آخر الأخبار
موضوعات

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

- مقام الصدق لب الأخلاص


مقام الصدق الذي هو لب الأخلاص وأخلاص خواص الخواص فقال:

" ما توقف مطلب أنت طالبه بربك ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك"
إذا عرضت لك حاجة من حوائج الدنيا والآخرة وأردت أن تقضي لك سريعاً فأطلبها بالله ولا تطلبها بنفسك فإنك إذا طلبتها بالله تيسر أمرها وسهل قضاؤها، وإن طلبتها بنفسك صعب قضاؤها وتعسر أمرها، ولا يتوقف ويحبس أمر طلبته بربك ولا يتيسر ويسهل أمر طلبته بنفسك، قال تعالى حاكياً عن سيدنا موسى عليه السلام: وقال موسى لقومه أستعينوا بالله وأصبروا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " .
فكل من أستعان بالله وصبر في طلب حاجته كانت العاقبة له وكان من المتقين،
وقال تعالى :" ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه كل ما أهمه، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه وهو سويد بن غفلة: "لا تطلب الإمارة فإنك أن طلبتها وكلت إليها وأن أتتك من غير مسألة أعنت عليها" وعلامة الطلب بالله هو الزهد في ذلك الأمر والاشتغال بالله عنه، وعلامة الطلب بالنفس هو الحرص والبطش إليه، فإذا تعذر عليه أنقبض وتغير عليه، فهذا ميزان من كان طلبه بالله وطلبه بنفسه، فمن طلب حوائجه بالله قضيت معنى وأن لم تقض حساً، ومن طلب حوائجه بنفسه خاب سعيه وضاع وقته وأن قضيت مهمته وحاجته، و هنا ضابط يعرف به أهل العناية من أهل الخذلان وأهل الولاية من أهل الخسران ذكره الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فقال:"إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته نصب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه وجعله يتقلب في عبوديته والحظوظ عنه مستورة مع جري ما قدر له ولا يلتفت إليها كأنه في معزل عنها وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته نصب له حظوظ نفسه وستر عنه عبوديته فهو يتقلب في شهواته وعبودية الله عنه بمعزل وأن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر قال وهذا باب من الولاية والأهانة وأما الصديقية العظمي والولاية الكبرى فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة لأنه بالله فيما يأخذ ويترك".والحاصل أن تصرفات العارف كلها بالله وتصرفات غيره كلها بالنفس.
فالعمل بالله يوجب القربة والعمل لله يوجب المثوبة العمل بالله صاحبه داخل الحجاب في مشاهدة الأحباب والعمل لله يوجب الثواب من وراء الباب العمل بالله من أهل التحقيق والعمل لله من أهل التشريع العمل لله من أهل قوله تعالى:" إياك نعبد" والعمل بالله من أهل قوله تعالى:" وإياك نستعين".ومن كان علمه بالله كان راجعاً إليه في كل شيء ومعتمداً عليه في كل حال وإليه أشار بقوله:
" من علامة النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات".
قلت إذا توجهت همتك أيها المريد إلى طلب شيء أي شيء كان وأردت أن ينجح أمره وتبلغ مرادك فيه وتكون نهايته حسنة وعاقبته محمودة، فأرجع إلى الله في بداية طلبه وأنسلخ من حولك وقوتك وقل كما قال عليه السلام:" إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"، فلا تحرص عليه ولا تهتم بشأنه فما شاء الله كان وما لم يشأ ربنا لم يكن، فلو إجمعت الأنس والجن على أن ينفعوك بشيء لم يقدره الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو أجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقدره الله عليك لم يقدروا على ذلك جفت الأقلام وطويت الصحف كما في الحديث، فإذا طلبت شيئاً وكنت فيه معتمداً على الله ومفوضاً أمرك إلى الله تنظر ما سبق في علم الله كان ذلك علامة نجح نهايتك وحصول مطلبك قضيت في الحس أو لم تقض لأن مرادك مع مراد الله لا مع مراد نفسك.
قد إنقلبت حظوظك حقوقاً لا تشتهي إلا ما قضي الله ولا تنظر إلا ما يبرز من عند الله قد فنيت عن حظوظك وشهواتك، وإن طلبت شيئاً بنفسك معتمداً على حولك وقوتك حريصاً على قضائها جاهداً في طلبها كان ذلك علامة على عدم قضائها وخيبة الرجاء فيها، وعدم نجح نهايتها، وإن قضيت في الحس وكلت إليها فتعبت بسببها ولم تعن على شؤونها ومآربها، وهذا كله مجرب صحيح عند العام والخاص ،وهذه الحكمة تتميم لما قبلها وشرح لها والله تعالى أعلم.
ثم كمل هذه المسئلة بقاعدة كلية تصدق بما تقدم وبغيره فقال:
" من أشرقت بدايته أشرقت نهايته"
قلت إشراق البداية هو الدخول فيها بالله وطلبها بالله والأعتماد فيها على الله مع السعي في أسبابها والأعتناء في طلبها قياماً بحق الحكمة وأدباً مع القدرة، ويعظم السعي في السبب بقدر عظمة المطلب فبقدر، المجاهدة تكون بعدها المشاهدة:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
لا تحسبوها رخيصة
راه كل معشوق غالي
ما تنحصد صابت الصيف
إلا ببرد الليالي

فمن رأيناه في بدايته جاداً في طلب الحق معرضاً عن الأنس بالخلق مستغرقاً في خدمة مولاه ناسياً لحظوظه وهواه ،علمنا أن نهايته مشرقة وعاقبته محمودة ومآربه مقضية، ومن رأيناه مقصراً في طلب مولاه لم يخرج عن نفسه وهواه علمنا أنه كاذب في دعواه، فنهايته الحرمان وعاقبته الخذلان، إلا أن يتداركه الكريم المنان.
هذا في طريق الوصول إلى حضرة الحق وأما إشراق البداية في طلب حوائج الدنيا أو المقامات أو المراتب أو الخصوصية مثلاً فهو بالزهد فيها والأعراض عنها والأشتغال بالله عنها قال بعضهم:" لا تدرك المراتب إلا بالزهد فيها".
قال الشيخ أبو الحسن:" كنت أنا وصاحب لي نعبد الله في مغارة ونقول في هذا الشهر يفتح الله علينا في هذه الجمعة يفتح الله علينا فوقف علي باب المغارة رجل عليه سماء الخير فقال السلام عليكم فرددنا عليه السلام وقلنا له كيف أنت فنهض علينا وقال كيف يكون حال من يقول في هذا الشهر يفتح الله في هذه الجمعة يفتح الله لا فتح ولا فلاح هلا عبدنا الله كما أمرنا ثم غاب عنا ففهمنا من أين أخذنا فرجعنا على أنفسنا باللوم ففتح الله علينا" ،بالمعنى ذكره في التنوير، فمن طلب الخصوصية كان عبد الخصوصية وفاته حظه من الله حتى يتوب ومن كان عبد الله نال حظه من العبودية وأدركته الخصوصية من غير التفات إليها ولا طلب والله تعالى أعلم.

- الذكر حياة القلب

ولما كان الذكر هو سبب حياة القلب وتركه سبب موته ، وفي الحديث :"مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت". قال رضي الله عنه :
( مِنْ عَلاماتِ مَوْتِ القَلْبِ عَدَمُ الحُزْنِ عَلَى ما فاتَكَ مِنَ المُوافَقاتِ. وتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى ما فَعَلْتَهُ مِنْ وُجودِ الزَّلّاتِ ).
موت القلب سببه ثلاثة أشياء : حب الدنيا ، والغفلة عن ذكر الله ، وإرسال الجوارح في معاصي الله ، وسبب حياته ثلاثة أشياء : الزهد في الدنيا ، والأشتغال بذكر الله ، وصحبة أولياء الله ، وعلامة موته ثلاثة أشياء : عدم الحزن على ما فات من الطابعات ، وترك الندم على ما فعلت من الزلات ، وصحبتك للغافلين الأموات ، وذلك لأن صدور الطاعة من العبد عنوان السعادة ، وصدور المعصية علامة الشقاوة ، فإن كان القلب حياً بالمعرفة والإيمان آلمه ما يوجب شقاوته ، وأفرحه ما يوجب سعادته ، أو تقول صدور الطاعة من العبد علامة على رضي مولاه ، وصدور المعصية علامة على غضبه ، فالقلب الحي يحس بما يرضيه عند مولاه فيفرح ، وما يسخطه عليه فيحزن ، والقلب الميت لا يحس بشيء قد أستوى عنده وجود الطاعة والمعصية ، لا يفرح بطاعة وموافقة ولا يحزن على زلة ولا معصية ، كما هو شأن الميت في الحس . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ومَن سرَّته حسنته وساءَتْه سيئته فهو مؤمن) . لكن لا ينبغي للعبد أن يغلب النظر إلى جانب الذنب فيقل رجاؤه ويسئ الظن بسيده كما أشار إليه بقوله :
(لا يَعْظُمِ الذَنْبُ عِنْدَكَ عَظَمَةً تَصُدُّكَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالى).
الناس في الخوف والرجا على ثلاثة أقسام : أهل البداية ينبغي لهم تغليب جانب الخوف ، وأهل الوسط ينبغي لهم أن يعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأهل النهاية يغلبون جانب الرجاء . أما أهل البداية فلأنهم إذا غلبوا جانب الخوف جدوا في العمل وأنكفوا عن الزلل ، فبذلك تشرق نهايتهم "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" وأما أهل الوسط فلأنهم قد أنتقلت عبادتهم إلى تصفية بواطنهم فعبادتهم قلبية ، فلو غلبوا جانب الخوف لرجعوا إلى عبادة الجوارح ، والمطلوب منهم عبادة البواطن على رجاء الوصول وخوف القطيعة ، فيعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأما الواصلون فلا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركا ، فهم ينظرون إلى تصريف الحق وما يجري به سابق القدر ، فيتلقونه بالقبول والرضا ، فإن كان طاعة شكروا وشهدوا منة الله ، وإن كان معصية أعتذروا وتأدبوا ، ولم يقفوا مع أنفسهم إذ لا وجود لها عندهم وإنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، فنظرهم إلى حلمه وعفوه وإحسانه وبره أكثر من نظرهم إلى بطشه وقهره . قال تعالى : "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :" العامة إذا خوفوا خافوا ، وإذا رجوا رجوا ، والخاصة متى خوفوا رجوا ، ومتى رجوا خافوا . قال في لطائف المنن :" ومعنى كلام الشيخ هذا ، أن العامة واقفون مع ظواهر الأمر فإذا خوفوا خافوا إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله ، وأهل الله إذا خوفوا رجوا عالمين أن من وراء خوفهم وما خوفوا به أوصاف المرجو الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن ييئس من منته ، فاحتالوا على أوصاف كرمه علماً منهم ما خوفهم إلا ليجمعهم عليه وليردهم بذلك إليه ، وإذا رجوا يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجائهم ، وخافوا أن يكون ما ظهر من الرجاء أختباراً لعقولهم،هل تقف مع الرجاء أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته ، فلذلك أثار الرجاء خوفهم ".
دخل الجنيد رضي الله عنه على شيخه السري فوجده مقبوضاً فقال له : "مالك أيها الشيخ مقبوضاً ؟ فقال: " دخل علي شاب فقال لي :ما حقيقة التوبة ؟ فقلت له : أن لا تنسي ذنبك ، فقال الشاب : بل التوبة أن تنسي ذنبك ، ثم خرج عني ، قال الجنيد : فقلت الصواب ما قاله الشاب لأني إذا كنتُ في حالة الجفاء ثم نقلني إلى شهود الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء ّ".
(فإنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ اسْتَصْغَرَ في جَنْبِ كَرَمِهِ ذَنْبَهُ).
بل من عرف ربه غاب عن رؤية ذنبه لفنائه عن نفسه بشهود ربه ، فإن صدر منه فعل يخالف الحكمة غلب عليه شهود النعمة ، قال تعالى : "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " وأما قوله تعالى :" وأن عذابي هو العذاب الأليم " فإنما هو لمن لم يتب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياً كم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم ولو أن العباد لم يذنبو لذهب الله بهم ثم جاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وهو الغفور الرحيم والله أفرح بتوبة عبده من الظمآن الوارد ومن العقيم الوالد ومن الضال الواحد " لكن لا ينبغي أن يصغر عنده ذنبه حتى يغتر بحلم الله ، وقال الجنيد رضي الله عنه :"إذا بدت عين من الكريم ألحقت المسيء بالمحسن "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه : "إلهي معصيتك نادتني بالطاعة ، وطاعتك نادتني بالمعصية ، ففي أيهما أخافك وفي أيهما أرجوك ؟ إن قلت بالمعصية ، قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفا ، وإن قلت بالطاعة ، قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء ، فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك ؟ ! أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك ؟ " ومعنى كلام الشيخ رضي الله عنه : أن العبد إذا كان في المعصية شهد قهرية الحق وعظمته وضعف نفسه وعجزه ، اكتسب من المعصية انكساراً وذلاً لنفسه وتعظيماً وإجلالاً لربه ، وهذا أفضل الطابعات ، فقد نادته معصيته التي هو فيها بالطاعة التي يجتنيها منها ، وإذا كان في الطاعة ربما شهد فيها نفسه وقصد متعته وحظه فأشرك بربه وأخل بأدبه وهذه معصية ، فإذا كان في الطاعة نادته بهذه المعصية التي يجتنيها منها فلا يدري من أيهما يخاف وأيهما يرجو ، وقوله : إن قلت بالمعصية... إلخ أي : إن نظرت إلى صورة المعصية قابلتني بفضلك ، فامتحي أسمها واندرس رسمها ، وإن نظرت إلى صورة الطاعة قابلتني بعدلك فاضمحلت وأمتحت وبقي محض الرجاء من الكريم الوهاب الذي يعطي بلا سبب ويغطي بحلمه المناقشة والعتاب والله تعالى أعلم .
فتحصل أن العارف لا يقف مع معصية وأن جلت ولا مع طاعة وأن عظمت وهو معنى قوله :
(لا صَغيرَةَ إِذا قابَلَكَ عَدْلُهُ. وَلا كَبيرَةَ إِذا واجَهَكَ فَضْلُهُ).
الصغيرة هي الجريمة التي لا وعيد فيها من القرآن ولا من الحديث ، والكبيرة هي التي توعد عليها بالعذاب أو الحد في القرآن أو في السنة ، وقيل غير ذلك هذا كله بالنظر لظاهر الأمر ، وأما بإعتبار ما عند الله من أمر غيبه وبالنظر إلى حلمه وعدله فقد يبرز خلاف ما يظن قال تعالى : "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " فمن سبقت له العناية لا تضره الجناية ، " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " وإن كانت الأعمال علامات فقد تختلف في بعض المقامات ، فوجب استواء الرجاء والخوف في بعض المقامات والتسليم لله في كل الأوقات ، إذ قد تمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ، فإذا قابلك الحق سبحانه وتعالى بعدله وجلاله لم تبق لك صغيرة وعادت صغائرك كبائر ، وإذا واجهك الحق تعالى بفضله وكرمه وإحسانه وجماله لم تبق لك كبيرة وعادت كبائرك صغائر ، قال يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه :" إذا أنالهم فضله لم تبق لهم سيئة ، وإذا وضع عليهم عدله لم تبق لهم حسنة " ولما ذكر رضي الله عنه علامة موت القلب ذكر الأعمال التي توجب حياته فقال :
(لا عَمَلَ أَرْجى لِلْقُلوبِ مِنْ عَمَلٍ يَغيبُ عَنْكَ شُهودُهُ ويُحْتَقَرُ عِنْدَك وُجودُهُ).
يعني أنه لا عمل أرجي لحياة القلوب من عمل يكون بالله ولله ، غائباً فيه عما سواه ، غير ملاحظ فيه حظوظه وهواه ، متبرءاً فيه من حوله وقواه ، فإذا أظهرته عليه القدرة غاب عن شهوده ، وصغر في عينه صورة وجوده لما تجلى في قلبه من عظمة مولاه فصغر عنده كل ما سواه ، فمثل هذا العمل تحيي به القلوب وتحظي بمشاهدة علام الغيوب ، وهو روح اليقين وهو حياة قلوب العارفين ، فإذا أراد الله أن يتولى عبده أنهضه للعمل وصغره في عينه ، فلا يزال جاداً في عمل الجوارح حتى ينقله إلى عمل القلوب فتستريح الجوارح من التعب ولا يبقي إلا شهود العظمة مع الأدب ، قال النهر جوري رحمه الله :" من علامات من تولاه الله في أحواله ، أن يشهد التقصير في إخلاصه ، والغفلة في أذكاره ، والنقصان في صدقه ، والفتور في مجاهدته ، وقلة المراعاة في فقره ، فتكون جميع أحواله عنده مرضية ، ويزداد فقراً إلى الله في قصده وسيره ، حتي يغنى عن كل شيء دونه ".
وإذا حيي القلب بمعرفة الله كان محلاً لتجلي الواردات الألهية ، وإلى ذلك أشار بقوله :"
(إنَّما أَوْرَدَ عَلَيْكَ الوارِدَ لِتَكونَ بِهِ عَلَيْهِ وارِداً).
الوارد نور إلهي يقذفه الله في قلب من أحب من عباده ، وهو على ثلاثة أقسام ، على حسب البداية والوسط والنهاية . أو تقول على حسب الطالبين والسائرين والواصلين .
القسم الأول : وارد االإنتباه ، وهو نور يخرجك من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، وهو لأهل البداية من الطالبين ، فإذا تيقظ من نومه وانتبه من غفلته استوى على قدمه طالباً لربه ، فيقبل عليه بقلبه وبقالبه ، وينجمع عليه بكليته .
القسم الثاني : وارد الأقبال ، وهو نور يقذفه الله في قلب عبده فيحركه لذكر مولاه ويغيبه عما سواه ، فلا يزال مشتغلاً بذكره غائباً عن غيره حتى يمتلأ القلب بالنور ويغيب عما سوى المذكور ، فلا يرى إلا النور فيخرج من سجن الأغيار ويتحرر من رق الآثار .
القسم الثالث : وارد الوصال ، وهو نور يستولي على قلب العبد ، ثم يستولي على ظاهره وباطنه ، فيخرجه من سجن نفسه ويغيبه عن شهود حسه . وقد أشار إلى القسم الأول وهو وارد الأنتباه بقوله : إنما أورد عليك... إلخ أي : إنما أشرق عليك نور اليقظة والإنتباه ، وهو الوارد لتكون بسببه وارداً عليه وسائراً إليه ، ولو لم يورد عليك هذا الوارد لبقيت في وطن غفلتك ، نائماً في سكرتك دائماً في حسرتك ، ثم أشار إلى القسم الثاني وهو وارد الأقبال ، فقال : أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار أي : إنما أورد عليك وارد الإقبال ليؤنسك بذكر الكبير المتعال ، فإذا اشتغلت بذكره وغبت عن غيره تسلمك ، أي أنقذك من يد لصوص الأغيار بعد أن شدوا أوثاقك بحبل هواك ، وسجنوك في سجن حظوظك ومناك ، وليحررك ويعتقك أيضاً من رق الآثار بعد أن ملكتك بما أظهرته لك من زخرف الإغترار ، فإذا تسلمت من بد الأغيار أفضيت إلى شهود الأنوار ، وإذا تحررت من رق الآثار ترقيت إلى شهود الأسرار، فالأنوار أنوار الصفات والأسرار أسرار الذات ، فالأنوار لأهل الفناء في الصفات والأسرار لأهل الفناء في الذات . ثم أشار إلى القسم الثالث وهو وارد الوصال فقال : أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك ، أي إنما أورد عليك وارد الوصال بعد أن أهب عليك نفحات الإقبال ، ليخرجك من سجن رؤية وجودك إلى فضاء أي اتساع شهودك لربك ، فرؤيتك وجودك مانعة لك من شهود ربك ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. فالفناء عن النفس وزوالها أصعب من الفناء عن الكون وهدمه ، فمهما زالت النفس وهدمت انهدم الكون ولم يبق له أثر ، وقد يهدم الكون وتبقي في النفس بقية ، فلذلك قدم الشيخ رق الأكوان على سجن وجود الأنسان والله تعالى أعلم .
ثم فسر تلك الواردات فقال :
(الأنْوارُ مَطايا القُلوبِ وَالأَسْرارِ).
النور نكتة تقع في قلب العبد من معنى أسم أو صفة ، يسري معناها في كليته حتى يبصر الحق والباطل أبصاراً ، لا يمكنه التخلف معه عن موجبه . والمطايا جمع مطية ، وهي الناقة المهيئة للركوب ، والقلوب جمع قلب وهو الحقيقة القابلة للمفهومات والأسرار جمع سر ، وهو الحقيقة القابلة للتجليات ، والسر أدق وأصفي من القلب ، والكل إسم للروح ، فإن الروح ما دامت متظلمة بالمعاصي والذنوب والشهوات والعيوب سميت نفساً ، فإذا انزجرت وانعقلت اأنعقال البعير سميت عقلاً ، فما زالت تتقلب في الغفلة والحضور سميت قلباً ، فإذا اطمأنت وسكنت واستراحت من تعب البشرية سميت روحاً ، فإذا تصفت من غبش الحس سميت سراً لكونها صارت سراً من أسرار الله حين رجعت إلى أصلها وهو سر الجبروت . فإذا أراد الله تعالى أن يوصل عبده إلى حضرة قدسه ويحمله إلى محل أنسه ، أمده بواردات الأنوار كالمطايا ، فيحمل عليها في محفة العناية مروحاً عليه بنسيم الهداية محفوفاً بنصرة الرعاية ، فترحل الروح من عوالم البشرية إلى عوالم الروحانية حتى تصير سراً من أسرار الله لا يعلمها إلا الله (قل الروح من أمر ربي) فالأنوار التي هي الواردات مطايا القلوب تحملها إلى حضرة علام الغيوب ، وهي أيضاً مطايا الأسرار تحملها إلى جبروت العزيز الجبار فالسلوك هداية والجذب عناية ، فوارد الانتباه والإقبال حمله سلوك ووارد الوصال حمله جذب ، فالأنوار التي هي مطايا القلوب تحملهم على وجهة السلوك إلا أنهم محمولون فيه بحلاوة نور الإنتباه والإقبال ، فصار سلوكهم كأنه جذب .
وأما الأنوار التي تحملهم على مطايا الأسرار ، فإنها تحملهم على جهة الجذب ممزوجاً بسلوك فيكونون بين جذب وسلوك ، وهذا الحمل أعظم والله تعالى أعلم .
ثم بين كيفية السير على هذه المطايا وما يعوقها عن السير :
(النّورُ جُنْدُ القَلْبِ، كَما أَنَّ الظُلْمَةَ جُنْدُ النَفْسِ. فإذا أرادَ اللهُ أنْ يَنْصُرَ عَبْدَهُ أَمَدَّهُ بِجُنودِ الأَنْوارِ وَقَطَعَ عَنْهُ مَدَدَ الظُلَمِ وَالأَغْيارِ).
الظلمة نكتة تقع من الهوى في النفس عن عوارض الوهم فتوجب العمى عن الحق ، لتمكن الباطل من الحقيقة ، فيأتي العبد ويذر على غير بصيرة . قد تقدم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر أسماء لمسمى واحد وهو اللطيفة الربانية النورانية المودعة في هذا القالب الجسماني الظلماني ، وإنما اختلفت أسماؤها باختلاف أحوالها وتنقل أطوارها ، ومثال ذلك كماء المطر النازل في أصل الشجر ثم يصعد في فروعها فيظهر ورقاً ثم نوراً وأزهاراً ، ثم يعقد ثمرة ثم ينمو حتى يكمل ، فالماء واحد واختلفت أسماؤه باختلاف أطواره ، فعلى هذا يكون تقابل القلب مع النفس بالمحاربة كناية عن صعوبة أنتقال الروح من وطن الظلمة التي هي محل النفس إلى وطن النور الذي هو القلب وما بعده ، فالقلب يحاربها لينقلها إلى أصلها ، وهي تتقاعد وتسقط إلى أرض البشرية وشهواتها ، فالقلب له أنوار الواردات تقربه وتنصره حتى يترقي إلى الحضرة التي هي أصله وفيها كان وطنه ، وكأنها جنود له من حيث أنه يتقوى بها وينتصر على ظلمة النفس.
ولما كان النور هو جند القلب لأنه يكشف عن حقائق الأشياء ، فيتميز الحق من الباطل فيحق الحق ويبطل الباطل ، فينتصر القلب بإقباله على الحق على بينة واضحة وتنهزم النفس بانهزام جند ظلماتها ، إذ لابقاء للظلمة مع وضوح النور كما أشار إلى ذلك بقوله :
(النورُ له الكشفُ ، والبصيرةُ لها الحكمُ ، والقلبُ له الإقبال والإدبار).
النور من حيث هو من شأنه أن يكشف الأمور ويوضحها حتى حسنها من قبيحها ، ومن شأن البصيرة المفتوحة أن تحكم على الحسن بحسنه وعلى القبيح بقبحه ، والقلب يقبل على ما يثبت حسنه ويدبر عن ما يثبت قبحه أو تقول يقبل على ما فيه نفعه ويدبر عما فيه ضرره ، ومثال ذلك رجل دخل بيتاً مظلماً فيه عقارب وحيات وفيه سبائك ذهب وفضة ، فلا يدري ما يأخذ ولا ما يذر ولا ما فيه نفع ولا ضرر فإذا أدخل فيه مصباحاً رأى ما ينفعه وما يضره ، وما يأمنه وما يحذره ، كذلك قلب المؤمن العاصي لا يفرق بين مرارة المعصية وحلاوة الطاعة ، فإذا استضاء بنور التقوى عرف ما يضره وما ينفعه ، وفرق بين الحق والباطل ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " أي نوراً يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى :" أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" وقال تعالى :" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه "وهذا النور الذي يكشف الأمور هو نور الواردات المتقدمة الذي هو مطايا القلوب إلى علام الغيوب ، أولها نور وارد الإنتباه ومن شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة ، ويظهر نور اليقظة ، فتحكم البصيرة بقبح الغفلة وحسن اليقظة ، فيقبل القلب حينئذ على ذكر ربه ، ويدبر عما يغفله عن ربه ، وهذا هو نور الطالبين . الثاني نور وارد الأقبال ، ومن شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار ويظهر بهجة المعارف والأسرار فتحكم البصيرة بضرر الأغيار وحسن الأسرار فيقبل القلب على بهجة الأسرار ، ويدبر عن ظلمة الأغيار ، وهذا هو نور السائرين . الثالث نور وارد الوصال ومن شأنه أن يكشف ظلمة الكون ورداء الصون ، ويظهر نور تجليات المكون فيقبل القلب على مشاهدة مولاه ، ويدبر عن الالتفات إلى ما سواه ، وهذا هو نور الواصلين وهو نور المواجهة ونور ما قبله نور التوجه .
وإن شئت قلت هو نور الإسلام والإيمان والإحسان ، فنور الإسلام يكشف ظلمة الكفر والعصيان ويظهر نور الإنقياد والإذعان ، فتحكم البصيرة بقبح الكفر والعصيان وحسن نور الإسلام والإذعان ، فيقبل القلب على طاعة ربه ويعرض عما يبعده من ربه ، ونور الإيمان يكشف ظلمات الشرك الخفي ، ويظهر بهجة الإخلاص والصدق الوفي ، فتحكم البصيرة بقبح الشرك وضرره ، وحسن الإخلاص وخيره ، فيقبل القلب على توحيد ربه ويعرض عن الشرك وشره ، ونور الإحسان يكشف ظلمة السوى ويظهر نور وجود المولى ، فتحكم البصيرة بقبح ظلمة الأثر وحسن نور المؤثر ، فيقبل القلب على معرفة مولاه ويغيب بالكلية عما سواه ، وإن شئت قلت هذا النور هو نور الشريعة والطريقة والحقيقة ، فنور الشريعة يكشف ظلمة البطالة والتقصير ، ويظهر نور المجاهدة والتشمير ، فتحكم البصيرة بقبح البطالة وحسن المجاهدة ، فيقبل القلب على مجاهدة الجوارح في طاعة مولاه ويدبر عن متابعة حظوظه وهواه ، ونور الطريقة يكشف ظلمة المساوي والعيوب ويظهر بهجة الصفاء وما يثمره من علم الغيوب ، فتحكم البصيرة بقبح العيوب وحسن الصفا وعلم الغيوب ، فيقبل القلب على ما يوجب التصفية ويدبر عما يمنعه من التخلية والتحلية ، ونور الحقيقة يكشف ظلمة الحجاب ، ويظهر له محاسن الأحباب ، أو تقول نور الحقيقة يكشف له ظلمة الأكوان ويظهر نور الشهود والعيان ، فيقبل القلب على مشاهدة الأحباب داخل الحجاب ، ويدبرعما يقطعه عن الأدب مع الأحباب ، جعلنا الله معهم على الدوام في هذه الدار وفي دار السلام آمين.

- آداب العارف وعلاماته

هذا آخر الباب الثاني وحاصلها آداب العارف وعلاماته :
فالآداب ثمانية والعلامات أربع ، الرجوع إليه في كل شيء والإعتماد عليه في كل حال ، والغيبة فيه عن كل شيء ، والإستدلال به على كل شيء ، وإتساع أرزاق العلوم ، وفتح مخازن الفهوم ، والوصل إلى مواجهة الأنوار والغيبة عنها بشهود الواحد القهار.
ثم افتتح الباب الثالث بذكر التخلية والتحلية فقال وقال رضي الله عنه :
"تشَوُّفُك إلى ما بَطُنَ فيك من العيوب خيرٌ مِن تشوُّفِك إلى ما حُجِبَ عنك من الغيوب".
تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب ، كالحسد والكبر ، وحب الجاه والرياسة ، وهم الرزق وخوف الفقر ، وطلب الخصوصية وغير ذلك من العيوب ، والبحث عنها والسعي في التخلص منها ، أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب ، كالإطلاع على أسرار العباد ، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلية ، وكالأطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له ، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب ، سبب في حياة قلبك ، وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، والإطلاع على الغيوب إنما هو فضول ، وقد يكون سبباً في هلاك النفس ، كإتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس ، وسيأتي للشيخ :"من أطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان إطلاعه فتنة عليه وسبباً يجر الوبال إليه" واعلم أن العيوب ثلاثة : تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب ، كالحسد والكبر ، وحب الجاه والرياسة ، وهم الرزق وخوف الفقر ، وطلب الخصوصية وغير ذلك من العيوب ، والبحث عنها والسعي في التخلص منها ، أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب ، كالإطلاع على أسرار العباد ، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلية ، وكالأطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له ، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب ، سبب في حياة قلبك ، وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، والإطلاع على الغيوب إنما هو فضول ، وقد يكون سبباً في هلاك النفس ، كإتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس ، وسيأتي للشيخ :"من أطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان إطلاعه فتنة عليه وسبباً يجر الوبال إليه".
واعلم أن العيوب ثلاثة:
عيوب النفس
وعيوب القلب
وعيوب الروح
- فعيوب النفس : تعلقها بالشهوات الجسمانية ، كطيب المآكل والمشارب ، والملابس والمراكب ، والمساكن والمناكح وشبه ذلك .
- وعيوب القلب : تعلقه بالشهوات القلبية ، كحب الجاه الرياسة ، والعز والكبر ، والحسد ، والحقد وحب المنزلة ، والخصوصية وشبه ذلك .
- وعيوب الروح : تعلقها بالحظوظ الباطنية ، كطلب الكرامات ، والمقامات ، والقصور ، و الحور ، و غير ذلك .
فتشوف المريد إلى شيء من ذلك كله قادح في عبوديته ، مانع له من القيام بحقوق ربوبيته ، فأشتغاله بالبحث عن عيوبه النفسانية والقلبية والروحانية ، وسعيه في التطهير من جميع ذلك ، أولى من تشوفه إلى ما حجب عنه من علم الغيوب .
ولما ذكر التخلية ذكر ثمرتها ، وهي التحلية بالمعرفة ، إذ ما منع منها ، إلا تشوف النفس أو القلب أو الروح إلى حظوظها الوهمية ، فقال :
"الحقُّ ليسَ بمحجوب ، وإنما المحجوب أنتَ عن النظرِ إليه ، إذ لو حَجبهُ شيءٌ لستره ما يحجبه ، ولو كان له ساترٌ لكان لوجوده حاصر ، وكلُّ حاصرٍ لشيءٍ فهو له قاهرٌ ، "وهوَ القَاهِرُُ فَوْقَ عِبَادِه".
الحق تعالى محال في حقه الحجاب ، فلا يحجبه شيء لأنه ظهر بكل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء ، فلا ظاهر معه ، ولا موجود في الحقيقة سواه ، فهو ليس بمحجوب عنك ، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه ، لإعتقادك الغيرية وتعلق قلبك بالأمور الحسية ، فلو تعلق قلبك بطلب المولى وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى ، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان ، وصار ما كان محجوباً عنك بالوهم في معد الشهود والعيان .
فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون ، وكلهم في البحر ولا يشعرون ، وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول :" والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم والوهم أمر عدمي لا حقيقة له " وسيأتي للشيخ :" ما حجبك عن الحق وجود موجود معه إذ لا شيء معه وإنما حجبك عنه توهم موجود معه " إذ لو حجبه تعالى شيء حسي ، لستره ذلك الحجاب ، ولو كان له ساتر حسي لكان لوجوده حاصر ، إذ محال أن يستره من جميع الوجوه ولا يحصره ، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ، كيف والله تعالى يقول :" وهو القاهر فوق عباده " أي لأنهم في قبضته وتحت تصريف قدرته ، وتخصيص إرادته ومشيئته ، والفوقية عبارة عن رفعة الجلال والمكانة ، لا المكان كما يقال :السلطان فوق الوزير ، والسيد فوق عبده ، والمالك فوق المملوك ، وغير ذلك مما يثبت الكبرياء وينفي سماة الحدوث والله تعالى أعلم .
ولما كان حجاب الروح عن المعرفة ، أمراً وهمياً عدمياً لا حقيقة له، وهو مرضها بأوصاف البشرية ، فلو صحت لعرفت ، أشار إلى ذلك بقوله :
" اخرج من أوصاف بشريتك ، عن كل وصف مناقض لعبوديتك ، لتكون لنداء الحق مجيباً ، ومن حضرته قريباً ".
قلت : أوصاف البشرية هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية ، ومرجعها إلى أمرين :
الأول : تعلق القلب بأخلاق البهائم ،وهي شهوة البطن والفرج ،وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية ، قال الله تعالى :" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " .
الثاني : تخلقه بأخلاق الشياطين ، كالكبر والحسد ، والحقد والغضب، والحدة وهي القلق ، والبطر وهي خفة العقل ، والأشر وهو التكبر ،وحب الجاه والرياسة ، والمدح والقسوة ،والعطاء والفظاظة ، والغلظة وتعظيم الأغنياء ، واحتقار الفقراء ، وكخوف الفقر وهم الرزق ، والبخل والشح ، والرياء والعجب ، وغير ذلك مما لا يحصي حتى قال بعضهم :" للنفس من النقائص مالله من الكمالات " وقد ألف الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ، كتاباً في عيوب النفس وأدويتها ، ونظمه الشيخ زروق في نحو ثمانمائة بيت ، ومن ألقاه الله إلى شيخ التربية فلا يحتاج إلى شيء سوى الإستماع والإتباع ، فإذا خرج المريد من أخلاق البهائم ، تخلق بأخلاق الروحانيين ، كالزهد والورع ، والقناعة والعفة ، والغنى بالله والأنس به ، وإذا خرج من أخلاق الشياطين تخلق بأخلاق المؤمنين ، أو بأخلاق الملائكة كالتواضع وسلامة الصدور ، والحلم والسكينة والرزانة ،والطمأنينة والسهولة ، والليونة والخمول ، والإكتفاء بعلم الله ، والشفقة والرحمة ، وتعظيم الفقراء والمساكين ، وأهل النسبة وجميع الأمة ، والكرم والسخاء ، والجود والإخلاص ، والصدق والمراقبة ، والمشاهدة والمعرفة ، فإذا تخلق العبد بهذه الأخلاق وتحقق بها ذوقاً ، بعد أن تخلص من أضدادها ، كان عبداً خالصاً لمولاه ، حراً مما سواه ، وكان لندائه مجيباً ، ومن حضرته قريباً ، فإذا قال له ربه :" يا عبدي ، قال له يا رب " فكان صادقاً في إجابته لصدق عبوديته ، بخلاف ما إذا كان منهمكا في شهواته الظاهرة والباطنة ، كان عبداً لنفسه وشهواته ، فإذا قال : يا رب ، كان كاذباً ، إذ من أحب شيئاً فهو عبد له ، وهو لا يحب أن تكون عبداً لغيره ، وإذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ ، كان أيضاً قريباً من حضرة الحق بل عاطفاً فيها،إذ ما أخرجنا عن الحضرة إلا حب هذه الخيالات الوهمية،فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة.
واعلم أن هذه الأوصاف البشرية ، التي أحتجبت بها الحضرة إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر ، كالنفس والشيطان والدنيا ، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة ، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة ، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق وما ثم سواه،ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم إن هذه العيوب ، سبب بقائها في الإنسان ، بإعتبار الحكمة ، هي الغفلة عن البحث عنها ، وسبب الغفلة عن البحث عنها ، هو الرضا عن النفس ، إذ لو أساء ظنه بها لبحث عن مساويها ، فأستخرجها وتطهر منها ، فلذلك ، قال :
"أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس "
قلت : إذ كل من رضي عن نفسه ، استحسن أحوالها ، وغطى مساويها، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة ، عدم الرضا منك عنها ،قلت : لأن من اتهم نفسه ، وأساء ظنه بها ، ونظر إليها بعين السخط ، بحث عن عيوبها واستخرج مساويها ، فابحث أيها المريد عن مساويك ، واتهم نفسك ولا تستحسن شيئاً من أحوالها ، فإنك إذا رضيت عنها ، واستحسنت أحوالها ، لدغتك وأنت لا تشعر ، وحجبتك عن الحضرة وأنت تنظر ،قال أبو حفص الحداد:"من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلي مكروهها في سائر أيامه مغروراً ومن نظر إلى نفسه بإستحسان شيء منها فقد أهلكها وكيف يصح لعاقل الرضى عن نفسه والكريم ابن الكريم إبن الكريم يقول وما أبريء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ".
وقال السري :" من عرف الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يروح ويغدو في لاش، والعاقل عن عيوبه فتاش " فابحث يا أخي عن عيوبك ، إن أردت نصح نفسك ، فإذا بحثت عن عيوبها ، وفضحت عوراتها ، تخلصت وتحررت ، وتحققت ودخلت الحضرة ، واتسعت لك النظرة واشتكت لك الفكرة ، وكان شيخ شيخنا يقول :"لعنة الله على من ظهرت له عورة فلم يفضحها " وكان أيضاً كثيراً ما يوصي بعدم المراقبة للناس ، وعدم المبالاة بهم ، إذ لا يتخلص من دقائق الرياء إلا بإسقاطهم من عينه ، وسقوطه هو من عينهم ، ومن أراد أن يتخلص فليصحب من تخلص ، ولذلك قال :
" ولإن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه ".
قلت : إذ صحبة من لا يرضى عن نفسه خير محض لتحققه بالإخلاص ، فيسري ذلك في الصاحب ، حتى يتحلى بالإخلاص ، ويصير من جملة الخواص ، وصحبة من يرضى عن نفسه ، شر محض ولو كان أعلم أهل الأرض ، لأن الطباع تسرق الطباع ، إذ الجهل الذي يقرب للحضرة ، أحسن من العلم الذي يبعد عن الحضرة ، ولذلك قال بعض العارفين :" أشد الناس حجاباً عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد " لوقوفهم مع علمهم ،وعبادتهم وزهدهم ، والجهل الذي يوصل إلى الله علم على الحقيقة ، والعلم الذي يحجب عن الله جهل على الحقيقة ، ولذلك قال :" فأي علم لعالم يرضى عن نفسه "
قلت : لأنه صار حجاباً له عن ربه ، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ،قلت : إذ بعدم الرضى عن نفسه ، بحث عنها وتخلص من رقها ، فصار عبداً حقيقة لله ، فحينئذ أحبه سيده وأصطفاه لحضرته ، وإجتباه لمحبته وأطلعه على مكنون علمه ، فكان أعلم خلقه ، والله تعالى أعلم .
وإذا تخلص العبد من حظوظه وأوصاف بشريته ، قرب من حضرة ربه لصحة قلبه وأشراقه بنور ربه ، ثم امتحى وجوده في وجود محبوبه ، وشهوده في شهود معبوده ، وإلى ذلك أشار بقوله :
" شعاع البصيرة يشهدك قربه منك ، وعين البصيرة تشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجوده لا عدمك ولا وجودك ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ".
قلت : البصيرة ناظر القلب ، كما أن البصر ناظر القالب ،فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية ، والبصر يرى المحسوسات الكثيفة الظلمانية الوهمية ، ثم البصيرة بإعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة على خمسة أقسام :
قسم فسد ناظرها ، فعميت فأنكرت نور الحق من أصله ، قال سيدي البوصيري :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سم
وهذه بصيرة الكفار ، قال تعالى : "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " وقسم صح ناظرها ، لكنها مسدودة لضعف ناظرها ، لمرض أصابه ، فهي تقر بالنور ، لكنها لا تقوى على مشاهدته ، ولا تشهد قربه منها ، ولا بعده عنها ، وهي لعامة المسلمين ، وقسم صح ناظرها وقوي شيئاً ما حتى قرب أن يفتح عينه ، لكن لشدة الشعاع ، لم يطق أن يفتح عينه ، فأدرك شعاع النور قريباً منه ، وهو لعامة المتوجهين ، ويسمى هذا المقام : "شعاع البصيرة "، وقسم قوي ناظرها ، ففتح عين بصيرته ، فأدرك النور محيطاً به ، حتى غاب عن نفسه ،بمشاهدة النور، وهذا لخاصة المتوجهين ، ويسمى هذا المقام :"عين البصيرة " وقسم صحت بصيرته ،وإشتد نورها ،فاتصل نورها بنور أصلها ، فلم تر إلا النور الأصلي ، وأنكرت أن يكون ثم شيء زائد على نور الأصل ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، ويسمى هذا ّ"حق البصيرة" ووجه تسميته بشعاع البصيرة ،لأن صاحبها ، لما كان يرى وجود الأكوان ، انطبعت في مرآة بصيرته ، فحجبته عن شهود النور من أصله ، لكن لما رقت كثافتها وتنورت دلائلها ،رأى شعاع النور من ورائها ،قريباً منه ، فأدرك الشعاع ولم يدرك النور ، وهذا هو نور الإيمان ، وهو مقام :"علم اليقين" ووجه تسمية عين البصيرة ، أن البصيرة لما صحت وقويت ، انفتحت عينها فرأت النور محيطاً ومتصلاً بها ، فسميت عين البصيرة ، لانفتاحها وإدراكها ما خفي على غيرها ،وهذا مقام :"عين اليقين" ووجه تسمية حق البصيرة ، أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله وغابت عن نور الفروع بنور الأصول ، سميت حق البصيرة لما أدركته من الحق ، وغابت عن شهود الخلق ،وهذا مقام :"حق اليقين" فشعاع البصيرة هو نور الإيمان لأهل المراقبة ، وعين البصيرة هو نور الأحسان لأهل المشاهدة ، وحق البصيرة هو نور الرسوخ والتمكين لأهل المكالمة ، أو تقول ، شعاع البصيرة هو نور علم اليقين ، وعين البصيرة هو نور عين اليقين ، وحق البصيرة هو نور حق اليقين ، فعلم اليقين لأهل الدليل والبرهان ، وعين اليقين لأهل الكشف والبيان ، وحق اليقين لأهل الشهود والعيان ، مثال ذلك ، كمن سمع بمكة مثلاً ولم يرها ، فهذا عنده علم اليقين ، فإذا أستشرف عليها ورآها ولم يدخلها فهو عين اليقين ، فإذا دخلها وتمكن فيها فهو حق اليقين ، وكذلك طالب الحق ، فما زال من وراء الحجاب فانياً في الأعمال ، فهو في علم اليقين ، فإذا أستشرف على الفناء في الذات ولم يتمكن من الفناء ، فهو عين اليقين ، فإذا رسخ وتمكن فهو في حق اليقين ، أو تقول شعاع البصيرة لأهل عالم الملك ، وعين البصيرة لأهل عالم الملكوت ، وحق البصيرة لأهل عالم الجبروت ، أو تقول شعاع البصيرة لأهل الفناء في الأعمال ،وعين البصيرة لأهل الفناء في الذات، وحق البصيرة لأهل الفناء في الفناء ، فشعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، أي يوجب لك شهود قرب نور الحق منك ،قال تعالى :"ولقد خلقنا الأنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "وقال تعالى :" وهو معكم أينا كنتم " وعين البصيرة يشهدك عدمك ، أي زوالك بزوال وهمك لوجوده ، أي وجود الحق ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، فإذا زال عنك الوهم وفنيت عن وجودك ، شهدت ربك بربك ، وهو علامة فتح البصيرة ، وعلاج السريرة.
فظاهره ، أن عامة المسلمين ،عميت بصيرتهم ، والتحقيق هو ما تقدم من التفصيل وأنها مسدودة فقط مع صحة ناظرها ، بخلاف بصيرة الكفار، فإنها عمياء ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق وحده لا وجودك ،لأنك مفقود من أصلك ،ولا عدمك إذ لا يعدم إلا ما ثبت له وجود ، ولم يكن مع الله موجود كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، قال محيى الدين بن محمد بن علي بن العربي الحاتمي رضي الله عنه :" من شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل " قلت : ومن شهدهم بعين العدم فقد تمكن وصاله ، والله تعالى أعلم .
ثم إذا تقرر انفراد الحق بالوجود ، فلا تتعد همتك إلى غيره ، إذ هو مفقود ، وإلى ذلك أشار بقوله في أول الباب الرابع ، وقال رضي الله عنه :
"لا تتعد نية همتك إلى غيره ،فالكريم لا تتخطاه الآمال "
قلت : لا تتعد أي لا تتجاوز ونية الهمة قصدها الذي تتوجه به والهمة القوة المنبعثة في طلب المقاصد والآمال قصود القاصدين .
قلت : إذا تعلقت همتك أيها المريد ، بشيء تريد تحصيله ، فردها إلى الله ، ولا تتعلق بشيء سواه ، لأنه سبحانه كريم على الدوام ، ونعمه سَحَّاءُ على مر الليالي والأيام ، والكريم لا تتخطاه الآمال ، وهو يحب أن يسئل فيجيب السؤال ، وقد قالوا في تفسير إسمه تعالى الكريم :"هو الذي إذا سئل أعطى ولا يبالي كم أعطى ، ولا لمن أعطى ، وإذا رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى ، وإذا جفى عفا ، وإذا عاتب ما أستقصى ، فهذا من كمال كرمه وتمام إحسانه وأنعامه .
وإذا علمت كرمه وجوده وكماله وإحسانه ، فلا ترفع إلى غيره ما هو مورده عليك ، كما قال :
"لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك "
قد علمت أن ما سوى الحق خيال وهمي لا حقيقة لوجوده ، فإذا أنزل الله بك حاجة كفاقة أو شدة أو غير ذلك من العوارض ،فأنزلها بالله ، واجعلها تحت مشيئة الله ، وغب عنها في ذكر الله ، ولا تلتفت إلى ما سواه تعلقاً ولا تملقاً ، ففي الحديث :" من لم يسئل الله يغضب عليه" وقال أبو علي الدقاق :" من علامة المعرفة أن لا تسأل حوائجك كلها إلا من الله قَلَّتْ أو جَلتْ مثل موسى عليه السلام اشتاق إلى رؤيته ،فقال :" رب أرني أنظر إليك" واحتاج يوماً إلى رغيف ، فقال :"رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير " ثم تعجب ممن رفع أحكام الحق إلى غيره مع عجزه وضعفه ، فقال :
"فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً"
قلت : من قلة حياء الإنسان ، أن يرفع إلى غيره ما أنزله عليه الحق تعالى من أحكام قهره ، مع علمه تعالى بإحسانه وبره ، وعدم انفكاك لطفه عن قدره ، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :" أيست من نفع نفسي لنفسي فكيف لا أيأس من نفع غيري لها ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي" وقال بعض العارفين :"قيل لي في نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم ، لا تبدين فاقة فأضاعفها عليك ، مكافأة لسوء أدبك وخروجك إلى حد عبوديتك ، إنما أبتليتك بالفاقة لتفزع إلي منها ، وتتضرع بها لدي ، وتتوكل فيها علي ، سبكتك بالفاقة لتصير بها ذهباً خالصاً ، فلا تزيغن بعد السبك ، وسمتك بالفاقة وحكمت لنفسي بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري ، قطعت عنك مواد معونتي ، وحسمت أسبابك من أسبابي طرداً لك عن بابي ، فمن وكلته إلى ملك ومن وكلته إليه هلك" ، ثم بين وجه التعجب فقال :
" من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً".
قلت من عجز عن إصلاح نفسه ، فكيف يقدر أن يصلح غيره ، ضعف الطالب والمطلوب ، قال بعضهم :" من اعتمد على غير الله ، فهو في غرور ، لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شيء سواه ، وهو الدائم القديم ، الذي لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم لك منه العطاء والفضل"ثم أن الإعتماد على الله ورفع الحوائج إليه ، والرجوع في كل النوازل إليه ، سببه حسن الظن به ، كما أشار إليه بقوله :
" إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسن ظنك به لأجل معاملته معك ، فهل عودك إلا حسناً ، وهل أسدى إليك إلا منناً ".
قلت : الناس في حسن الظن بالله على قسمين :
- خواص
- وعوام
أما الخواص ، فحسن ظنهم بالله تعالى ، ناشىء عن شهود جماله ورؤية كماله ، فحسن ظنهم بالله لا ينقطع ، سواء واجههم بجماله أو بجلاله ، لأن اتصافه تعالى بالرحمة والرأفة والكرم والجود لا ينقطع ، فإذا تجلى لهم بجلاله أو قهريته علموا ما في طي ذلك من تمام نعمته وشمول رحمته ، فغلب عليهم شهود الرحمة والجمال ، فدام حسن ظنهم على كل حال .
وأما العوام فحسن ظنهم بالله ، ناشيء عن شهود إحسانه وحسن معاملته وامتنانه ، فإذا نزلت بهم قهرية أو شدة ، نظروا إلى سالف أحسانه ، وحسن ما أسدي إليهم من حسن لطفه وامتنانه ، فقاسوا ما يأتي على ما مضى ، فتلقوا ما يرد عليهم بالقبول والرضى ، وقد يضعف هذا الظن بضعف النظر والتفكر ، ويقوى بقوتهما ، بخلاف الأول ، فإنه ناشيء عن شهود الوصف ، والوصف لا يتخلف ، والثاني ناشىء عن شهود الفعل وهو يتخلف ، فإن لم تقدر أيها المريد ، أن تحسن ظنك بالله ، لشهود وصفه بالرأفة والرحمة التي لا تتخلف ، فحسن ظنك به لوجود معاملته معك بلطفه ومننه ، فهل عودك الحق تعالى الاّ برا حسناً ولطفاً جميلاً ، وهل أسدي إليك أي أوصل إليك إلا مننا كبيرة ونعماً غزيرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أحبوا الله لما يغذيكم به من نعمه وأحبوني بحب الله" وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :"إنا لا نحب إلا الله ، ولا نحب معه شيئاً سواه . فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم : « النفس مجبولة على حب من أحسن إليها » فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله ، ولا نرى معه غيره ". وقال أيضاً رضي الله عنه :" قرأت ليلة ، قل أعوذ برب الناس إلى أن بلغت فيها من شر الوسواس ، فقيل لي شر الوسواس ، وسواس يدخل بينك وبين حبيبك ، يذكرك أفعالك السيئة ، وينسيك أفعالك الحسنة ، ويكثر عندك ذات الشمال ، ويقلل عندك ذات اليمين ، ليعدل بك عن حسن الظن بالله وكرمه ، إلى سوء الظن بالله ورسوله ، فاحذروا هذا الباب ، فقد أخذ منه خلق كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد" 

- البداية المحرقة والنهاية المشرقة

ثم إن هذه الأمور التي تشرق بها البداية وتكون علامة على إشراق النهاية ، هي أمور باطنية كالإعتماد على الله والرجوع إليه ، أو كثرة الشوق والأشتياق إليه ، لكن لا بد من ظهور أثرها على الظاهر، وإليه أشار بقوله :
”ما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر”
 إستودع أي وضع ، فالأستيداع هو وضع الشيء في محل ليحفظ ، وغيب السرائر هو باطنها ، والمراد بالسرائر هو القلوب والأرواح وشهادة الظواهر هي ظاهر الجوارج.
ما استودع الله سبحانه في القلوب وجعله فيها من خير أو شر، من نور أو ظلمة، من علم أو جهل ، من رحمة أو قسوة ، من بخل أو شح ، أو كرم وسخاء ، وقبض وبسط ، ويقظة أو غفلة ، ومعرفة أو نكران ، أو غير ذلك من الأخلاق المحمودة أو المذمومة ، لا بد أن يظهر آثار ذلك على الجوارح من أدب وتهذيب ، وسكون وطمأنينة ، ورزانة وبذل، وعفو أو طيش ، وقلق وغضب، وغير ذلك من الأحوال القلبية والأعمال القالبية ، قال تعالى :" تعرفهم بسيماهم " وقال : " سيماهم في وجوههم " وقال صلى الله عليه وسلم :" من سر سريرة كساه الله رداءها" فأفعال الجوارح تابعة لاحوال القلوب ، فمن أودع في سر غيبه معرفة مولاه لم يطلب من سواه ، ومن أودع في سر غيبه الجهل بمولاه تعلق بما سواه ، وهكذا أحوال الظاهر تابعة لأحوال الباطن ، كما تقدم في قوله :
" تنوعت أجناس الأعمال لتنوع وارادات الأحوال"
فالأسرة تدل على السريرة ، والكلام صفة المتكلم ، وما فيك ظهر على فيك ، وكل إناء بالذي فيه يرشح ، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره ، والله تعالى أعلم.
وأعظم ما أستودع في غيب السرائر معرفة الله ، وهي على قسمين :" معرفة البرهان ومعرفة العيان" أشار إلى الفرق بينهما فقال:
" شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه المستدل به"
عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والإستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ، شتان بمعنى بعد وافترق ولا تكون إلا في إفتراق المعاني دون الحسيات.
اعلم أن الحق سبحانه لما أراد أن يتجلى بأسرار ذاته وأنوار صفاته ، أظهر بقدرته قبضة من نوره الأزلي ، فأقتضت القدرة ظهور آثارها وشهود أنوارها ، وأقتضت الحكمة إسدال حجابها وإظهار أستارها، فلما فرغت القدرة نورها في مظاهر الكون ، أسدلت عليها الحكمة رداء الصون ، فصارت الأكوان كلها نوراً في حجاب مستور ، ثم إن الحق سبحانه قسم الخلق على قسمين ، وفرقهم فرقتين ، قسم اختصهم بمحبته،وجعلهم من أهل ولايته، ففتح لهم الباب وكشف لهم الحجاب، فأشهدهم أسرار ذاته، ولم يحجبهم عنه بأثار قدرته، وقسم أقامهم لخدمته وجعلهم من أهل حكمته، أسدل عليهم حجاب الوهم وغيب عنهم نور العلم والفهم، فوقفوا مع ظواهر القشور ولم يشهدوا بواطن النور، مع شدة الظهور، فسبحان من أخفى سره بحكمته، وأظهر نوره بقدرته، فأما أهل المحبة وهم أهل الولاية والعرفان من أهل الشهود والعيان، فهم يستدلون بالنور على وجود الستور، فلا يرون إلا النور، وبالحق على وجود الخلق، فلا يجدون إلا الحق، وبقدرته على حكمته، فوجدوا قدرته عين حكمته ،وحكمته عين قدرته، فغابوا بشهود الحق عن رؤية الخلق،إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه، وأما أهل الخدمة من أهل الحكمة، فهم يستدلون بظهور الستور على وجود النور، وبالخلق على وجود الحق، غابوا عنه في حال حضوره، وحجبوا عنه بشدة ظهوره،قال بعض العارفين: "أثبت الله تعالى للعامة المخلوق، فأثبتوا به الخالق وأثبت للخاصة نفسه فأثبتوا به المخلوق" فشتان بين من يستدل به على ظهور أثره،وبين من يستدل بظهور أثره على وجوده، لأن من يستدل به عرف الحق وهو الوجود الحقيقي لأهله أي لمن هو أهل له ويستحقه وهو الله الواجب الوجود الملك المعبود، وأثبت الأمر وهو القدم للوجود الحقيقي من وجود أصله وهو الجبروت
الأصلي القديم الأزلي، يعني أن من عرف الله حتى صار عنده ضرورياً،عرف الوجود إنما هو الله وانتفى عنه وجود ما سواه ، وأثبت القدم لأوله ومنتهاه والله تعالى أعلم.
وأما من يستدل عليه فلبعده عنه في حال قربه منه ، ولغيبته عنه في حال حضوره معه بَعَّدَهُ الوَهْم وغَيَّبَهُ عَدَم الفهم،وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه،إذ هو أقرب إليك من حبل الوريد، ومتى بعد حتى تكون الآثار الوهمية هي التي توصل إليه، وهو معكم أينما كنتم، إذ أثر القدرة هو عينها، فالصفة لا تفارق الموصوف، إذ لا قيام لها إلا به،ولا ظهور لها إلا منه،والله تعالى أعلم.


ولما كان المستدلون بالله قد وسع الله عليهم دائرة العلوم،وفتحت لهم مخازن الفهوم،بخلاف المستدلين عليه، قد قتر الله عليهم أرزاق العلم بوجود حجاب الوهم،أشار إلى ذلك بقوله:{ لينفق ذو سعة من سعته } الواصلون إليه { ومن قدر عليه } السائرون إليه السعة هي الغنى، وقدر عليه ضيق عليه.



قلت أما الواصلون إليه، فلأنهم لما نفذت أرواحهم من ضيق الأكوان إلى قضاء الشهود والعيان،أو تقول لما عرجت أرواحهم من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أو من عالم الملك إلى عالم الملكوت،اتسعت عليها دائرة أرزاق العلوم،وفتحت لها مخازن الفهوم،فأنفقوا من سعة غناهم جواهر العلم المكنون، ومن مخازن كنوزهم يواقيت السر المصون،وما أعظم فتح من لحظته منهم الرعاية، "إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً" وهم أهل السر والحال، وأما السائرون إلى الله،فلأنهم باقون في ضيق الأكوان، وفي عالم الأشباح مسجونون، في سجن الوهم لم يفتح لهم شيء من مخازن الفهم، مشغولون بجهاد نفوسهم ومعاناة تصفية قلوبهم ، مضيق عليهم في العلوم ومقتر عليهم في سائر الفهوم، فإن جدوا في السير وصلوا، وانتقلوا من ضيق الأكوان، ورحلوا وتبختروا في رياض العلوم،ورفلوا فظفروا بما أملوا وإستغنوا بعدها أن ملوا، وإن رجعوا من الطريق أو قصروا فقد خابوا وخسروا.

تنبيه : إن أردت أن يتسع عليك علم الأذواق، فاقطع عنك مادة الأوراق، فما دمت متكلاً على كنز غيرك لا تحفر على كنزك أبداً، فاقطع عنك المادة وافتقر إلى الله،تفيض عليك المواهب من الله "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" إن أردت بسط المواهب عليك، صحح الفقر والفاقة لديك وبالله التوفيق.


ثم ذكر سبب اتساع العلوم على الواصلين دون السائرين، وهو أن الواصلين لم يقفوا مع شهود الأنوار، بل نفذوا إلى نور الأنوار، بخلاف السائرين،فإنهم واقفون مع الأنوار، مفتقرون إليها مملوكون في يدها،فقال : "اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه والواصلون لهم أنوار المواجهة فالأولون للأنوار".

وهؤلاء الأنوار لهم لأنهم لله، لا لشيء دونه، "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون".


قلت أنوار التوجيه هي أنوار الإسلام والإيمان، وأنوار المواجهة هي أنوار الأحسان، أو تقول أنوار التوجيه أنوار الطاعة الظاهرة والباطنة، وأنوار المواجهة هي أنوار الفكرة والنظرة،أو تقول أنوار التوجه أنوار الشريعة والطريقة، وأنوار المواجهة أنوار الحقيقة، أو تقول أنوار التوجه أنوار المجاهدة والمكابدة، وأنوار المواجهة هي أنوار المشاهدة والمكالمة، وبيان ذلك أن الحق سبحانه إذا أراد أن يوصل عبده إليه، توجه إليه أولا بنور حلاوة العمل الظاهر، وهو مقام الإسلام،فيهتدي إلى العمل ويفنى فيه،ويذوق حلاوته،ثم يتوجه إليه بنور حلاوة العمل الباطن، وهو مقام الإيمان من الإخلاص والصدق والطمأنينة والأنس بالله والتوحش مما سواه، فيهتدي إليه ويفنى فيه ويذوق حلاوته،ويتمكن من المراقبة،وهذا النور أعظم من الأول وأكمل، ثم يتوجه إليه بنور حلاوة المشاهدة وهو عمل الروح وهو أول نور المواجهة، فتأخذه الدهشة والحيرة والسكرة، فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذبته وتمكن من الشهود وعرف الملك المعبود ورجع إلى البقاء كان الله وبالله فأستغنى عن النور بمشاهد نور النور، لأنه صار عين النور، فصار مالكاً للأنوار بعد أن كانت مالكة له لأفتقاره لها قبل وصوله إلى أصلها،فلما وصل صار عبداً لله حراً مما سواه، ظاهره عبودية وباطنه حرية، والحاصل أن المريد ما دام في السير فهو يهتدي بأنوار التوجه مفتقراً إليها لسيره بها، فإذا وصل إلى مقام المشاهدة حصلت له أنوار المواجهة فلم يفتقر إلى شيء لأنه لله لا لشيء دونه.
فالراحلون وهم السائرون للأنوار لإفتقارهم إليها وفرحهم بها،وهؤلاء الواصلون الأنوار لهم لإستغنائهم عنها بالله، فهم لله وبالله لا لشيء دونه، ثم تلى الشيخ هذه الآية على طريق أهل الأشارة "قُلِ اللَّهُ" بقلبك وروحك وغب عما سواه ثم ذر الناس في خوضهم يلعبون، أي يخوضون في السوى لاعبين في الهوى، وقد أعترض بعض المفسرين على الصوفية استشهادهم بهذه الآية،ولم يفهم مرادهم، قد علم كل أناس مشربهم، وكان الشيخ ابن عباد: "يقول لا تجعلوا أهل الظاهر حجة على أهل الباطن" أي لأن أهل الباطن نظرهم دقيق وغزلهم رقيق لا يفهم أشارتهم غيرهم، نفعنا الله بهم وخرطنا في سلكهم آمين.

- نور الطاعة وظلمة المعصية

ولما كان أصل كل نور وسر وخير هو طاعة الله وأصل كل ظلمة وحجاب وبعد هو معصية الله ومن علامة حياة القلب فرحه بالطاعة وحزنه على صدور المعصية نبهك الشيخ على وجه الفرح بالطاعة التي هي سبب نور القلوب ومفاتيح الغيوب فقال :

{ لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وأفرح بها لأنها برزت من الله إليك" قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون "}

 قلت قد تقدم في الحديث "من سرته حسناته وساءته وسيئاته فهو مؤمن" والناس في الفرح بالطاعة على ثلاثة أقسام : قسم فرحوا بها لما يرجون عليها من النعيم ويدفعون بها من عذابه الأليم فهم يرون صدورها من أنفسهم لأنفسهم لم يتبرؤا فيها من حولهم وقوتهم وهم من أهل قوله تعالى :"إياك نعبد".
وقسم فرحوا بها من حيث أنها عنوان الرضى والقبول وسبب في القرب والوصول فهي هدايا من الملك الكريم ومطايا تحملهم إلى حضرة النعيم لا يرون لأنفسهم تركاً ولا فعلاً ولا قوة ولا حولاً يرون أنهم محمولون بالقدرة الأزلية مصرفون عن المشيئة الأصلية وهم من أهل قوله تعالى :" إياك نستعين".
 فأهل القسم الأول عبادتهم لله وأهل القسم الثاني عبادتهم بالله وبقدرة الله وبينهما فرق كبير.
وقسم ثالث فرحهم بالله دون شيء سواه فانون عن أنفسهم باقون بربهم فإن ظهرت منهم طاعة فالمنة لله وأن ظهرت منهم معصية اعتذروا لله أدباً مع الله لا ينقص فرحهم أن ظهرت منهم زلة ولا يزيد أن ظهرت منهم طاعة أو يقظة لأنهم بالله ولله من أهل لا حول ولا قوة إلا بالله وهم العارفون بالله .
فإن ظهرت منك أيها المريد طاعة أو إحسان فلا تفرح بها من حيث أنها برزت منك فتكون مشركاً بربك فإن الله تعالى غني عنك وعن طاعتك وغني عن أن يحتاج إلى من يطيعه سواه قال الله تعالى :" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين " وقال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً "...الحديث.
وافرح بها من حيث أنها هدية من الله إليك تدل على أنك من مظاهر كرمه وفضله وإحسانه فالفرح إنما هو بفضل الله وبرحمته قال تعالى :"قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " ففضل الله هو هدايته وتوفيقه ورحمته هو إجتباؤه وتقريبه.

 ولما كان الفرح بالطاعة قد يتوهم أنه فرع رؤيتها والنظر إليها رفع ذلك بقوله :

{ قطع السائرين له والواصلين إليه عن رؤية أعمالهم وشهود أحوالهم أما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع الله فيها وأما الواصلون فلأنه غيبهم بشهوده عنها }

 يعني أن الحق تعالى غيب السائرين له والواصلين إليه عن رؤية أعمالهم الظاهرة وشهود أحوالهم الباطنية أما السائرون فلأنهم يتهمون أنفسهم على الدوام فمهما صدر منهم إحسان ولاح لهم يقظة أو وجدان رأوها في غاية الخلل والنقصان فأستحيوا من الله أن يعتمدوا عليها أو يعتدوا بها فغابوا عن أعمالهم وأحوالهم وأعتمدوا على فضل ربهم فالصدق هو لب الإخلاص وسره أي لم يتحققوا بسر الإخلاص فيها فلم يروها ولم يركنوا إليها سئل بعض العارفين :" ما علامة قبول العمل  ؟ قال نسيانك إياه وانقطاع نظرك عنه بالكلية بدلالة قوله تعالى :" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال زين العابدين رضي الله عنه :" كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتك فذلك دليل على أنه لم يقبل لأن المقبول مرفوع مغيب عنك وما انقطعت عنه رؤيتك فذاك دليل على القبول " وأما الواصلون فلأنهم فانون عن أنفسهم غائبون في شهود معبودهم فحركاتهم وسكناتهم كلها بالله ومن الله وإلى الله إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه فإن ظهرت عليهم طاعة أو صدر منهم إحسان شهدوا في ذلك الواحد المنان .  ف
واعلم أن السائرين في كلام الشيخ هم القسم الثاني الذين فرحهم بالطاعة من حيث أنها عنوان القبول ولا يلزم من الفرح بها رؤيتها إذ قد يفرح بها من حيث أنها منة من الله ويقطع رؤيته عنها من حيث اعتماده على الله والواصلون هنا هم القسم الثالث الذين هم فرحهم بالله دون شيء سواه والله تعالى أعلم.

 هذا آخر الباب السادس وبه انتهي ربع الكتاب وحاصلها علاج القلوب وعلامة موتها ومرضها وصحتها واستمداد أنوارها واتصال وارداتها حتي تغيب عن شهود أعمالها وأحوالها وتفنى عن دائرة حسها باتساع فضاء شهودها وفي ذلك شرفها وعزها وفي ضد ذلك وهو رؤية المخلوق والركون إليه ذلها وهوانها وبذلك أفتتح الباب السابع فقال رضي الله عنه :

{ ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع }

 قلت ألبسوق هو الطول قال تعالى " والنخل باسقات " أي طويلات والبذر الذريعة والطمع تعلق القلب بما في أيدي الخلق وتشوف القلب إلى غير الرب وهو أصل شجرة الذل فما بسقت أغصان شجرة الذل إلا على زريعة الطمع ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي :" والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق " وإنما كان الطمع هو أصل الذل لأن صاحب الطمع ترك رباً عزيزاً وتعلق بعبد حقير فاحتقر مثله ترك رباً كريماً وتعلق بعبد فقير فافتقر مثله ترك رفع همته إلى الغني الكريم وأسقط همته إلى الدني اللئيم ، إن الله يرزق العبد على قدر همته ، وأيضاً كان عبد الله حراً مما سواه صار عبداً للمخلوق وعبداً لنفسه وهواه ، لأنك مهما أحببت شيئاً وطمعت فيه إلا كنت عبداً له ومهما أيست من شيء ورفعت همتك عنه إلا كنت حراً منه .
قال في التنوير: وكن أيها العبد إبراهيمياً فقد قال أبوك إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه لا أحب الآفلين وكل ما سوى الله آفل إما وجوداً وإما إمكاناً وقد قال سبحانه ملة أبيكم إبراهيم فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم ومن ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق فإنه يوم زج به في المنجنيق تعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا وأما إلى الله فبلى ، قال : فاسئله ، قال :حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فانظر كيف رفع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه همته عن الخلق ووجهها إلى الملك الحق فلم يستغث بجبريل ولا احتال على السؤال من الله بل رأى الحق سبحانه أقرب إليه من جبريل ومن سؤله فلذلك سلمه من نمروذ ونكاله وأنعم عليه بنواله وأفضاله وخصه بوجود إقباله ومن ملة إبراهيم معاداة كل ما شغل عن الله وصرف الهمة بالود إلى الله لقوله تعالى " فإنهم عدو لي إلا رب العالمين " والغني إن أردت الدلالة عليه فهو في اليأس وقد قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " أيست من نفع نفسي لنفسي فكيف لا أيأس من نفع غيري لها ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي " وهذا هو الكيمياء والإكسير الذي من حصل له حصل له غنى لا فاقة فيه وعز لاذل معه وإنفاق لا نفاد له وهو كيميا أهل الفهم عن الله تعالى قال الشيخ أبو الحسن رضي الله :" عنه صحبني إنسان وكان ثقيلاً على فباسطته فانبسط وقلت يا ولدي ما حاجتك ولم صحبتني قال يا سيدي قيل لي أنك تعلم الكيمياء فصحبتك لأتعلم منك فقلت له صدقت وصدق من حدثك ولكن أخالك أي أظنك لا تقبل فقال بل أقبل فقلت نظرت إلى الخلق فوجدتهم على قسمين أعداء وأحباء فنظرت إلى الأعداء فعلمت أنهم لا يستطيعون أن يشوكوني بشوكة لم يردني الله بها فقطعت نظري عنهم ثم تعلقت بالأحباء فرأيتهم لا يستطيعون أن ينفعوني بشيء لم يردني الله به فقطعت يأسي منهم وتعلقت بالله فقيل لي إنك لا تصل إلى حقيقة هذا الأمر حتى تقطع يأسك منا كما قطعته من غيرنا أن نعطيك غير ما قسمنا لك في الأزل : وقال مرة أخرى لما سئل عن الكيمياء قال :" أخرج الخلق من قلبك واقطع يأسك من ربك أن يعطيك غير ما قسم لك "وليس يدل على فهم العبد كثرة علمه ولا مداومته على ورده إنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه وتحرزه من رق الطمع وتحليه بحلية الورع وبذلك تحسن الأعمال وتزكوا الأحوال قال تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً " فحسن الأعمال إنما هو الفهم عن الله والفهم هو ما ذكرناه من الاغتناء بالله والاكتفاء به والاعتماد عليه ورفع الحوائج إليه والدوام بين يديه وكل ذلك من ثمرة الفهم عن الله . وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه وتطهر من الطمع في الخلق فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم ورفع الهمة عنهم وقدم علي رضي الله عنه البصرة فدخل جامعاً فوجد القصاص يقصون فأقامهم حتى وجد الحسن البصري فقال يا فتى أني سائلك عن أمر فإن أجبت عنه أبقينك وإلا أقمنك كما أقمت أصحابك وكان قد رأى عليه سمتاً وهدياً فقال الحسن سل عما شئت فقال ما ملاك الدين ؟ قال الورع ، قال فما فساد  الدين ؟ قال : الطمع ، قال : اجلس فمثلك يتكلم على الناس.
 فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق ولا تذل لهم شأن الرزق فقد سبقت قسمته وجودك وتقدم ثبوته ظهورك .

ولما كان سبب وجود الطمع هو الوهم والجزع ذكره بأثره فقال :

{ ما قادك شيء مثل الوهم }

الوهم أول الخاطر وهو أضعف من الشك والمراد هنا ما خالف اليقين فيصدق بالظن والشك يقول رضي الله عنه ما جرك شيء وقادك إلى الطمع في الخلق والتملق لهم والتذلل لما في أيديهم شيء مثل الوهم يعني أنك لما توهمت أن بيدهم نفعاً أو ضراً أو عطاء أو منعاً طمعت فيهم وتذللت لهم واعتمدت عليهم وخفت منهم ولو حصل لك اليقين أن أمرهم بيد الله وأنفسهم في قبضة الله عاجزين عن نفع أنفسهم فكيف يقدرون على نفع غيرهم لقطعت يأسك منهم ولرفعت همتك عنهم ولتعلقت همتك برب الأرباب ولنبذت الأصحاب والأحباب ، أو تقول ما قادك شيء عن حضرة الشهود والعيان إلا توهمك وجود الأكوان ولو أنهتك عنك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ولو أشرق نور الايقان لغطي وجود الأكوان قال في التنوير وإنما منع العباد من السبق إلى الله جواذب التعلق بغير الله فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله جذبها ذلك التعلق إلي ما به تعلقت فكرت راجعة إليه ومقبلة عليه فالحضرة محرمة على من هذا وصفه وممنوعة على من هذا نعته قال بعض العارفين لا تظن أن تدخل الحضرة الإلهية وشيء من ورائك يجذبك وافهم هنا قوله سبحانه :" يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء دون الله وقوله تعالى:" ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" يفهم منه أيضاً أنه لا يصح مجيئك إلى الله بالوصول إليه إلا إذا كنت فرداً مما سواه وقوله تعالى " ألم يجدك يتيماً فآوى " يفهم أنه لا يأويك إليه إلا إذا صح يتمك مما سواه وقوله عليه السلام أن الله وتر يحب الوتر أي يحب القلب الذي لا يشفع بثنوية الآثار ثم وقال بعضهم :" لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده معه " فتحصل أن الوهم حجب عن الله العوام والخواص وأما خواص الخواص فلم يحجبهم عن الله شيء أما العوام فقادهم إلى التعلق بالخلق ومنعهم عن السير إلي الملك الحق فاشتغلوا بمراقبة الأحباب وعداوة من عاداهم من الأصحاب ففاتهم محبة الحبيب ومراقبة الرقيب وأما الخواص فقادهم الوهم إلى ثبوت الآثار والوقوف مع الأنوار فقنعوا بذلك ولم يتشوفوا إلى ما وراء ذلك فالقناعة من الله حرمان وليس الخبر كالعيان وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول :" والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم والوهم أمر عدمي لا حقيقة له " وأما خواص الخواص فلم يحجبهم عن الله شيء قطعوا حجاب الوهم وحصل لهم من الله العلم والفهم فلم يتعلقوا بشيء ولم يحجبهم عن الله شيء جعلنا الله منهم بمنه وكرمه .

 ولما كان الوهم ينشأ عنه الطمع والطمع ينشأ عنه الذل والعبودية واليقين ينشأ عنه الورع والورع ينشأ عنه العز والحرية نبه عليه بقوله :

{أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت فيه طامع }

 قلت إنما كان الانسان حراً مما أيس منه لأنه لما أيس من ذلك الشيء رفع همته عنه وعلقها بالملك الحق فلما علق همته بالملك الحق سخر الحق له تعالي له سائر الخلق فكانت الأشياء كلها عبيداً له ومسخرة لأمره أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك فمن كان عبداً لله كان حراً مما سواه وإنما كان الانسان عبداً لما طمع فيه لأن الطمع في الشيء يقتضي المحبة له والخضوع والانقياد إليه فيكون عند أمره ونهيه لأنك حبك لشيء يعمي ويصم وهذه حقيقة العبودية وفي هذا المعنى قيل العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع، وما أقبح الانسان الذي يريد سيده منه أن يكون ملكاً وهو يريد أن يكون مملوكاً يريد سيده أن يجعله حراً وهو يريد أن يكون عبداً خلق له سيده الكون بأسره خادماً له عند نهيه وأمره فجعل هو يخدم الكون بنفسه ويتعبد لأقل شيء وأخسه يقول المصنف في التنوير في مناجاة الحق تعالى على ألسنة الهواتف :" إنا أجللنا قدرك أيها العبد أن نشغلك بأمر نفسك فلا تضعن قدرك يا من رفعناه ولا تذلن بحوالتك على غيري يا من أعززناه ويحك أنت أجل عندنا من أن تشتغل بغيرنا لحضرتي خلقتك وإليها طلبتك وبجواذب عنايتي لها جذبتك فإن أشتغلت بنفسك حجبتك وأن اتبعت هواها طردتك وإن أخرجت عنها قربتك وإن توددت لي بإعراضك عما سواي أحببتك" فتحصل أن محبة الأشياء والطمع فيها هو سبب
الذل والهوان والتعبد لسائر الأكوان وأن الأياس من الأشياء ورفع الهمة عنها هو سبب العز والحرية والتيه على الأقران.

قلت وهذا هو الغنى الأكبر والإكسير عند الأكياس ويسمى في اصطلاح الصوفية الورع أعني الورع الخاص وهو رفع الهمة عن السوي قال في لطائف المنن واعلم رحمك الله أن ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل فإن من جملة ورعهم تورعهم أن يسكنوا لغيره أو يميلوا بالحب لغيره أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره ومن ورعهم عن الخوف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب ومن ورعهم ورعهم عن الوقوف مع العادرات والاعتماد على الطاعات والسكون إلى أنوار التجليات ومن ورعهم ورعهم عن أن تفتنهم الدنيا أو توقفهم الآخرة تورعوا عن الدنيا وفاء وعن الآخرة صفاء .
 وقال أبو الحسن الورع نعم الطريق لمن عجل ميراثه وأجل ثوابه فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم لا يدبرون ولا يختارون ولا يريدون ولا يتفكرون ولا ينظرون ولا ينطقون ولا يبطشون ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله ولله من حيث يعلمون هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فهم مجموعون في عين الجمع لا يفترقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى وأما أدني الأدنى فالله يورعهم عنه ثواباً لورعهم مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى وميرائه التعزز لخلقه والاستكبار على مثله والدلالة على الله بعلمه فهذا هو الخسران المبين والعياذ بالله العظيم من ذلك والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه ومن لم يزدد بعلمه وعمله افتقاراً لربه واحتقاراً لنفسه وتواضعاً لخلقه فهو هالك فسبحان من قطع كثيراً من الصالحين بصلاحهم عن مصلحهم كما قطع كثيراً من المفسدين بفسادهم عن موجدهم فأستعذ بالله أنه هو السميع البصير اه.
فانظر فهمك الله سبيل أوليائه ومن عليك بمتابعة أحبائه هذا الورع الذي ذكره هذا الشيخ رضي الله عنه هل كان فهمك يصل إلى هذا النوع من الورع ألا ترى قوله قد أنتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهذا هو ورع الأبدال والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الواهم اه قلت هذا الورع الذي ذكره الشيخ هو ورع الخواص أو خواص الخواص وهو الذي يقابل الطمع كما تقدم في قول الحسن البصري صلاح الدين الورع وفساد الدين الطمع لا ورع العوام الذي هو ترك المتشابه والحرام فإنه لا يقابل الطمع كل المقابلة وحاصله صحة اليقين وكمال التعلق برب العالمين ووجود السكون إليه وعكوف الهم عليه وطمأنينة القلب به حتى لا يكون له ركون إلى شيء من السوى فهذا هو الورع الذي يقابل الطمع المفسد وبه يصلح كل عمل مقرب وحال مسعد قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه الورع على وجهين ورع في الظاهر وهو إلا تتحرك إلا لله وورع في الباطن وهو أن لا يدخل قلبك إلا الله .

- ايقاظ الهمم

إذا أراد الله تعالى أن يعز عبده ويرفعه إلى هذا المقام قطع عنه زمام الوهم والجزع وحرره من رق الطمع فقاده إليه بملاطفة الإحسان أو بسلاسل الامتحان كما أشار إلى ذلك بقوله :

( مَنْ لَمْ يُقْبِلْ عَلى اللهِ بِمُلاطَفاتِ الإحْسانِ قِيْدَ إلَيْهِ بِسَلاسِلِ الامْتِحانِ)

قد قسم الله تعالى عباده ثلاثة أقسام :أهل الشمال وأهل اليمين والسابقون ، أما أهل الشمال فلا كلام عليهم إذ لا إقبال لهم على الله أصلاً ، وأما أهل اليمين فلهم إقبال بوجه ما لكن لا خصوصية لهم لأنهم قنعوا بظاهر الشريعة ولم يلتفتوا إلى سلوك طريقة ولا حقيقة ، وقفوا مع الدليل والبرهان ولم ينهضوا إلى مقام الشهود والعيان ، ولا كلام معهم أيضاً ، وأما السابقون فقد أقبلوا على الله متوجهين إليه طالبين الوصول إلى معرفته ، وهم في ذلك على قسمين :
قسم أقبل على الله بملاطفة إحسانه وقياماً بشكر إنعامه وإمتنانه ، وهم أهل مقام الشكر .
وقسم أقبل على الله بسلاسل الامتحان وضروب البلايا والمحن ، وهم أهل مقام الصبر.
 أهل المقام الأول أقبلوا على الله طوعاً وأهل المقام الثاني أقبلوا على الله كرهاً قال تعالى :" وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا " قال أبو مدين رضي الله عنه :" سنة الله استدعاء العباد لطاعته بسعة الأرزاق ودوام المعافاة ليرجعوا إليه بنعمته فإن لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون لأن مراده عز وجل رجوع العباد إليه طوعاً وكراهاً ".
فقوم بسط الله عليهم النعم وصرف عنهم البلايا والنقم ، ورزقهم الصحة وأمدهم بالأموال والعافية ، فأدوا حقها وقاموا بشكرها وتشوقوا إلى معرفة المنعم بها ، فكانت مطية لهم على السير إليه ومعونة لهم على القدوم عليه ، أخرجوها من قلوبهم وجعلوها في أيديهم وقليل ما هم ، قال تعالى :"وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ "وفي مثل هؤلاء ورد الحديث :" نِعْمَتْ الدُّنْيَا مَطِيَّةُ الْمُؤْمِنِ ، عَلَيْهَا يَبْلُغُ الْخَيْرَ ، وَبِهَا يَنْجُو مِنَ الشَّرِّ "أو كما قال عليه السلام ، قال بعض أصحابنا :" جعل عليه السلام الدنيا مطية للمؤمن حاملة له ولم يجعل المؤمن مطية لها حتى يتكلف حملها فهذا يدل على أنها في يده يستعين بها على السير إلى ربه لا أنها في قلبه حتى يرتكب المشقة في طلبها والله تعالى أعلم ".
 وقوم أمدهم الله بالنعم وبسط لهم في المال والعافية ، وصرف عنهم النقم فشغلهم ذلك عن النهوض إليه ومنعهم من المسير إلى حضرته ، فسلب ذلك عنهم وضربهم بالبلايا والمحن ، فأقبلوا على الله بسلاسل الامتحان ، عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل ، وقد مدح الله الغني الشاكر والفقير الصابر بمدح واحد فقال تعالى في حق سليمان عليه السلام : "وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ"وقال في حق أيوب عليه السلام :" إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ" وقال بعضهم لأن أعطي فأشكر أحب إلى من أن أبتلي فأصب.
التحقيق أن الفقير الصابر هو الغني الشاكر وبالعكس لأن الغنى إنما هو بالله فإذا استغنى القلب بالله فصاحبه هو الغني الشاكر ولا عبرة بما في اليد ، فقد تكون اليد معمورة والقلب فقير، وقد يكون القلب غنياً بالله واليد فقيرة ، وقد تكون اليد معمورة والقلب مع الله غنياً به عما سواه ، قال بعض المشايخ :"كان رجل بالمغرب من الزاهدين في الدنيا ومن أهل الجد والاجتهاد وكان عيشه مما يصيده من البحر وكان الذي يصيده يتصدق ببعضه ويتقوت ببعضه فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الزاهد إذا دخلت على بلدة كذا فاذهب إلى أخي فلان فأقرئه مني السلام واطلب منه الدعاء فإنه ولي من أولياء الله تعالى قال فسافرت حتي قدمت تلك البلدة فسألت عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلح إلا للملوك فتعجبت من ذلك وطلبته قيل لي هو عند السلطان فازداد تعجبي ، فبعد ساعة وإذا هو قد أتى في أفخر مركب وملبس وكأنما هو ملك في مركبه ، فازداد تعجبي أكثر من الأولين ، فهممت بالرجوع وعدم الاجتماع به ، ثم قلت :لا يمكنني مخالفة الشيخ ، فاستأذنت فأذن لي ، فلما دخلت رأيت ما هالني من العبيد والخدم والشارة الحسنة ، فقلت له :أخوك فلان يسلم عليك ، قال لي :جئت من عنده ؟قلت : نعم ،قال : إذا رجعت إليه فقل له إلى كم اشتغالك بالدنيا وإلى كم إقبالك عليها وإلى متى لا تنقطع رغبتك فيها ، فقلت والله هذا أعجب من الأولى فلما رجعت إلى الشيخ قال : اجتمعت بأخي فلان ؟ قلت : نعم ، قال : فما الذي قال لك ؟ قلت : لا شيء ، قال : لا بد أن تقول لي فأعدت عليه ما قال فبكي طويلاً وقال صدق أخي فلان هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده وعلى ظاهره وأنا آخذها من يدي ولي إليها بقايا التطلع ".
 فأحوال الأولياء لا تنضبط بفقر ولا غنى ، لأن الولاية أمر قلبي لا يعلمها إلا من خصهم بها وبالله التوفيق .
ومن أقبل على الله بملاطفة إحسانه وجب عليه شكر ما أسدي إليه من لطائف كرمه وامتنانه وإلا زالت عنه بسبب كفره وعصيانه ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوالِها، وَمَنْ شَكَرَها فَقَدْ قَيَّدَها بِعِقالِها)
اتفقت مقالات الحكماء على هذا المعني وأن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، وقالوا أيضاً من أعطي ولم يشكر سلب منها ولم يشعر ، فمن شكر النعمة فقد قيدها بعقالها ومن كفرها فقد تعرض لزوالها ، قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ "أي أن الله لا يغير ما بقوم من النعم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشكر ، وتغييرهم الشكر هو اشتغالهم بالمعاصي والكفر ، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه :"الشكر أن لا يعصى الله بنعمه" وقيل :" الشكر فرح القلب بالمنعم لأجل نعمته حتى يتعدى ذلك إلى الجوارح فتنبسط بالأوامر وتنكف عن الزواجر" وقال في لطائف المنن :" الشكر على ثلاثة أقسام : شكر اللسان وشكر الأركان وشكر الجنان فشكر اللسان التحدث بنعم الله قال تعالى :" وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ " وشكر الأركان العمل بالطاعة لله تعالى قال تعالى : " اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا " وشكر الجنان بالاعتراف بأن كل نعمة بك أو بأحد من العباد هي من الله تعالى قال الله تعالى : " وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ " ومن القسم الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم :"التحدث بالنعم شكر" ، ومن الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه فقيل له : "أتتكلف كل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً " وسئل أبو حازم رضي الله عنه :( ما شكر العينين ؟ قال : إذا رأيت بهما خيراً أعلنته وإذا رأيت بهما شراً سترته ، قال : فما شكر الأذنين ؟ قال : إذا سمعت بهما خيراً وعيته وإذا سمعت بهما شراً دفنته ، قال : فما شكر اليدين ؟ قال : لا تأخذ بهما ما ليس لك ولا تمنع حقاً هو الله فيهما ، قال : فما شكر البطن ؟ قال : أن يكون أسفله صبراً وأعلاه علماً ، قال : فما شكر الفرج ؟ قال : كما قال الله تعالى : " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ " إلى قوله :" غَيْرُ مَلُومِينَ " قال : فما شكر الرجلين ؟ قال : إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما وإن رأيت شيئاً مقته كففتهما).
 واعلم أن الناس في الشكر على ثلاث درجات : عوام وخواص وخواص الخواص ، فشكر العوام على النعم فقط ، وشكر الخواص على النعم والنقم ، وشكر خواص الخواص الغيبة في المنعم عن شهود النعم والنقم ، والنعم التي يقع الشكر عليها ثلاثة أقسام : دنيوية كالصحة والعافية والمال الحلال ، ودينية كالعلم والعمل والتقوى والمعرفة ، وأخروية كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل ، وأجل النعم الدينية التي يتأكد الشكر عليها نعمة الإسلام والإيمان والمعرفة وشكرها هو اعتقاد أنها منة من الله تعالي بلا واسطة ولا حول ولا قوة ، قال الله تعالى :" وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ " ثم قال :" فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً " قال أبو طالب المكي رضي الله عنه بعد كلام :"فلو قلب قلوبنا في الشك والضلال كما يقلب نياتنا في الأعمال أي شيء كنا نصنع وعلى أي شيء نعول وبأي شيء كنا نطمئن ونرجو فهذا من كبائر النعم ومعرفته هو شكر نعمة الإيمان والجهل بهذا غفلة عن نعمة الإيمان توجب العقوبة وإدعاء الإيمان أنه عن كسب معقول أو إستطاعة بقوة وحول هو كفر نعمة الإيمان وأخاف على من توهم ذلك أن يسلب الإيمان لأنه بدل شكر نعمة الإيمان كفرا" فإن غفل العبد عن شكر هذه النعم ثم دامت صورتها عنده فلا يغتر فقد يكون ذلك أستدراجاً ، كما أشارإلى ذلك بقوله :


(خَفْ مِنْ وُجودِ إحْسانِهِ إلَيْكَ وَدَوامِ إساءَتِكَ مَعَهُ أنْ يَكونَ ذلِكَ اسْتِدْراجاً لَكَ {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ})

الإستدراج هو كمون المحنة في عين المنة ، وهو مأخوذ من درج الصبي أي أخذ في المشي شيئاً بعد شيء ومنه الدرج الذي يرتقى عليه إلى العلو، كذلك المستدرج هو الذي تؤخذ منه النعمة شيئاً بعد شيء وهو لا يشعر، قال الله تعالى :" سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ " أي نأخذهم بالنعم حتى نجرهم إلى النقم وهم لا يشعرون قاله الشيخ زروق رضي الله عنه .

فخف أيها المريد من دوام إحسان الحق إليك بالصحة والفراغ وسعة الأرزاق ودوام الإمداد الحسية أو المعنوية مع دوام إساءتك معه بالغفلة والتقصيروعدم شكرك للملك الكبير أن يكون ذلك استدراجاً منه تعالى.
قال تعالى:"سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه:" نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا :وقال ابن عطاء رضي الله عنه :"كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة ونسيناهم الإستغفار من تلك الخطيئة" ثم قال الحق تعالى :" وأملي لهم " أي نمدهم بالعوافي والنعم حتى نأخذهم بغتة ، قال تعالى:" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ "أي فلما غفلوا عما ذكروا به من العقوبة والعذاب فتحنا عليهم أبواب النعم وبسطنا عليهم الأرزاق الحسية حتى إذا فرحوا بما أوتوا من النعم وتمكنوا منها أخذناهم بالهلاك بغتة أي فجأة فإذا هم مبلسون آيسون من كل خير ، وهكذا عادة الله في خلقه أن يرسل إليهم من يذكرهم بالله ويدلهم على الله فإذا أعرضوا عنه وردوا عليه قوله بسط عليهم النعم الحسية حتى إذا أطمأنوا وفرحوا بها دمرهم الله وأخذهم بغتة ليكون ذلك أشد في العقوبة،قال تعالى :"وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ "فالواجب على الأنسان إذا أحس بنعمة ظاهرة أو باطنة حسية أو معنوية أن يعرف حقها ويبادر إلى شكرها نطقاً واعتقاداً وعملاً فالنطق الحمد والشكر باللسان والاعتقاد شهود المنعم في النعمة وإسنادها إليه والغيبة عن الواسطة بالقلب مع شكرها باللسان "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" "أشكركم للناس أشكركم لله" فإذا قال له جزاك الله خيراً فقد أدى شكرها والشكر بالعمل صرفها في طاعة الله كما تقدم فإن لم يقم بهذا الواجب خيف عليه السلب والإستدراج وهو أقبح .
والحاصل أن الشكر هو الأدب مع المنعم ومن جاءت على يديه ، فإن أساء الأدب أدب ، وقد يؤدب في الباطن وهو لا يشعر كما أشار إلى ذلك بقوله :

( من جهل المريد أن يسيء الأدب، فتؤخر العقوبة عنه،فيقول:لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد، وأوجب الإبعاد، فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البعد وهو لا يدري ولو لم يكن إلاّ أن يخليك وما تريد )

من الأمور المؤكدة على المريد الصادق أن يرعي الأدب مع الله في كل شيء ، ويلتزم التعظيم لكل شيء ويحفظ الحرمة في كل شيء ، فإن أخل بشيء من هذه الأمور وأساء الأدب مع ربه فليبادر بالتوبة والإعتذار مع الذلة والإنكسار ، فإن أخر التوبة إلى وقت آخر انقطعت عنه الإمداد واستوجب الطرد والبعاد وقد لا يشعر بذلك في الحين فيحتج لنفسه ويقول لو كان هذا سوء أدب لانقطع عني المدد وهذا منه جهل قبيح يفضي إلى العطب إن لم تدركه العناية من رب الأرباب ، وإنما كان هذا جهلاً من المريد لانتصاره لنفسه وقت سوء أدبه وعدم شعوره بنقصان قلبه ، إذ لو كان عالماً بمخادع النفس لاتهمها وما انتصر لها ، ولو كان عارفاً بربه لشعر بنقصان قلبه ، فقد جمع بين جهالة وجهل ، فالجهالة هي سوء الأدب الذي صدر منه ، والجهل هو مخاصمته عن نفسه وإنكاره أن يكون ما صدر منه سوء أدب ، وما احتج به من كونه لم يحس بالعقوبة ولو كان ذلك سوء أدب لأحس بقطع الإمداد ولأوجب الطرد والبعاد ، فقد يقطع عنه المدد وهو لا يشعر ومثال ذلك الأشجار التي على الماء فإذا قطع عنها الماء لا يظهر أثر العطش عليها إلا بعد حين فإذا طال الأمر يبست شيئاً فشيئاً كذلك قلب المريد قد لا يحس بقطع المدد في القرب حتى يغرق في الوهم ويحترق بالحس فإن كانت له سابقة خير تاب وأصلح ما أفسد فيرجع إليه المدد وإن لم تكن له سابقة رجع إلى وطنه وأقام في بعده نسأل الله السلامة من سلب نعمته بعد عفائه ، ولو لم يكن من العقوبة إلا منع المزيد من السير أو الترقي لكان كافياً ، لأن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ومن كان يومه شراً من أمسه فهو في الخسران ، وقوله في الإحتجاج أيضاً لو كان هذا سوء أدب لا وجب البعاد فقد يقام مقام البعد وهو يظن أنه في محل القرب لأن مراتب القرب والبعد لا نهاية لها وما من مقام في القرب إلا وما بعده أعظم منه حتى يكون ذلك القرب بالنسبة إلى ما بعده بعداً ، ولو لم يكن ذلك البعد إلا أن يتركك مع ما تريد لكان كافياً في الطرد والبعد إذ ترك البعد مع هواه وشهواته من علامة الإهمال ، وإخراج العبد عن هواه وما تركن إليه نفسه من علامة الإعتناء والإقبال ، فإذا اعتني الله تعالى بعبد وأراد أن يوصله إلى حضرته شوش عليه كل ما تركن إليه نفسه وأزعجه طوعاً أو كرهاً
حتى يوئسه من هذا العالم ولم يبق له ركون إلى شيء منه فحينئذ يصطفيه لحضرته ويجتبيه لمحبته فليس له حينئذ عن نفسه أخبار ولا مع غير الله قرار.

 ومواطن الآداب التي يخل بها المريد فيعاقب عليها ثلاثة : آداب مع الله ورسوله ، وآداب مع الشيخ ، وآداب مع الأخوان ، فأما الآداب مع الله باعتبار العوام فبامتثال أمره واجتناب نهيه ومع رسوله باتباع السنة ومجانبة أهل البدعة فإذا قصروا في الأمر أو خالفوا في النهي عوقبوا عاجلاً في الحس أو آجلاً في المعنى والحس ، وباعتبار الخواص مع الله بالإكثار من ذكره ومراقبة حضوره وإيثار محبته زاد الشيخ زروق :" وحفظ الحدود والوفاء بالعهود والتعلق بالملك الودود والرضى بالموجود وبذل الطاقة والمجهود " ومع رسوله صلى الله عليه وسلم بإيثار محبته والإهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه ، فإذا قصروا في ذكره أو جالت قلوبهم في غير حضرته أو مالت محبتهم إلى شيء سواه أو قصروا في شيء مما تقدم أو حلوا عقدة عقدوها مع الله عوقبوا في الحس بالضرب أو السجن أو الأذاية باللسان أو في المعني وهو أشد كقطع المدد وإيجاب الطرد والإقامة مقام البعد وبإعتبار خواص الخواص وهم الواصلون يكون مع الله بالتواضع معه في كل شيء والتعظيم لكل شيء ودوام معرفته في تجليات الجلال والجمال أو مع اختلاف الآثار وتنقلات الأطوار ومع رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحقق بحسبه وتعظيم أمته وشهود نوره كما قال أبو العباس المرسي :" لي ثلاثون سنة ما غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولو غاب عني ما أعددت نفسي من المسلمين "فإذا قصر العارف فيما تقدم في حقه أو في حق غيره من الآداب عوقب في الحس أو في المعنى والغالب تيقظه في الحين فيستدرك ما فات " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "فهذه جملة الآداب التي تكون مع الله من العوام والخواص وخواص الخواص أو تقول من الطالبين والسائرين والواصلين والله تعالى أعلم .

وأما الآداب التي تكون مع الشيخ فمرجعها إلى ثمانية أمور: أربعة ظاهرة وأربعة باطنة ، فأما الظاهرة فأولها امتثال أمره وإن ظهر له خلافه واجتناب نهيه وإن كان فيه حتفه فخطأ الشيخ أحسن من صواب المريد ، وثانيها السكينة والوقار في الجلوس بين يديه فلا يضحك بين يديه ولا يرفع صوته عليه ولا يتكلم حتى يستدعيه للكلام أو يفهم عنه بقرائن الأحوال كحال المذاكرة بخفض صوت ورفق ولين ولا يأكل معه ولا بين يديه ولا ينام معه أو قريباً منه ، وثالثها المبادرة إلى خدمته بقدر الإمكان بنفسه أو بماله أو بقوله، فخدمة الرجال، سبب الوصال، لمولى الموالي، ورابعها دوام حضور مجلسه فإن لم يكن فتكرير الوصول إليه إذ بقدر تكرير الوصال إليه يقرب الوصال ، فمدد الشيخ جار كالساقية أو القادوس فإذا غفل عن الساقية أو القادوس تحزم وأنقطع الماء إلى غيره ،وأيضاً تكرير الوصول يدل على شدة المحبة وبقدر المحبة تكون الشربة ، كما أن العارف بالله يجمع بين المريد ومولاه بنظرة أو بكلمة كذلك الفقير الجاهل بالله ربما أتلف المريد عن مولاه بنظرة أو بكلمة فما فوقها.

وأما الآداب الباطنية فأولها اعتقاد كماله وأنه أهل للشيخوخة والتربية لجمعه بين شريعة وحقيقة ، وبين جذب وسلوك ، وأنه على قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وثانيها تعظيمه وحفظ حرمته غائباً وحاضراً ، وتربية محبته في قلبه وهو دليل صدقه وبقدر التصديق يكون السيرفمن لا صدق له لا سير له ولو بقي مع الشيخ ألف سنة ، وثالثها انعزاله عن عقله ورياسته وعمله وعمله إلا ما يرد عليه من قبل شيخه كما فعل شيخ طريقتنا الشاذلي رضي الله عنه عند ملاقاته بشيخه فهي سنة في طريقه ، فكل من أتى شيخه فلا بد أن يغتسل من عمله وعمله قبل أن يصل إلى شيخه لينال الشراب الصافي من بحر مدده الوافي ، ورابعها عند الانتقال عنه إلى غيره ، وهذا عندهم من أقبح كل قبيح وأشنع كل شنيع ، وهو سبب تسويس بذرة الإرادة فتفسد شجرة الإرادة لفساد أصلها وهذا كله مع شيوخ التربية كما تقدم ، وأما شيوخ أهل الظاهر فلا بأس أن ينتقل عنهم إلى أهل الباطن أن وجدهم ولا يحتاج إلى إذن والله تعالى أعلم .

وأما الآداب مع الإخوان فأربعة أولها حفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين فلا يغتاب أحداً ولا ينقص أحداً فلا يقول أصحاب سيدي فلان كمال وأصحاب سيدي فلان نقص أو فلان عارف أو فلان ليس بعارف أو فلان ضعيف وفلان قوي أو غير ذلك فهذه عين الغيبة وهي حرام بالأجماع لا سيما في حق الأولياء فإن لحومهم سموم قاتلة كلحوم العلماء والصالحين فليحذر المريد جهده من هذه الخصلة الذميمة وليفر ممن هذا طبعه فراره من الأسد فمن أولع بهذا فلا يفلح أبداً فالأولياء كالأنبياء فمن فرق بينهم حرم خيرهم وكفر نعمتهم وقد قال بعض الصوفية :"من كسره الفقراء لا يجبره الشيخ ومن كسره الشيخ فقد يجبره الفقراء "وهو صحيح مجرب لأن أذاية ولي واحد ليس كإذاية أولياء كثيرة ومن كسره الشيخ يشفع فيه الإخوان فيجبر قلب الشيخ بخلاف قلوب الفقراء إذا تغيرت قل أن تتفق على الجبر والله تعالى أعلم ، وثانيها نصيحتهم بتعليم جاهلهم وإرشاد ضالهم وتقوية ضعيفهم ولو بالسفر إليه فإن فيهم أهل بدايات ونهايات والقوي والضعيف ، فكل واحد يذكره بما يليق بمقامه "خاطبوا الناس بقدر ما يفهمون" كما في الحديث ، وثالثها التواضع لهم والإستنصاف من نفسك معهم وخدمتهم بقدر الإمكان فخديم القوم سيدهم ، ورابعها شهود الصفا فيهم واعتقاد كمالهم فلا ينقص أحداً ولو رأى منه ما يوجب النقص في الظاهر فالمؤمن يلتمس المعاذر فليلتمس له سبعين عذراً فإن لم يزل عنه موجب نقصه فليشهده في نفسه فالمؤمن مرآة أخيه ما كان في الناظر يظهر فيه فأهل الصفا لا يشهدون إلا الصفا وأهل التخليط لا يشهدون إلا التخليط ، أهل الكمال لا يشهدون إلا الكمال وأهل النقص لا يشهدون إلا النقص وتقدم في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :"خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله" وبالله التوفيق فهذه من جملة الآداب التي يجب على الفقير مراعاتها والتحفظ عليها سواء كان طالباً أو سائراً أو واصلاً فإن الطريق كلها آداب حتى قال بعضهم :" أجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً "وقال أبو حفص رضي الله عنه :" التصوف كله آداب لكل وقت آداب ولكل حال آداب ولكل مقام آداب فمن لزم الأدب بلغ مبلغ الرجال ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب مردود من حيث يظن القبول " وقال بعضهم :" إلزم الأدب ظاهراً وباطناً فما أساء أحد الأدب ظاهراً إلا عوقب في الظاهر وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب في الباطن ".

السبت، 23 ديسمبر 2017

_ حكمة الخلق الجديد

 _ حكمة الخلق الجديد
أراد الله عزَّ وجلَّ وهو الفعال لما يريد أن يضع أقدار ومقادير ورتب العبيد فجعل لهم خلقا جديد ينزلون به إلى هذه الحياة الدنيا ليختبر صدقهم في ترديد كلمة التوحيد ولذلك قال ربي عزَّ شأنه مبيناً سبب ما نحن جميعاً فيه
{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ما سبب اللبس ؟الخلق الجديد وهو ما نحن فيه الآن وهو هذا الهيكل المصنوع من عناصر الأرض من الطين ومن التراب ومن الماء المهين لأنه يميل إلى هذه العناصر ويميل إلى ما منه قد صنع وما منه أوجد فيميل إليها بالكلية ولولا حفظ ربي عزَّ وجلَّ للعطية ما استطاع واحد منا أن يحفظ هذه العطية الإلهية [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] فكانت حكمة الله في توارد الخلق إلى هذه الدنيا بينّها وقال عزَّ شأنه [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] كما قال ربي عزَّ شأنه في الحقائق النورانية التي لا ترى بالعين الجسمانية

الأحد، 17 ديسمبر 2017

- دعاء كنز العرش الإمام المجدد السيد محمد ماضي إبي العزائم


دعاء  كنز  العرش
بسم ا لله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

            اللهم إني أسألك يا رحمن يا رحيم ، يا ألله يا علي يا عظيم ، يا قديم يا كريم يا حليم يا حكيم يا مقيم ، سبحانك لا إله إلا أنت ..
الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا سيد السادات ، يا مجيب الدعوات ، يا رافع الدرجات ، يا ولي الحسنات ، يا منزل الآيات ، يا غافر الخطيئات يا قابل التوب ، يا عالم الخفيات ، يا رافع البليات ، سبحانك لا إله إلا أنت ..

الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا من له العزة والجمال ، يا من له الملك والكمال ، يا من له الجود والأفضال ، يا من هو الكبير المتعال ، يا منشئ السحاب الثفال ، يا من هو شديد المحال، يا من هو سريع الحساب ، يا من عنده حسن المآب ، يا من عنده علم الكتاب ، سبحانك لا إله إلا أنت ..

 الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا حفيظ يا مقيت يا محيط يا مجيد يا مجيب ، يا معز يا مذل يا مبدئ يا معيد ، سبحانك لا إله إلا أنت ..

الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا من هو واحد بلا ضد ، يا من هو فرد بلا كيف، يا من هو رب بلا وزير ، يا من هو عزيز لا ذليل ، يا من هو غني لا مفتقر ، يا من هو ملك بلا عزل ، سبحانك لا إله إلا أنت ..

الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا من ذكره قوت للذاكرين ، يا من بابه مفتوح للطالبين والعاصين ، يا من رحمته قريب من المحسنين ، سبحانك لا إله إلا أنت ..

الغوث الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب ، يا من لا إله إلا أنت ، العدل الحق اليقين ، ربنا ورب آبائنا الأولين ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي دائم لا يموت أبدا بيده الخير وهو علي كل شيء قدير ، والحمد لله رب العالمين .

            لا إله إلا الله إقرارا بربوبيته ، وسبحان الله خصوصا لعظمته ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله . اللهم يا نور السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد . اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إني أسألك ولك الحمد لا إله إلا أنت ، بحق نور وجهك الكريم ، وبحق أسمائك المكتوبة على أجنحة الملائكة المقربين ، وبحق أسمائك المكتوبة حول العرش والكرسي ، وبحق اسمك الذي هو في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وبحق أسرارك التي أودعتها في قلوب عبادك الصالحين الصديقين عليك يا رب ، وبحق أسمائك التي دعاك بها إدريس فقربته ورفعته مكانا عليا عليك يا رب ، وبحق أسمائك التي دعاك بها نوح فنجيته من الغرق عليك يا رب ، وبحق أسمائك التي دعاك بها إبراهيم خليلك فنجيته من نار النمرود عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها إسماعيل فنجيته من الذبح وفديته بذبح عظيم من الجنة عليك يا رب .. أسألك بحق أسمائك التي تؤتي بها الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها جبريل فهبط إلى الأرض وصعد إلى السماء عليك يا رب ، وبحق أسمائك التي أنزلت على الأرض فاستقرت وانشقت سبعا عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها سليمان فورثته ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها أيوب فكشفت ما به من ضر عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها موسى الكليم وعلى جبل الطور وكلمته بكلامك القديم عليك يا رب ، ثم نجيته من فرعون وعمله ثم فرقت له البحر عليك يا رب ، أسألك بحق أسمائك التي دعاك بها عيسى بن مريم فأحيا بها الموتى وأبرأ بها الأكمه والأبرص بإذنك عليك يا رب ، وأسألك بحق أسمائك التي قرأها يوسف الصديق فنجيته من الجب ببركتها عليك يا رب ، وأسألك بحق أسمائك التي قرأتها آسية امرأة فرعون فنجيتها منه ومن عمله عليك يا رب ، وأسألك بحق أسمائك التي قرأها سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فنصرته نصرا عزيزا وفتحت له فتحا مبينا عليك يا رب ، وأسألك بحق أسمائك التي دعاك بها أنبياؤك وملائكتك المقربين ورسلك المرسلين وجميع خلقك أجمعين . سبحانك أنت الله الملك الحق المبين ، سبحانك أنت الله المؤمن المهيمن ، سبحانك أنت الله الجبار المتكبر ، سبحانك أنت الله البارئ المصور ، سبحانه أنت الله العزيز العليم ، سبحانك أنت الله العلي الكبير ، سبحانك أنت الله البديع الأحد ، سبحانك أنت الله الغفور الودود ، سبحانك أنت الله المبدأ المعيد ، سبحانك أنت الله الأول الآخر ، سبحانك أنت الله الظاهر الباطن ، سبحانك أنت الله الواحد الأحد ، سبحانك أنت الله القديم الدائم .

            {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.


يقول الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم

يا رجال النجدات والندهات    $    وليوث  الشدات  والغارات
وسيوفا تسل إن حل  خطب    $    وحصونا تَحمي من النكبات
يا رجال الله  هيا  أجيروا    $    يا غياثي ونجدتي وثقاتي
يا  رجال  الله  بالله  قوموا    $    بمواضي السيوف والرايات
حركوا القطب واندهوا الغوث يا من    $    بكم  النصر   في   جميع   الجهات

يا  آل   بدر  وآل  أحدٍ  هلموا    $    يا آل {طه} قوموا إلى نجداتي

يا سيوف الإله أنصار طه    $    أدركونا   بغاية   الهمات

فرقوا الجمع وانصروا الدين هيا    $    أيدوا  الشرع   أظهروا  الآيات

يا أمانِيَّ يا حصوني وعوني    $    يا رجائي  يا منتهى غاياتي

قد قرعنا أبوابكم وصرخنا    $    بابتهال  فنجحوا   طلباتي

ما  لنا  غيركم  وأنتم كرام    $    فأكرموا ضيفكم بكل الهبات

يا آل {طه} وآل {يس} إنا    $    قد رفعنا القلوب بالراحات

دخلنا    حماكمو     بيقين    $    فأبسطونا بالنصر والخيرات

واستجرنا بجاهكم واستغثنا    $    يا آل {حم} حسنوا  حالاتي

يا آل {طس} يا آل {نون وكاف هَا يَا}    $    يا   آل  {ق}   هيا   اكشفوا   كرباتي

وبآي  القران  يا رب أدعو    $    وبكل الأسماء بل والصفات

وبمجلى الجلال أدعوك نصرًا    $    عزيزا  فارفع  لنا   الدرجات

وبمجلى الجمال أرجوك لطفا    $    شاملا  قد  يفاض بالرحمات

يا  إلهي  بكل   عبد   منيب    $    قد دعوناك فاستجب دعواتي

وبـ  {طه}  وأنبيائك  طرًا    $    وبعرش الجمال والحضرات

وبأملاكك العظام جميعا    $    وبكل  الآيات  والبينات

وبقدس   منزهٍ   وبكرسيِّ    $    عظموت الجلال والرهبات

بتجلي الكمال نرجوك ربي    $    وبكنز الخفا ومجلى الذات

وباسٍم  مُعظم  قد  تعالي    $    هو {هوتُُآهُُشُراهُ ذات}

جامع  الإسم  والصفات ورمز    $    {قاف هاء نون} عَلِيَّ الصفات

وبـ {كافٍ وحاءٍ وألفٍ ولام}    $    وبـ {ميم}   تشير   للإثبات

وبـ {عين} بها انجلى كل نور    $    وبلسان     قيومية    القامات

فاستجب سيدي وأسبغ علينا    $    هاطل الفضل  منك بالنعمات

قد أتينا بسيد الرسل نرجو    $    كل فضل  ورفعة الدرجات

فتقبل وامنح  عبيدك ماضي    $    منك بالفضل سيدي حاجاتي

وامنح الأهل والمريدين طرًا    $    كل خير واغمرهمو بالهبات

وأدِم سيدي الصلاة على من    $    هو  باب  القبول  والحسنات

وعلى  الآل  والأصحاب جميعًا    $    من همو نُصرتي وهمو نجداتي

الأحد، 10 ديسمبر 2017

_ أنس أهل الأدب مع الله

أنس أهل الأدب مع الله :
""""""""""""""""""""""""""""
الانس بالله لايكون إلا عن علم بالله - والعالم بالله أخشى الناس لله ، ومتى كان الانس بالله محصنا بالخشيه من الله والأدب مع الله دام ذلك الانس ، قال تعالى ( أولئك لهم الامن وهم مهتدون )
وأنس أهل الأدب مع الله في الشده فوق انسهم في الرخاء ( لذلك اكثر الناس بلاء ..الانبياء ثم الأمثل فالامثل ) كأنس سيدنا ابراهيم في النار ، وأنس سيدنا موسى ( إني آنست نارا) ، لأن الآنس ....آنس بالله الذي من صفاته المبلي ، واهل الأدب آمنوا بالكتاب كله ( الاسماء والصفات كلها ) ، ولا يعبدون اسم دون الآخر ، فيعبدونه على حرف - فأهل الانس بالله يلبسون حلل العبوده لله ولا يرون غيره فاعل مختار
وهل غيري له أثر وفعل .....
تأمل تحظى بالعلم اللدني
فهو آنس عند الشده لأن الله سبحانه وتعالى يلبسه عند الشده أجمل حله يحبها وهي حلة العبوده لذات الله تعالى تملقا وتذللا وتبتللا وابتهالا واضطرارا ، فيقيه سبحانه وتعالى ، ويشهده جماله العلي ظاهرا بمعاني الاسماء والصفات للروح والسر وللنفس والعقل والحس ، ولا يكون ذلك إلا عند الشده ، أما في غيرها فيكون الانس والعطايا خاصه بالروح ، لأن الروح تأنس على بساط المنادمه ، فتبتهج النفس حيث لا لبس ، وينشرح الصدر ، فينطلق اللسان بجلي البيان ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) .....ولا يجلس على هذا البساط إلا من عرف ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) فيجمله بحلل العبوده الخالصه لخالقه
الانس بالله اغناني عن الناس ...
والحب في الله معراجي ونبراسي
وذكر محبوب قلبى في مواجهتي ...
أزال شكي وريبي بل وإلباسي
وخمرة القرب والمحبوب قد رفعت....
عنه الستائر ريحان وانفاس
والانس بالفرد غيبني عن الناس ...
أحيا رسومي وأحيا قلبي القاس
يا قبضة النور يا محبوب مهجتنا ...
نظرا الينا بعين القلب والراس
وصل الله على سيدنا محمد وعلى اله وورثته أجمعين

_ الجنه... ما هي ؟

الجنه...   ما هي ؟!
""""""""""""""""""""""""""""
... الجنه : ظهور ظل معاني الصفات مستغرقه لكل المرآه ( الاخلاق الربانيه ) ، والجنه تستر من دخلها ، فلا يرى ما هو خارجها ، ولا يراه من هو خارجها  ( اي في الستر ) ،
والجنه جنتان ، قال تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، والجنتان : جنة عاجله وهي لاهل مقام الاحسان ، وجنة آجله ، وهي لاهل مقام الاحسان ، ولاهل مقام الإيمان الذين فارقوا الدنيا على الإسلام
واكمل صفات مقام الاحسان هو الرضا عن الله تعالى ، فالجنه العاجله : هي جنة الرضا عن الله تعالى ، وهي الشهود وطمأنينة القلب بذكر الله تعالى عند كل شأن من الشئون ، والكون كله جنه لأهل الرضا ، وهم الذين تنقلب لهم الحقائق لأنهم عند ربهم ، قال تعالى : ( قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) ، وقال تعالى : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم )
فالجنه العاجله : هي جنة الأرواح التي تجردت من مقتضيات عناصرها ففرت الى الله بجاذبة عنايته ( هنا في الدنيا بصحبة الوارث وأخوانه وأحبائه  )   ، واهل الجنه ...مشهودون في الدنيا ، فمنهم المستتر عن الخلق بالملامتيه والابتذال ( الملامتيه : صفه لقوم يلومهم الغير على كل ما يفعلونه ، وتلومهم أنفسهم إذا أخطأوا أو إذا فعلوا الخير ناقصا غير كامل ، والمقصود بالغير : هم أهل الحس ، المحجوبون بالاسباب عن مسببها ، وهم ليسوا بموحدين، وأصحاب النفس اللوامه ( الملامتيه ) مراعاة التوحيد لا تفارقهم في كل اعمالهم ) ، ومن أهل الجنه ما هو غائب عن الملك سياحه في الملكوت  ، ومنهم العاكف بقلبه على ربه معتزلا الناس بعد فقد خياله ووهمه ، فإن الخلوه لا يأذن بها المرشد لذي خيال أو وهم ، ولبس خرقة الملامتيه لا يأمر بها المرشد إلا لمن حصنه الله تعالى بالآداب الشرعيه ، ومن أهل الجنه المخمور الذي لا يفيق ، ومنهم ، ومنهم...........وكل هؤلاء في الجنه .....يعني في الستر ، وصل الله على سيدنا محمد وعلى اله وورثته أجمعين

_ الإفساد في الأرض

« ويفسدون في الأرض »
الإفساد في الأرض خاص بالمعاملات والأخلاق ، والعجيب أن الإنسان يمن عليه ربه بالمال والعافيه او بنفوذ الكلمه ....فيأخذ نعمة الله تعالى فيظلم بها عباده ويؤذى بها خلقه ، ويجهل هذا المغرور ان الذى وهب المال والعافيه ونفوذ الكلمه رؤوف رحيم غيور لخلقه ، فينسى أمر الله بل وينسى الدار الآخرة ، ويعتقد الخلود في الأرض ، ولديها يستدرجه الله تعالى ، نعوذ بالله من استدراجه سبحانه ، ويظن هذا المفتون ان القوه والملك والسلطة تدوم ، فلا يلبث إلا وقد رحم الله عباده فيغيثهم بإحسانه وعطفه وينتقم من الظالمين بما يسلط عليهم سبحانه من خسف أو غرق أو بركان ينفجر أو يسلط قوما من الظلمه الطغاه كما سلط سبحانه على قيصر الروس وجنوده وعلى اليونان ، وسيسلط قريبا على المفسدين في الأرض من دول الإفرنج ما يسلب منهم الملك ويزيل منهم القوة فيصبحون أذل خلقه
••وشر العقوبة ماينتقم الله به ممن يفسدون في الأرض بعد إصلاحها ، وقد أفسد أهل أوروبا والغرب في الأرض مغترين بما لديهم من كثرة الجنود وقوة الآلات الجهنمية التى ملكوا بها البر والبحر والجو على الأمم الآمنه في أوطانهم ، فأفسدوا في الأرض بتدمير المدن العامره ، وإبادة الأنفس الآمنه بالخديعه التي عجز عنها إبليس ، فتراهم يزعمون أنهم مصلحون وأنهم يحررون الرقيق ويرفقون بالحيوانات ويمحون الظلم ويرقون الأمم بالعداله والحرية والمساواة ، فإذا اتحدت امه بهم وقبلت منهم سلبوا منها مرافق الحياه وأذلوا عظمائها ورفعوا ادنيائها وحاربوا دينها واستعانوا ببعضها عليها كما فعل المستعمرون في بلاد الشرق « وما كان ربك نسيا» ...  أولئك هم الخاسرون
فسيعودون بالخسران في الدنيا بسلب الملك منهم وإرجاعهم إلى ما كانوا فيه من الذله والقله وتمكين الأمم. المستعبده منهم ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وورثته اجمعين

_ الصبر على القربات والطاعات ، والصبر على البليات.

الصبر على القربات والطاعات ، والصبر على البليات.
_____________________"______________
قد ظن البعض أن الصبر على الطاعات والقربات أكمل من الصبر على البليات ، ولاحظوا في ذلك أن الصبر على الطاعات باختيار العبد ، وان الصبر على البليات بالإكراه ، وبذلك قد يكونوا قد نظروا الى مشاهدهم وحكموا بها على أهل المقامات العليه !!
والحقيقه ان الصبر على البلايا أشد واصعب من الصبر على الطاعات ، لأن الصابر على الطاعات آنس بمعاني مشهوده وملحوظه ، أما أما المشهود له ، فلأنه عبد وفقه الله لما يحبه ، واقامه مقاما يرضي به عنه ، مع نظره لأهل المعاصي والكفر بالله
وأما الصبر على البلاء ، فإن العبد فيه يسأل الله العفو والعافيه بين فادح الآلام ، والخوف من أن يكون ما هو فيه عاجل نقمه من الله ، وبين شماتة الأعداء من أهل الباطل ، وحزن أهل الإيمان ، فلا يصبر على تلك المعاني كلها إلا مكاشف بآسرار المبلي سبحانه وتعالى مشاهد لجلاله ، متمكن من كمال التوحيد بالتوحيد ، والجميع يعلم أن أعظم الناس بلاء الأنبياء ، واكمل الناس صبرا على البلاء الانبياء ، ثم الأمثل فالامثل
والصبر على الطاعات ، والصبر على ترك المنهيات ، قد يتصف بها المستدرج الذي يعمل العمل لغير الله ، لينال شهره ، أو ليكون له نفس ذات تأثير ، وامثلة ذلك :-
...كم من صومعه بها رجال تركوا حظوظهم  ، وشهواتهم ، واقبلوا على العبادات ، وهم كفار
...وكم متريض ترك طيبات المأكل والمشرب والمنكح والمسكن واقبل على العباده ليعلم الغيب ، أو لتكون له نفس مؤثره  ذات أحوال شيطانيه كالكهان
فشتان بين من صبر على بلاء المبلي لشهود جماله وكماله وجلاله ، ولعلمه بأخلاقه سبحانه ..... ومن صبر على ترك ما نهى عنه ، وعمل ما أمر به ، لينال الجزاء منه ، ولذلك كان الصبر على البلاء مقام أهل التمكين
وصل الله على سيدنا محمد وعلى اله وورثته أجمعين



شارك فى نشر الخير