عبارة عن فعل الواجبات، وهو الانقياد إلى عمل الظاهر . قد غاير الله تعالى بين الإيمان والإسلام كما في الحديث ، قال الله تعالى :{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤِْمُنوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات :14].وذلك أنَّ المنافقين كانوا يصلون ويصومون ويتصدقون ، وبقلوبهم ينكرون، فلما ادَّعوا الإيمان كذَّبَهم الله تعالى في دعواهم الإيمان لإنكارهم بالقلوب،وصدقهم في دعوى الإسلام لتعاطيهم إياه . وقال الله تعالى: {إِذا جاءك المنافقون قالوا نشهدُ إنكَ لَرَسُولُ اللهِ واللهُ يعلمُ إنَّك لرسولُهُ واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنافقينَ لكَاذبون َ} [المنافقون :1]. أي في دعواهم الشهادة بالرسالة مع مخالفة قلوبهم ، لأن ألسنتهم لم تواطىء قلوبهم ،وشرط الشهادة بالرسالة : أن يواطىء اللسان القلب فلما كذبوا في دعواهم بَّين الله تعالى كذبهم ، ولما كان الإيمان شرطاً في صحة الإسلام استثنى الله تعالى من المؤمنين المسلمين قال الله تعالى : { فأخرجْنا مَنْ كَانَ فيها مِنَ المؤمنينَ فما وَجَدْنَا فيها غير بَيْتٍ مِنَ المسِْلمِينَ } [الذاريات : 35- 36] فهذا استثناء متصل لما بين الشروط من الاتصال ولهذا سمى الله تعالى الصلاة : إيماناً :قال الله تعالى : { وََمَا كَانَ اللهُ ليضيع إيمانكم } [البقرة : 143]. وقال تعالى : {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [الشورى :52] أي الصلاة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( وتؤمن بالقدر خيره وشره )) بفتح الدال وسكونها لغتان ، ومذهب أهل الحق : إثبات القدر ، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء في القدم ، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى ، وفي أمكنة معلومة وهي تقع على حسب ما قدره الله سبحانه وتعالى . واعلم أن التقادير أربعة :

(الأول) التقدير في العلم ولهذا قيل : العناية قبل الولاية ، والسعادة قبل الولادة ،واللواحق مبنية على السوابق ، قال الله تعالى {يؤفك عنه من أُفِك َ} [الذاريات :9] أي يصرف عن سماع القرآن وعن الإيمان به في الدنيا من صرف عنه في القدم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يهلك الله إلا هالكاً )) أي من كتب في علم الله تعالى أنه هالك .

(الثاني) التقدير في اللوح المحفوظ ، وهذا التقدير يمكن أن يتغير قال الله تعالى : {يمحو الله ما يشاءُ ويثبت وعنده أم الكتاب } [الرعد :39] وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول في دعائه : (( اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً )).

(الثالث) التقدير في الرحم ، وذلك أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد .

(الرابع ) التقدير وهو سوق المقادير إلى المواقيت ، والله تعالى خلق الخير والشر وقدر مجئيه إلى العبد في أوقات معلومة .و الدليل على أن الله تعالى خلق الخير والشر قوله تعالى:{ إن المجرمين في ضلال وَسُعُرُ * يوم يُسحَبون في النار على وجوهِهمْ ذوقوا مَسَّ سَقَر * إنَّا كلَّ شي خلقناهُ بقَدَر ِ} [القمر 47-49] نزلت هذه الأية في القدرية ، يقال لهم ذلك في جهنم، وقال تعالى { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق } [الفلق 1-2]. وهذا القسم إذا حصل اللطف بالعبد صرف عنه قبل أن يصل إليه .

وفي الحديث : (( إن الصدقة وصلة الرحم تدفع ميتة السوء وتقلبه سعادة )).

وفي الحديث ( إن الدعاء والبلاء بين السماء والأرض يقتتلان ، ويدفع الدعاء البلاء قبل أن ينزل )).

وزعمت القدرية : أن الله تعالى لم يقدر الأشياء في القدم ، ولا سبق علمه بها ، وأنها مستأنفة ، وأنه تعالى يعلمها بعد وقوعها ، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى جلَّ عن إقوالهم الكاذبة وتعالى علواً كبيراً ، وهؤلاء انقرضوا وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة يقولون : الخير من الله والشر من غيره ، تعالى الله عن قولهم ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( القدرية مجوس هذه الأمة )) . سماهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس ، وزعمت الثنوية أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ، كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره وهو تعالى خالق الخير والشر .

قال إمام الحرمين في كتاب ((الإرشاد )) إن بعض القدرية تقول : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم أخبار القدر ،و رد على هؤلاء الجهلة بأنهم يضيفون القدر إلى أنفسهم ، ومن يدعي الشر لنفسه ويضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يضيفه لغيره وينفيه عن نفسه .

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الإحسان قال : (( الأحسان أن تعبد الله كأنك تراه )) وهذا مقام المشاهدة لأن من قدر أن يشاهد الملك استحى أن يلتفت إلىغيره في الصلاة وأن يشغل قلبه بغيره ومقام الإحسان مقام الصديقين وقد تقدم في الحديث الأول الإشارة إلى ذلك .

قوله صلى الله عليه وسلم : ((فإنه يراك )) غافلاً إن غفلت في الصلاة وحدثت النفس فيها .

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الساعة فقال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) هذا الجواب على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم متى الساعة؟ بل علم الساعة مما استأثر الله تعالى به ، قال الله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة } [لقمان:34]. وقال تعالى : {ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة } [الإعراف:187}.وقال تعالى :{ وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً }[الأحزاب:63].

ومن ادعى أن عمر الدنيا سبعون ألف سنة وأنه بقي منها ثلاثة وستون ألف سنة فهو قول باطل حكاه الطوخي في ((أسباب التنزيل )) عن بعض المنجمين وأهل الحساب ، ومن ادعى أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فهذا يسوف على الغيب ولا يحل اعتقاده.

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن أماراتها قال : (( أن تلد الأمة ربتها )) الأمار والأمارة بإثبات التاء وحذفها لغتان ، وروي ربها وربتها ، قال الأكثرون هذا إخبار عن كثرة السراري وأولادهن ، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الإنسان صائر إلى ولده ، وقيل معناه الإماء يلدن الملوك فتكون أمة من جملة رعيته ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن الشخص يستولد الجارية ولداً ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه ، وهذا من أشراط الساعة.

قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأن ترى الحفاة العراة العالة ، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) إذ العالة هم الفقراء ، والعائل الفقير ، والعيلة الفقر وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر . والرعاء بكسر الراء وبالمد ويقال فيه رعاة بضم الراء وزيادة تاء بلا مد معناه أن أهل البادية وأشباهم من أهل الحاجة والفاقة يترقون في البنيان والدنيا تبسط لهم حتى يتباهوا في البنيان .

قوله : (( فلبث مليا )) هو بفتح الثاء على أنه للغائب ، وقيل : فلبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح . وملياً بتشديد الياء معناه وقتاً طويلاً.وفي رواية أبي داود والترمذي أنه قال : بعد ثلاثة أيام . وفي (( شرح التنبيه )) للبغوي أنه قال : بعد ثلاثة فأكثر ، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال . وفي ظاهر هذا مخالفة لقول أبي هريرة في حديثه ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ردوا علىَّ الرجل )) فأخذوا يردونه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم : (( رودا علىَّ الرجل )) فأخذوا يرودنه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم ( هذا جبريل )) فيمكن الجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال ، بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال ، وأخبروا عمر بعد ثلاث إذ لم يكن حاضراً عن إخبار الباقين .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم )) ، فيه دليل على ان الإيمان ،و الإسلام ،و الإحسان ، تسمى كلها ديناً ، وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ، وعلى ترك الخوض في الأمور ، وعلى وجوب الرضا بالقضاء . دخل رجل على ابن حنبل رحمه الله . فقال : عظني . فقال له : إن كان الله تعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وإن كان الخلف على الله حقاً فالبخل لماذا ؟ وإن كانت الجنة حقاً فالراحة لماذا ؟ وإن كان سؤال منكر ونكير حقاً فالأنس لماذا؟وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا ؟ وإن كان الحساب حقاً فالجمع لماذا ؟ وإن كان كل شيء بقضاء وقدر فالخوف لماذا ؟

(فائدة ) ذكر صاحب (( مقامات العلماء )) أن الدنيا كلها مقسومة على خمسة وعشرين قسماً : خمسة بالقضاء والقدر ، وخمسة بالاجتهاد ، وخمسة منها بالعادة ، وخمسة بالجوهر ، وخمسة بالوراثة . فأما الخمسة التي بالقضاء والقدر : فالرزق ، والولد ، والأهل ، والسلطان ، والعمر . والخمسة التي بالاجتهاد : فالجنة ، والنار ن والعفة ،و الفروسية ، والكتابة . والخمسة التي بالعادة : فالأكل ، والنوم ، والمشي ،و النكاح ،و التغوط .و الخمسة التي بالجوهر : فالزهد ، والزكاة ، والبذل ، والجمال ،و الهيبة. والخمسة التي بالوراثة : فالخير ، والتواصل ، والسخاء والصدق ،و الأمانة . وهذا كله لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم (( كل شيء بقضاء وقدر )). وإنما معناه : أن بعض هذه الأشياء يكون مرتباً على سبب ،وبعضها يكون بغير سبب ، والجميع بقضاء وقدر .

- حديث "إنما الأعمال بالنيات

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجـر إليه\". (رواه إماما المحدّثين: أبو عبد الله محمـد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة).

شرح وفوائد الحديث

دل الحديث على أن النية معيار لتصحيح الأعمال ، فحيث صلحت النية صلح العمل ، وحيث فسدت فسد العمل ، ، وإذا وجد العمل وقارنته النية فله ثلاثة أحوال :

(الأول) : أن يفعل ذلك خوفاً من الله تعالى وهذه عبادة العبيد .

(الثاني): أن يفعل ذلك لطلب الجنة والثواب وهذه عبادة التجار.

(الثالث): أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى وتأدية لحق العبودية وتأدية للشكر ، ويرى نفسه مع ذلك مقصراً ، ويكون مع ذلك قلبه خائفاً لأنه لا يدري هل قبل عمله مع ذلك أم لا ، وهذه عبادة الأحرار ، وإليها أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له عائشة رضي الله عنها حين قام من الليل حتى تورمت قدماه : يا رسول الله !

أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً ؟). فإن قيل : هل الأفضل العبادة مع الخوف أو مع الرجاء ؟ . قيل : قال الغزالي رحمه الله تعالى : العبادة مع الرجاء أفضل ، لأن الرجاء يورث المحبة ، والخوف يورث القنوط .

وهذه الأقسام الثلاثة في حق المخلصين ، واعلم أن الإخلاص قد يعرض له آفة العجب ، فمن أعجب بعمله حبط عمله ، وكذلك من استكبر حبط عمله.

الحال الثاني : أن يفعل ذلك لطلب الدنيا والآخرة جميعها ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عمله مردود واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الرباني: ((يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه )).

وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب (( الرعاية )) فقال : الإخلاص أن تريده بطاعته ولا تريد سواه . والرياء نوعان : أحدهما : لا يريد بطاعته إلا الناس والثاني : أن يريد الناس ورب الناس ، وكلاهما محبط للعمل ، ونقل هذا القول الحافظ أبو نُعيم في ((الحلية ))عن بعض السلف ، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بقوله تعالى الجَّبار الُمتَكِّبرُ سُْبحَان الله عَمّا يُشْركوْنَ ) (الحشر : 23) ، فكما أنه تكبر عن الزوجة والولد والشريك ، تكبر أن يقبل عملاً أشرك فيه غيره ، فهو تعالى أكبر ، وكبير ، ومتكبر .

وقال السمر قندي رحمه الله تعالى: ما فعل لله قُِبلَ وما فعل من أجل الناس رُدَّ . ومثال ذلك من صلى الظهر مثلاً وقصد أداء ما فرض الله تعالى عليه ولكنه طول أركانه وقراءتها وحسَّن هيئتها من أجل الناس ، فأصل الصلاة مقبول ، وأما طوله وحسنه من أجل الناس فغير مقبول لأنه قصد به الناس .

وسئل الشيخ عز الدين ابن عبد السلام : عمن صلى فطول صلاته من أجل الناس ؟ فقال : أرجو أن لا يحبط عمله هذا كله إذا حصل التشريك في صفة العمل ، فإن حصل في أصل العمل بأن صلى الفريضة من أجل الله تعالى والناس ، فلا تقبل صلاته لأجل التشريك في أصل العمل ، وكما أن الرياء في العمل يكون في ترك العمل . قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك ، والاخلاص ان يعافيك الله منهما .

ومعنى كلامه رحمه الله تعالى أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراها الناس ، فهو مُراءٍ لأنه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة ، أو زكاة واجبة ، أو يكون عالماً يقتدى به ، فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل ، وكما أن الرياء محبط للعمل كذلك التسميع ، وهو أن يعمل لله في الخلوة ثم يحدث الناس بما عمل ، قال صلى الله عليه وسلم: (( من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به )).

قال العلماء : فإن كان عالماً يقتدى به وذكر ذلك تنشيطاً للسامعين ليعملوا به فلا بأس . قال المرزباني ، رحمه الله تعالى عليه : يحتاج المصلى إلى اربع خصال حتى ترفع صلاته : حضور القلب ، وشهود العقل ، وخضوع الأركان ، وخشوع الجوارح ، فمن صلَّى بلا حضور قلب فهو مصلٍ لاهٍ ، ومن صلى بلا شهود عقل فهو مصل ساهٍ ، ومن صلى بلا خضوع الجوارح فهو مصل خاطىء ، ومن صلى بهذه الأركان فهو مصلٍ وافٍ .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات )) أراد بها أعمال الطاعات دون أعمال المباحات ، قال الحارث المحاسبي : الإخلاص لا يدخل في مباح ، لأنه لا يشتمل على قربة ولا يؤدي إلى قربة ، كرفع البنيان لا لغرض الرعونة ، أما إذا كان لغرض كالمساجد والقناطر والأربطة فيكون مستحباً . قال : ولا إخلاص في محرم ولا مكروه ، كمن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه ، ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع الله تعالى ، كالنظر إلى الأمرد ، وهذا لا إخلاص فيه بل لا قربة البتة ، قال : فالصدق في وصف العبد في استواء السر والعلانية والظاهر والباطن ، والصدق يتحقق بتحقق جميع المقامات والأحوال حتى إن الإخلاص يفتقر إلى الصدق ، والصدق لا يفتقر إلى شيء . لأن حقيقة الإخلاص هو إرادة الله تعالى بالطاعة ، فقد يريد الله بالصلاة ولكنه غافل عن حضور القلب فيها ، والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه ، فكل صادق مخلص ، وليس كل مخلص صادقاً ، وهو معنى الاتصال والانفصال ، لأنه انفصل عن غير الله واتصل بالحضور بالله ، وهو معنى التخلي عما سوى الله والتحلي بالحضور بين يدي الله سبحانه وتعالى .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال )) يحتمل : إنما صحة الأعمال أو تصحيح الأعمال ، أو قبول الأعمال ، أو كمال الأعمال ، وبهذا أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، ويستثنى من الأعمال ما كان قبيل التروك كإزالة النجاسة ، ورد الغصوب والعواري ، وإيصال الهدية وغير ذلك ، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة ، ولكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب ، ومن ذلك ما إذا أطعم دابته ، إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى فإنه يثاب ، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية فلا ثواب ، ذكره القرافي ، ويستثنى من ذلك فرس المجاهد ، إذا ربطها في سبيل الله فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها أثيب على ذلك كما في صحيح البخاري ، وكذلك الزوجة وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب وإن قصد أمراً آخر فلا .

واعلم أن النية لغة : القصد ، يقال نواك الله بخير : أي قصدك به . والنية شرعاً : قصد الشيء مقترناً بفعله ، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم ، وشرعت النية لتمييز العادة من العبادة أو لتمييز رتب العبادة بعضها عن بعض ، مثال الأول : الجلوس في المسجد قد يقصد للاستراحة في العادة ، وقد يقصد للعبادة بنية الاعتكاف ، فالمميز بين العبادة والعادة هو النية ، وكذلك الغسل : يقصد به تنظيف البدن في العادة ، وقد يقصد به العبادة فالمميز هو النية وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل حمية ويقاتل شجاعة ، أي ذلك في سبيل الله تعالى ؟ فقال: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى )) ومثال الثاني وهو المميز رتب العبادة ، كمن صلى أربع ركعات قد يقصد إيقاعها عن صلاة الظهر وقد يقصد إيقاعها عن السنن فالمميز هو النية ، وكذلك العتق قد يقصد به الكفارة وقد يقصد به غيرها كالنذر ونحوه ، فالمميز هو النية .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( وإنما لكل امرىء ما نوى )) دليل على أنه لا تجوز النيابة في العبادات ، ولا التوكيل من نفس النية ، وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية ، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح ، والتفرقة مع القدرة على النية . وفي الحج : لا يجوز ذلك مع القدرة ودفع الدين ، أما اذا كان على جهة واحدة لم يحتج إلى نية ، وإن كان على جهتين كمن عليه ألفان بأحدهما رهن فإدى ألفاً قال جعلته عن ألف الرهن ، صدق ، فإن لم ينو شئياً حالة الدفع ، ثم نوى بعد ذلك ، وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إلا هنا .

قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).

أصل المهاجرة المجافاة والترك ، فاسم الهجرة يقع على رموز :

الأولى : هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ففروا منه إلى النجاشي ، وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين ، قاله البيهقي .

الهجرة الثانية : من مكة إلى المدينة وكانت هذه بعد البعثة بثلاث عشرة سنة ، وكان يجب على كل مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة ،وهذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة ، وإنما الواجب الهجرة إلى رسول الله صلى عليه وسلم قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض هرباً وطلباً ، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام :

(الأول): الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وهي باقية إلى يوم القيامة ،و التي انقطعت بالفتح في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح )) . هي القصد إلى رسول الله صلى عليه وسلم حيث كان .

(الثاني): الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُ فيها السلف.

(الثالث) : الخروج من أرض يغلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم .

(الرابع) : الفرار من الأذية في البدن ، وذلك فضل من الله تعالى أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه في مكان فقد أذن الله تعالى له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه يخلصها من ذلك المحذور ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام حيث خاف من قومه فقال :{إٍنًّي مُهَاجِر ُ إِلى رَبًّي } [العنكبوت :26] . وقال تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاَ يَتَرَقَّب ُ} [القصص:21].

(الخامس): الخروج خوف المرض في البلاد الوخمة ، إلى الأرض النزهة ، وقد أذن صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج .

(السادس) الخروج خوفاً من الأذية في المال ، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه .

وأما قسم الطلب ، فإنه ينقسم إلى عشرة : طلب دين وطلب دنيا ، وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع :

(الأول) سفر العبرة قال الله تعالى :{أَوَ لَمْ يَسِيْروُا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلهِم } [الروم:9]. وقد طاف ذو القرنين في الدنيا ليرى عجائبها .

(الثاني) : سفر الحج .

(الثالث): سفر الجهاد.

(الرابع) : سفر العبرة المعاش.

(الخامس): سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وهو جائز لقوله تعالى : {لَيْسَ عَلْيكُمْ جُنَاحُ أَنْ تَبْتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكم } [البقرة : 198].

(السادس) : طلب العلم .

(السابع) :قصد البقاع الشريفة ، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )).

(الثامن) : قصد الثغور للرباط بها .

(التاسع): زيارة الإخوان في الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم: (( زار رجل أخاً له في قرية ، فأرسل الله ملكاً على مدرجته . فقال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، فقال : هل له عليك من نعمة تؤديها قال : لا ، إلا أنني أحبه في الله تعالى قال : فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته )). رواه مسلم . وغيره .

الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم .

الرابعة : هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه .

الخامسة : الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ، فلا يحل للمسلم الإقامة بدار الكفر ، قال الماوردي : فإن صار له بها أهل وعشيرة ، وأمكنة إظهار دينه ،لم يجز له أن يهاجر ، لأن المكان الذي هو فيه قدر دار إسلام .

السادسة : هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة ، بغير سبب شرعي ، وهي مكروهة في الثلاثة ، وفيما زاد حرام إلا لضرورة.

السابعة : هجرة الزوج الزوجة إذا تحقق نشوزها قال تعالى {واهْجُرُوهُنَّ فِي اَلمَضَاجِع ِ} [ النساء :34]. ومن ذلك هجرة أهل المعاصي في المكان ،و الكلام ،و جواب السلام وابتداؤه .

الثامنة : هجرة ما نهى الله عنه ، وهي أعم الهجر.

قوله صلى الله عليه وسلم : (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله )) : أي نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً.

(( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها .. الخ )) نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس ، فسمي مهاجر أم قيس . فإن قيل النكاح من مطلوبات الشرع فْلمَ كان من مطلوبات الدنيا؟ قيل في الجواب : إنه لم يخرج في الظاهر لها ، وإنما خرج في الظاهر للهجرة ، فلما أبطن خلاف ما أظهر استحق العتاب واللوم ،وقيس بذلك من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك الخروج لطلب العلم إذا قصد به حصول رياسة أو ولاية .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( فهجرته إلى ما هاجر إليه )) يقتضي أنه لا ثواب لمن قصد بالحج التجارة والزيارة ، وينبغي حمل الحديث على ما إذا كان المحرك الباعث له على الحج إنما هو التجارة ، فإن كان الباعث له الحج فله الثواب ، والتجارة تبع له إلا أنه ناقص الأجر عمن أخرج نفسه للحج ، وإن كان الباعث له كليهما فيحتمل حصول الثواب لأن هجرته لم تتمخص للدنيا ، ويحتمل خلافه لأنه قد خلط عمل الآخرة بعمل الدنيا ، لكن الحديث رتب فيه الحكم على القصد المجرد ، فأما من قصدهما لم يصدق عليه أنه قصد الدنيا فقط ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الأحد، 30 أكتوبر 2016

- الامانى وعلاجها (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)

قال الله تعالى مخبراً عن إبليس (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) سورة النساء آية 119،
 والأمانى جمع أمنية والأمنية تصوير شىء فى النفس تشتهى حصوله، وأغلبها من باب التخمين والظن وقد تكون بعد الروية، والاستناد إلى الأمانى أكبر خدع الشيطان التى يدخل بها على السالك فى طريق الله تعالى وما أفسد قلوب السالكين إلا الأمانى وكيف لا وهو لعنة الله عليه يقول: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)  سورة النساء آية 119،
وقد نهى الله تعالى الرسل عن الأمانى مع اعتقاد أنهم صلوات الله وسلامه عليهم لا يتمنون إلا الهداية للخلق وصفاء قلوبهم، وإقبالهم على الله تعالى، ومع ذلك فقد قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فى أُمْنِيَّتِهِ) سورة الحج آية 52، وإن كان (تمنى) هنا بمعنى قرأ وتلا، إلا أنه فيه من الأمنية ما فيه لهداية الخلق، ومع ذلك فالشيطان يلقى للسامعين ما لا يتكلم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
الخلوة بالنفس
فاحذر  أيها السالك المسترشد أيدنى الله وإياك بروحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تتصور نفسك فى خلوتك أو فى مجتمعك شيئاً فتشتهيه، وسد هذا المنفذ الشيطانى عنك بأن تنظر إلى الدنيا بعين البصيرة محتقراً لها ولما فيها إلا ذكر الله وما والاه، فإذا هجم عدو الله وعدوانا وحرك النفس إلى التخمين والظن وجعلها تجول جولة الأمانى،
 فأكبح جماحها بالنظر إلى ما فى نفسك، وما فى السموات والأرض من بدائع صنع الله وعجائب آيات الله وغرائب حكمة الله، فأن أبت عليك فتصور نشأتك الأولى نطفة ونهايتك الأخيرة فى الدنيا جيفة، وأنك ستتطور فى بطن أمك البرزخ بعد تطورك فى بطن أمك الدنيا ثم تقوم من بطن البرزخ إلى وطن الآخرة مولوداً ولادة جديدة قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
سورة إبراهيم آية 48، فتجرد يا أخى عن بشريتك وتخل عن إبليسيتك، وأسبح فى شهود تلك الحقائق مقبلاً فاراً من أمنيتك حتى تتجلى لك أنوار قوله تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)
سورة نوح آية 14، واحفظ أنفاسك فى كل طور ووطن فإن مان ومنا من مادة واحدة، والمين الكذب وكذلك الأمنية.

وإنما المريد السالك من يكون بين حالين:

-    إما عامل بيديه فى نفع لنيل خير لنفسه ولأخوته المؤمنين

-   أو عامل ببدنه وقلبه فى قيام بمأمورية أو سابح بنفسه فى ملكوت الله الأعلى مستجلياً بنور اليقين أنوار آيات الله تعالى بعد تزكية النفس وفراره بالإخلاص إلى الله تعالى بعد تزكية النفس وفراره بالإخلاص إلى الله تعالى فانياً عن الإخلاص، وكل وقت غير هذين الوقتين فهو عليه لا له.

. دسائس الأمانى
ومن تمنى شغل نفسه وجسمه عن القيام بما أحبه ويحبه الله تعالى وأضاع نفائس أنفاسه فيما لا ينفع ولا يضر ـ يأتى الشيطان لعنة الله عليه، للسالك المخلص المقبل على الله بكليته الفانى عن عمله وحاله ومقامه فيلج على قلبه ويقول له أن لك حالاً تؤثر على النفوس ومقاماً يسلب أحوال الرجال وعملاً يوجب لك الإكرام عند الله والفوز بالجنة، ويفتح عليه أبواب  تلك الأمانى فيقول تحصل لك كرامات وأنوار كذا، وشهرة كذا، وتقبل عليك الوجوه، ثم تقوى تلك الأمانى حتى يفسد عليه وقته وحاله ويصبح وقد أضاع أنفاسه ونفائسه أن كان من أهل السلوك، وإن كان ممن حجبته الحظوظ يصبح منتفخ الأوداج مرتفع الصدر مزدرياً بإخوانه بما حسنته له أمانيه مغروراً بما أدخله عليه الشيطان من الظن والتخمين فيوهم الناس ويخوفهم ويدعى  الدعاوى الباطلة.

ومن دسائس الأمانى أن يأتى الشيطان فى قلب السالك المسكين موسوساً له أنه لو فعل كذا وكذا من الحيل والشعوذة والخدع، لأقبل عليه الناس وواسوه فيضيع أنفاسه بغير جدوى، ومن خدعه للمريد أن يوسوس إليه أن كثرة الطاعات والعبادات جعلت لك المنزلة عند الناس والجاه والمال ...فأكثر منها، فيبيت لذلك يذكر الله ويصلى وهو مشرك فى عمله، وقد بلغ ببعض أهل الجهالة من السالكين أن يذكر فى الليل بعض أسماء الله آلافاً ويكون قدر الله له خيراً، فيقول هذا بسبب ذكرى وسهرى، وقد يغلبه النوم فى ليلة ويكون الله لم يقدر له خيراً أو قدر عليه بلية فيقول هذا من ترك العمل، فيقوى داعى الشرك فى قلبه وينسى الإخلاص لله والعمل لوجهه الكريم، مع أن أهل الكفر بالله لهم الجاه والمنزلة والسلطان فى الأرض، وهى  مهواة الضلال.

وقد يدخل عليه الشيطان من باب الأمانى فيقول إن فلاناً أذاك فاذكر الليلة كذا اسماً من أسماء الله عليه، ويبيت طوال الليل يذكر ليضر من آذاه، وقد يقدر الله شراً لمن دعا عليه فيقوى غروره ويجعلها كرامة ليرهب بها الخلق، وينسى الجاهل المسكين أن تلك الأمانى مفسدة للإيمان مزلقة للسالكين، وقد بنتشر ذكره فيقبل عليه الناس ليدعو على أعدائهم فيكون آلة من آلات الشيطان، وقد يأتيه الشيطان فى حال الأمانى فيقول أنك تبلغ مبلغ شيخيك وقد تزيد عليه، ودليل ذلك ما وهب الله لك من العمل والحال وإقبال الخلق، فتشبه به وطالب الناس أن يقوموا لك كما قاموا له، فتقوى تلك الأمانى حتى يصطفى بعض السالكين الذين لا علم لهم فيغرهم حتى ينصبوا له ويشتغلوا بعداوة إخوانهم ليبلغوه أمنيتهم الكاذبة،

 وقد يأتيه الشيطان فيصور له أنه يتزوج فلانة الغنية وأن والدها يزوجها له فليفوز بالبركة والخير ويستريح هو بها من عناء فقد الزوجة والمال، وكل هذه أمانى أهل الغرور، وقد يدخل الشيطان على السالك بالأمانى عن طريق أترك الأعمال فيقول إن إقبال الخلق لا يكون إلا بأن  تكون مثل الأولياء السابقين الذين تركوا الأعمال فجائتهم الأحوال،
وقد يلبس عليه الحق بالباطل فيقول لابد من الفناء والتجريد فيقع فيما حرم الله ويترك ما فرض الله ويحسب أنه تجرد، وأما أهل الله الصالحون فلهم أمانى أخرى يدخل عليهم منها الشيطان تخفى على كمل الرجال، منها أن يتمنوا هداية الخلق وتأليف بعض الملوك أو الوزراء أو الأمراء ابتغاء وجه الله تعالى، ويظنون أن تأليفهم وإقبالهم ينتج إقبال العامة على الله تعالى ويتأولون ذلك بما أخذ من السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا ذوى الهيئات)وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)وما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من تأليف أكابر قريش، وفى هذا الحال يقوى باعث نزغة فى قلوبهم فيتوددون إليهم ويغضون أبصارهم عن هفواتهم تأليفاً لهم مع البشاشة والطلاقة ودوام البشائر، فقد ينتج هذا العمل ضد مقصودهم ويحصل لهم المضرة بسبب ذلك، ممن تساهلوا معهم ولو لم يكن إلا ميل القلب أو ضياع الأنفاس لكفى ذلك مضرة،
 ومن تلك الأمانى ما يدعو بعض أهل المقامات إلى أن يشتد على الملوك وأمراء والوزراء ابتغاء وجه الله تعالى، متمنياً إقبالهم على الله تعالى فينتج ضد ما يقصد وكان يظن أن له مأخذاً من السنة وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله ويرضى لله وأن عمر بن الخطاب كان لا تأخذه فى الله لومة لائم ولكن هذا مقام وذاك مقام.

قال الشاعر:
تحنن على هداك الإله                          فإن لكل مقام مقال

فقد كان عمر بن الخطاب لا تأخذه فى الله لومة لائم، والله مكنه من أن يمحو كل عمل يغضب الله تعالى بالقوة والفعل، وكم من أمنية دخلت على قلب الرجال من تساهل للتأليف أدى إلى ما يغضب الله، ومن تشديد للإقبال على الله أدى إلى التنفير والاختلاف والتفرقة عن الحق،
ومنهم من يدخل عليه الشيطان فيقول له قم فامح البدعة وأحى السنة فيصيح تلك الصيحة غير عالم بما وضعه الله تعالى من الأسباب اللازمة لتلك الدعوة والأوقات المناسبة لها والإخوان الذين هم أعوان له على نيلها، فيصيح صيحة المتمنى فلا يلبث إلا وقد اسكت مرغماً ويظن أن له مآخذ من الكتاب والسنة منها أن كل رسول من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم قام منفرداً فى قومه ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ)سورة محمد آية 7، ومنها قوله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) سورة العنكبوت آية 69، ولكن كل ذلك لابد أن يكون بالحكمة التى أرادها الحكيم الخبير وبالأواسط أى الأسباب التى وضعها الله القادر الحكيم حتى ينتج الخير المراد، وأنت تعلم أن الله جل جلاله خلق السموات والأرض فى ستة أيام وهو قادر سبحانه أن يخلقها فى أقل من لمح البصر ولكنه قادر حكيم فوضع الأسباب بحكمة وقدرة.


ومن خدعه فى الآمانى أن يصور لأولياء الله تعالى إن أباحوا بالحكمة العلية أقبل عليهم الخلق وكثر أهل الحق وقل أهل الباطل وبذلك تتجدد السنة وتعلو الكلمة، وتقوى تلك الأمنية فى نفوسهم فيبيحون بالحكمة فيتلقاها غير أهلها من أهل النفوس اللقسة فتنزل الحكمة فى قلوب نجسة ونفوس شريرة فيفهمون الحكمة على قدر نجاستهم كما قال تعالى: (هُوَ الذى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)سورة آل عمران آية 7،

وقد ابتليت بأمثال هؤلاء حتى حصل منهم ما يخالف الكتاب والسنة من الاعتقاد وترك الفرائض والسنن ومخالفتى فى صريح الآية ودعوى أنهم أتباعى بالباطل غفر الله لى ولهم، فتكون تلك الأمنية فى الحقيقة بلية.

وهناك أمانى أخرى يدخل الشيطان على الرجال تخفى على أهل المقامات العلية، والتحفظ منها ملازمة المرشد والأدب له والاهتداء بوصاياه ودوام حفظ مكانة السالك معه حتى يبيحها له عند مناسباتها.

دواء الآمانى

قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) سورة الإسراء 82، فالقرآن هو الدواء والشفاء من كل تلك الأسقام، فعلى المريد السالك بل على الواصل المتمكن أن يرتل كل يوم من القرآن على الأقل جزءاً وعلى الأكثر سبعة أجزاء ليتمكن من رعاية الأدب فى التلاوة وملاحظة المعانى مستحضراً أنه يسمع كلام الله تعالى ليفهم سر الخطاب أمراً ونهياً ووعداً ووعيداً، ويتأمل فى القصص ليعلم أعمال من عجل الله لهم النقمة فيتحفظ منها مستعينا بالله تعالى وينظر إلى الدنيا بعين تشهد حقيقتها من خبر الله عنها وخصوصاً فى مثل قوله تعالى: () سورة آية 14، وفى قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)سورة التكاثر آية 1-2، وفى أمثالها من الآيات حتى تنقش تلك الأسرار على جوهر نفسه الزكية فتكون حصناً لها من الوقوع فى تلك المهاوى عند مقتضياتها البشرية والإبليسية أو البهيمية- قال تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)سورة آل عمران أية 101، ومن هجر القرآن سد عليه ميزاب الفضل العظيم النازل من السماء والمتوالى بفضل الله إليه، ولا شك يا أخى أن المرتل للقرآن جليس الله تعالى- قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)سورة العنكبوت آية 45، فسرها بعض العارفين بأن الله يذكر العبد عند ذكر العبد ربه بتلاوة القرآن فى الصلاة أو فى غيرها.


ويلى هذا الدواء فى نيل الشفاء إن شاء الله تعالى، الالتجاء إلى الصلاة عند ظهور علامات مرض النفس كما يلتجاء من أحزنه شأن من شئون الدنيا إلى الصلاة وهى السنة، وسقم النفس أشد بلاء من مصائب الدنيا فليتوضأ المؤمن ويحسن وضوءه ويقوم للصلاة خاشع القلب مبتهلاً إلى الله تعالى ويكثر الدعاء فى السجود أن الله تعالى يفرغ قلبه من تلك الأمانى المفسدة.

ويلى هذا الدواء دواء أظنه إن شاء الله تعالى يعيد العافية للنفس وهو استحضار الموت وشدته والقبر ووحشته والسؤال وهوله والنار وآلامها ثم يتذكر المؤمن عند الله تعالى المقبول لديه من البشائر عند الموت من الوسعة فى القبر والسياحة بروحه فى رياض الفردوس والعناية بجسمه وروحه عند قيامه من قبره وإكرام الله له بالبراق يوم البعث وجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دار البقاء فيزيل الله عن قلبه ظلمة تلك الأمانى وتشرق عليه أنوار التوحيد.

ويلى هذا الدواء دواء لمن لا عزيمة له وهو اعتزال كل موجب لتلك الأمانى والبعد عن كل شاغل عن الرب جل جلاله ما دام يعلم أن فى اعتزاله الخلق أنسا لقلبه وصفاء لسره.

وهناك أدوية أخرى وهى ترك المألوفات وكثرة الصيام وصحبة الفقراء والمساكين الذين برؤيتهم يرى نعمى الله عليه ومجالسة أهل العاهات والبلايا، هذه الأدوية كلها إذا لم يوجد المرشد الطبيب الروحانى الذى يجب على السالك أن يكاشفه بكل أسراره وخواطره ليعالجه بما ناسب حاله، وعجباً لإنسان يخاف على فقد صحته فيسارع إلى الطبيب ولو كان كافراً فيكشف له عورته ولا يحافظ على مداواة الأمراض التى بإهمالها يخلد بها فى جهنم، وأعجب من هذا أن الإنسان يعادى والده وأبنه إذا علم أنه نقص من ماله شيئاً، ويحب أعدى عدوه الذى ينقص دينه وإيمانه فقد يصاحب أهل الأهواء المفسدين أو الأغنياء المتكبرين ويبيع دينه حباً فيهم لينالوا خيرا ويفرح بما يغضب الله ويغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضى من لا خلاق لهم، وقد يبيع دينه ليرضى كافراً أعوذ بالله من العمى ومن الأمانى التى توقع فى غضب الله تعالى، وقدر ركب دواء لكل تلك الأمراض وهو المحافظة على العمل بالسنة وعليها، وقراءة تراجم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله تعالى المخلصين التابعين لهم بإحسان، وهجر كل أخ يشغلك عن الحق... والله تعالى أسأل أن يحفظنى وإخوتى المؤمنين جميعاً من الذنوب الموجبة للنقمة ومن الذنوب التى تغير النعم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يمنحنى ويمنحهم الاستقامة والكرامة والعناية.. آمين.

أعلم أيها الأخ المسترشد أيدنى الله وإياك بروحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان نفس وجسم وحس، وبلاء الإنسان فى كل الأمراض النفسانية، فى الإنسان من الحس، ومن ملك حسه وقهره بالقرآن والسنة ويرى ربه سبحانه ويبلغ الدرجات العلية أن يكون ربانياً روحانياً عالماًً راسخاً فى العلم لأن الحس يقهر العقل والنفس والجسم، وهو باب الشيطان الذى يدخل منه على القلب، وذلك لأنه كان له غذاء يتغذى به فى الجنة وهو مسراته ببهاء جمال الحق وبهجته بأنوار التجليات التى تبهر العقول بضيائها الملكوتى فلما أن تمكن الشيطان من آدم عليه السلام فى الجنة كن سبباً فى معصية آدم وأكله من الشجرة فغضب الله على إبليس ولعنه لأنه من جسم نارى لا يصلح لخير ثم غضب على آدم وتاب عليه لأنه من طين وحكم عليه أن يعيش بكد وعناء، وغضب على الحس فحرمه من غذائه الذى كان يتغذى به فى الجنة حتى يعود إليها أن اختاره الله تعالى فهو فى غاية الجشع إلى غذائه يفتش عليه ولا يجده فيوقع نفسه النفس والجسم فيما يغضب الله تعالى، فهو وتلك القوة التى هى الحس منتشرة فى جميع الجسد وجنودها السمع والبصر والشم والذوق والمس والفرج والبطن فهى تقهر العقل، ولا يقوى على مدافعتها إلا إذا أعانه الله تعالى ووفق من يشاء فيهب له النور الذى تستبين به سبل الله تعالى وتظهر بشاعة الذنوب والمعاصى وقبحها ولديها فقد يقهر العقل الحس وقليل ما هم، لذلك أقول لك يا أخى.. أن الأمانى لابد منها للإنسان مادام الحس وقد يفقد الإنسان الحس وهو حى وليس الحى يلازم مادامت الحياة فإن بعض الناس قد يفقد سمعه وبصره وقد يفقد ذكره ويديه بالأمراض ويفقده بالنوم، وقد يفقده بما يحزن حزناً شديداً أو يفرح فرحاً شديداً وليس بمصيب من قال أن الحس لا يفارق الحياة فإنه قد يفارقها كما قررت لك، وإذا تقرر ذلك فيمكنك أيها المسترشد أن تجاهد نفسك أكبر الجهاد بالمراقبة والرعاية حتى لا يؤثر عليك الحس تأثيرا يوقع فى الخطيئة ونسيان يوم الحساب وجاهده لتلوح لك آيات الله يوم جلية فيما تراه وتسمعه وتشمه وتذوقه وتلمسه وتتخيله وتتوهمه فتكون آيات الله أقرب إليك من كل ملموس بأى قوة من القوى الحسية، وقد ترقى إلى مقام فوق ذلك حتى تفقد الحس الذى به شهود الآيات بدوام جلاء جوهر نفسك بالتزكية وبدوام عناية الله بك حتى ترى وجه ربك حيث وليت وجهك وتكون عند ذلك ملكوتياً لا ترى إلا ملكوت السموات والأرض وكما أن للسالك قبساً يقتبسه من أنوار الملكوت حال مجاهدته حسه فإن الحس قد يقلى سلطانه على السالكين فيوقعه فى السيئات فإذا تذكر أسرع إلى التوبة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)سورة الأعراف آية 201، وقال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)سورة النساء آية 31،
وقال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)وكل سالك لا يسلم من السيئات ولو بنسيان ذكر الله تعالى أو اشتغاله بالنوافل وترك الواجبات التى يقتضيها الوقت قال دواد عليه السلام:ـ (البار يسقط سبع مرات فى اليوم)ومعنى ذلك والله أعلم  أن الأعضاء السبعة لابد لكل عضو منها من السقوط فى كل يوم ولو مرة ولو بترك القيام بشكر الله على سوابغ الآلاء المتوالية على كل عضو من أعضائه فى كل نفس بل وعلى كل شعرة وعظم وعرق فإن عرقاً صغيراً لو تنبه لجعل الحياة مرة بما يناله الإنسان من أصغر عرق فى جسمه، وفى الجسم مئات من العروق ساكنة لو ضرب منها عرق ليتمنى الإنسان موته وهو يغفل عن النعم المحيطة به وفى نفسه قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)سورة النحل آية 18،
 فإذا كان البار يسقط سبع مرات فى اليوم فكيف بالفاجر؟!. ومن هذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحدكم بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته)ـ ومعنى ذلك أن الأعمال الصالحة فعل الله فى العبد وهى آجل نعمة من نعم الله علينا يعجز الإنسان عن شكرها، ومن غفل عن تلك الملاحظة فهو تارك للشكر على النعم الغزيرة وقد قرر الله تعالى الخطاب ليعم فضله على الناس بالعفو والمغفرة والتوبة ـ أسال الله سبحانه وتعالى أن يمنحنى وأهلى وأولادى وأخوانى العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة وأن يعينا على شكره وذكره أنه مجيب الدعاء.


 الامام محمد ماضى ابو العزائم

- التمسك بالسنة حصن الأمن

إن حكمة بعثة الرسل  وضع السنن منها التى بها حفظ قوام الأمة ونشر الفضائل بينهم وملء قلوبهم رحمة بإخوانهم حتى يكونوا رحماء بينهم، يسارع كل فرد من المسلمين فى الخير لإخوانه كما يسارع كل عضو من أعضاء البدن ليخدم البدن كله وهذا شىء بديهى، فكذلك المسلمون جميعهم كالجسد الواحد، وكل فرد منهم كالعضو فى الجسد فإذا أحب كل فرد نفسه كان العضو إذا انفصل من الجسد، ولا تحصل الألفة والرحمة فيما بينهم والتواد والعطف إلا بما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المعاملات والعبادات والأخلاق أما بقوله فقط أو بعمله فقط أو بهما معاً، وما قام به أهل العزائم من صفوة أصحابه رضى الله عنهم من المسارعة إلى نيل رضوان الله وفضله سبحانه فإنك تعلم أنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا ينطق عن هواه ولا رأيه وحظه، وقد فرض الله علينا طاعته قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) سورة النساء 59، فإذا التفتت جماعة عن العمل بسنته صلى الله عليه وسلم واتبعوا ما وضعوه برأيهم وهواهم وحظهم تفرقوا شيعاً وتعصبت كل فئة منهم لرأيها ففارقتهم روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكلهم الله إلى أنفسهم قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) سورة الأنعام آية 158، وهل استبدال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرأى والحظ يرضى به مسلم لنفسه؟!! فكيف لو استبدلوا لو كتاب الله جل جلاله وحكم الله سبحانه بأحكام وضيعة وضعها أهل الكفر وحكموا بها على جماعة المسلمين والقرآن بين ظهرانيهم لا يعمل به بل جعلوه تمائم وألفاظاً تتلى ليتسلى بها الحزين وليفرح بها الفارح وكأن الله أنزله ليحفظه أهل العاهات ويتعلمونه <سبباً> سبيلاً للكسب وكفى بذلك تعسة لمن ظهر فيهم هذا الأمر الشنيع وهم عنه ساهمون قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) سورة الفرقان آية 30.



لعلك أيها الأخ الصالح وفقنى الله وإياك للعمل بمراضيه ظهر لك أن العمل بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى سلاح يدفع به المسلم الشيطان والظلمة والفساق ونفسه إلامارة بالسوء وشر غير المسلمين عن أن ينالوا من المسلمين ما يحبون وعندى أن الجهاد فى هذا الأمر من الجهاد الأكبر الذى أجمله فى قوله صلى الله عليه وسلم: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس)وكيف لا يبذل المسلم دمه وماله لتكون كلمة الله هى العليا وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم هى المعمول بها؟!.



ولا ينبغى للمسلم أن يقول ترك العلماء ما يجب عليهم لأن كل مسلم مطالب أن يعلى كلمة الله بقدر استطاعته ويعمل بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته، بل ولا ينبغى للعلماء أن يقولوا ترك الأمراء والحكام أو يقولوا أنا نقول ولا يسمع لنا فإن هذا العذر لا ينجى من الله تعالى حتى يبلغ الجهد، ثم إذا وصل الأمر إلى الجهد الذى يتعسر فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويرجع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: (فعليك بخويصة نفسك ودع أمر العامة)وهذا هو المجاهد المعذور.

إما من يندمج فى أهل الفساد ويجالسهم مجانساً لهم ويداينهم مشاكلاً لهم ويعتذر، فهذا عذر من أشرب قلبه حب الدنيا.

ومتى عجز المسلم عن دفع البدعة عمل هو بالسنة فى نفسه مهما كلفه ذلك...حتى يكون فرداً فى عين الله تعالى محبوباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما فى وسعه، وكفاه شرفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشتاق إليه وأنزله منزلة الأخ، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يضعوا سنناً للناس لأخطئوا جميعاً، وإن واضع السنن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يتكلم عن وحى الله المعصوم بعصمة الله تعالى.

وشتان بين أن يضع للناس خالق الخلق الذى فطرهم على ما فطرهم عليه العليم بخيرهم وشرهم، وأن يضعها ذو حظ وهوى يجوز عليه الخطأ والغلط والنسيان...أسال الله تعالى أن يمنحنا الغيرة لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والحمية لتجديدها وإعلائها والعمل بها حتى نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعية الاتحادية التى وصف الله أهلها فى آخر الفتح.



الأئمة القائمون

أئمة الهدى هم الروح السارية فى الجسد الإسلامى ليحيا حياة طيبة عاملاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلموهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يحفظ الله بهم شريعته ويعينهم فيسيرون فى الناس بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم محافظين على الأحكام من أن يغيرها أو يعمل بخلافها المفسدون، وهم على يقظة تامة لحراسة الشرعية المطهرة وتعظيم شعائر الله تعالى وإقامة حدوده سبحانه والمسارعة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهم الذين يمنعون الجاهلين من أن يسيروا بغير سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً من ضياع الشريعة وفساد جماعة المسلمين بما يقوم به أهل الضلال بين العامة فيغيرون أحكام الله تعالى بالبدع والضلالات بآرائهم الفاسدة وعقائدهم الزائغة بالكيد والخديعة التى يخدعون بها قلوب العامة فيخرجونهم من حصن الشريعة المطهرة ويوقعونهم فى مساخط الله تعالى ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة بهم قوام الدين وحياة الشريعة وحفظ أركانها، قال سيدنا عثمان ابن عفان رضى الله عنه: ما يزغ السلطان أكثر مما يزغ القرآن.



إذا تهاون أئمة المسلمين فى القيام بواجبهم تمكن الخوارج المفسدون من الأئمة فافسدوا العامة وشغلوا الخاصة، وأن الخارج على المسلمين بسيفه أخف ضرراً عن الخارج بعقيدته الزائفة ورؤايه المفسد لأن القلوب تميل إليه فيتفرق المسلمون بعضهم على بعض لأن الأمة ما اتحدت على الحق فالله تعالى معها ورسول الله صلى الله عليه وسلم معها، ومتى اختلفت الأمة التفت الله بوجهه الجميل عنهم ووكلهم إلى أنفسهم، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) سورة آل عمران آية 103.



أخلاق الأئمة

معلوم أن هؤلاء الأئمة القائمون بإعلاء كلمة الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم نوابه صلى الله عليه وسلم وورثة شريعته والقائمون مقامه عليه الصلاة والسلام فمكن لهم أن يتخلقوا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بحفظ الأمة وتدبير شئونها كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) سورة النساء آية 135، وقد بين الله سبحانه وتعالى أخلاقه فى نفسه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف آية 199، وبين سبحانه وتعالى أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع أمته فقال عز وجل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) سورة الحجر آية 94، وقد بينت لك مجمل هاتين الآيتين فى مواضع شتى فى الكتب السابقة فراجعها لتحصل علم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن أشرف صفاتهم التعصب بالمعنى الأكمل للدين حتى يبلغ بهم من التعصب من الحمية مبلغاً يجعل الرجل منهم يستهين بحياته عند المقتضيات ويرخص عنده كل غال وكذلك كل عزيز حتى لا تأخذه فى الله لومة لائم.



وقد تمكن أعداء الدين من إطفاء نور هذا الخلق الذى عليه مدار السعادة فى الدنيا والآخرة حتى جهلوا أكمل الأخلاق وأشرف الصفات، وساعدهم على ذلك من لا خلاق لهم من عبيد الدرهم والدينار الطامعين فيما يفنى، فإذا رأو ذلك تعصب فى الدين وغيرة عليه قالوا هذا متعصب جامد حتى صار الحسن قبيحاً والقبيح حسناً،. وقد بينت فضل التعصب فى كتاب الإسلام نسب: وأنه الأساس الأول الذى به يظهر الحق ويعلو.



ومن أخلاقهم الغيرة لله تعالى ببذل ما فى الوسع للمحافظة على حرمة الشريعة بالحمية حمية المؤمنين حتى يحفظ الله تعالى المسلمين من أن يدخل عليهم فساد فى دينهم من أعداء الدين العاملين على إطفاء نور الله تعالى بأفواههم والله سبحانه وتعالى أجل وأعظم من أن يمكن أعداءه من أهل دينه قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر آية 9، وكم لله من أحباب رخصت والله دمائهم فى هذا الجانب العظيم ورغبوا فى الآخرة بالشهادة فى سبيل الله تعالى، وأهل الغيرة يسارعون إلى كبح جامح الأعداء بكل أنواع الوسائل والتضييق عليهم خصوصاً المجاهرين بعداوة الشريعة المطهرة وإشاعة الأباطيل فى رسول الله صلى الله عليه، من الذين يبذلون الأنفاس والنفائس فى سبيل ذلك بين عامة المسلمين بالكتابة والكلام والاستعانة بالقوة والحيل مع فتح دور للعلوم المفسدة للأخلاق والعقائد ومستشفيات وإظهار الرحمة بالحيوانات ليلبسوا الحق بالباطل ويموهون على العامة قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) سورة التوبة آية 32.

ومن أخلاقهم يقظة القلب فى كل الأوقات احتياطياً من مكر الماكرين مهما أظهروا من التملق والكيد مع أخذ الحذر من الغفلة والنسيان فى معاملة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم المستترين بما يخفى على أهل الغفلة الجاهلين بمقاصد الأعداء قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) سورة هود لآية 113.

ومن صفاتهم الاستغاثة بالله تعالى عند الجهاد وملازمة الشكر له تعالى على كل حال لأن كل أحوال المؤمنين خير، ولهم صفات أخرى قلبية وهى ابتغاء فضل الله ورضوانه وتمنى الشهادة وحب إعلاء كلمة الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرح بفضل الله وبرحمته ودوام الاستغفار والتوبة بالرغبة والرهبة والخشية من الله تعالى التى تنتج نظر الأمير إلى نفسه بعين الاحتقار وأن عظمه الله فى عيون خلقه واعتقاده أنه رجل من المسلمين له مالهم وعليهم حتى لا يميز نفسه بشىء من دونهم طمعاً فى نيل عظيم فضل الله الذى دونه الدنيا وما فيها ومحافظة على دوام الصفاء معهم وحرصاً على نيل رضوان الله الأكبر.

رجال التنسك والقول:

هؤلاء الأئمة الذين اقامهم الله تعالى ليكونوا قدوة للعامة فجعل ألسنتهم رطبة بذكره وأبدانهم هينة لينة للقيام بما فرض سبحانه وما سنه صلى الله عليه وسلم وما تقرب به إلى الله الأئمة آل العزائم من العارفين من رواتب ووظائف وأوراد وهم أنواع: وكلهم حراس النفوس خوفاً من الإهمال فيما فرضه الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القربات ونوافل الخير وأنفع أنواعهم عمار مساجد الله تعالى المقبلون على الله تعالى بالكلية على طاعة الله تعالى والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة، وهم السرج المنيرة للعامة لأنهم يتشبهون بهم ويقتدون بهم، وأهم وظائفهم تزهيد المسلمين فى الدنيا وترغيبهم فى الآخرة بما فيها من النعيم المقيم واللذة الدائمة والفوز بخيرات الفردوس الأعلى.

وتلك الوظيفة من أهم الوظائف الإسلامية فإن قيام الأمراء بحفظ الحقوق ودفع المظالم دون ما يقومون به، لأن أصحاب الحقوق يطالبون بها وليس هناك مطالب بحقوق الله تعالى ألا هؤلاء القائمون مقام نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مساجد الله وفى بيوتهم ولولاهم لضاع أكثر الفرائض والسنن وتناسى الناس تلك القربات أو أكثرها فإذا تفضل الله تعالى على هؤلاء العباد بلسان الحكمة وحال النبوة بصحة الوارثة المحمدية إدوا على العامة شراب الحب وجذبوهم بالحال إلى الجمع على الله تعالى بعد البعد عنه فنشطت أبدانهم لطاعة الله وتحلت قلوبهم بمحبة الله تعالى وزهدوا فى الدنيا ورغبوا فى الآخرة، وإجلال الله تعالى وقد بينت صفاتهم وآدابهم فى كتب تذكرة المرشد والمسترشد.



ومنهم خطباء المنابر وهم الذين يذكرون الناس بتعظيم شعائر الله وإقامة حدود الله سبحانه وتعالى عن معاصيه جل جلاله ويهينون لهم ما يحبه الله من المعاملات يذكرونهم عاقبة الظلم والمعصية وعاقبة الطمع فى الدنيا ويرغبون فى الآخرة ونعيمها وأكمل صفة للخطباء أن يكونوا أول العاملين بما يبينوه للعامة خشية من أن يقولوا ما لا يفعلون فتقتدى الناس بعملهم ويتركون قولهم،.وتلك من فطر النفوس ولذلك فإن العباد والزهاد أنفع للعامة من الخطباء الذين يتركون العمل بما يقولون.. وأكمل صفاتهم أن يكونوا على علم بسير الأئمة الهداة وحوادث الظلمة ومعرفة بالأخلاق التى مدحها الله تعالى.


الامام محمد ماضى ابو العزائم



شارك فى نشر الخير