آخر الأخبار
موضوعات

الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

_ أسباب البركة في البيوت


✦البركة : كلمة نسمعها دوما و لكن للأسف افتقدناها في بيوتنا ، فلا بركة في الوقت و لا الرزق .. اليك مفاتيح البركةالثمانية ، و كلها من ...القران والسنة ..

🔑مفاتيح البركة الثمانية :

1⃣✦-تلاوة القرآن الكريم: قال الله تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) فالقرآن الكريم جعله الله تعالى بركة من خلال تدبره و السير علي تعاليمه في شؤون الحياة ، ولهذا قال نبينا الكريم صل الله عليه وآله وصحبه وسلم عن البيت الذي يتلى فيه القرآن (تسكنه الملائكة تهجره الشياطين ويتسع بأهله ويكثر خيره).

2⃣✦-البسملة وذكر الله: قال رسول الله صل الله عليه وسلم (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه لا مبيت ولا عشاء)

3⃣✦-الصدقة: من أسباب البركة على البيت التصدق .. خاصة صدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب.

4⃣✦-صلة الرحم: وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار تزيد في الرزق وتطيل العمر. . تحياتي أخوكم عنتر

5⃣✦-التبكير في طلب الرزق: جاء في الحديث الشريف (بورك لأمتي في بكورها) أي الخروج لطلب الرزق باكرا .

6⃣✦-إقامة الصلاة: اقامه الصلاة لوقتها ، قال الله تعالى «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى»

7⃣✦-التوكل على الله حق توكله :لما ورد في الحديث «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا»

8⃣✦-مواصلة الاستغفار: والاستغفار بحد ذاته مصدر للرزق ، كما قال نبينا صل الله عليه وسلم «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب»

🌾متعنا الله وإيّاكم بالبركة والرضا والتقوى .

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

- الشيخ الكامل أبوالحسن الشاذلي


نبذة عن الكتاب

فهذه سيرة رجل من كمل العارفين، وصفوة الوارثين الذين أشار إليهم الحق فى كتابه المبين بقوله:

(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) 32 فاطر، اشتغل بالعلوم الشرعية حتى أتقنها، وصار يناظر عليها، ثم سلك منهاج التصوف، وجدّ واجتهد حتى ظهر صلاحه وخيره، وطار فى فضاء الفضائل طيره، وحمد فى طريق القوم سُراه وسيره.

يقول عنه ابن عطاء الله في (لطائف المنن):-"له السياحات الكثيرة، والمنازلات الجليلة، والعلوم الغزيرة، لم يدخل فى طريق الله حتى كان يعدّ للمناظرة فى العلوم الظاهرة، ذا علوم جمة.

لم يختلف فى قطبانيته ذو قلب مستنير، ولا عارف بصير، جاء فى هذه الطريق بالعجب العجاب، وشرع من علم الحقيقة الأطناب، ووسّع للسالكين الرحاب، حتى لقد سمعت الشيخ الإمام مفتى الإسلام تقى الدين القشيري يقول: ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبى الحسن الشاذلي









- الشيخ عبدالرحيم القنائي ومدرسته الروحية

يعد السيد عبدالرحيم القنائي أستاذ الأساتذة حقاً في علمي الشريعة والحقيقة وشيخ العارفين بالله في مكانه وزمانه، ومربي عظماء الرجال، وصاحب مدرسة كبرى في ذلك، يبلى الزمان وتبقى جدتها على مر العصور والدهور.

هذه المدرسة العظيمة أدت دورها في رد كيد أعداء الإسلام بغيظهم لم ينالوا خيراً ورد كيدهم في نحورهم، وعودة المفتونين في دينهم إلى حظيرة الإيمان كما كان لها دور عظيم في رد الشيعة عن هذه البلاد، وحصار المتشيعين وعدم تمكينهم مما أرادوا وقد كانوا يرون أنهم أصحاب عقيدة ينشرونها ويكونون قوامين على رعايتها.

وهكذا نجد أن السيد عبدالرحيم وقف وتلاميذ مدرسته حصناً حصيناً رد عن الإسلام كيد أعدائه وعن المسلمين العقائد المسمومة والانحراف الفكري ووقى الأجيال المتلاحقة شر الفرقة والتمزق الذي تعيش فيه بلاد أخرى.

حول هذا الموضوع وغيره يدور حديثنا عن هذا القطب الرباني شاملاً: نسبه وميلاده ونشأته ورحلاته العلمية وجهاده لنفسه وجهاده لأداء واجبه نحو هذا الدين الحنيف، مشيرين إلى شيوخه وتلاميذه وأثر مدرسته الروحية في حياة معاصريه ومن بعدهم إلى يومنا هذا ونذكر كذلك أدعيته وأحزابه وما تميّز به منهجه السديد في تربية مريديه.

أسأل الله تعالى أن ينفعنا بسيرته وأن يرزقنا صفاء السريرة ونور البصيرة 

فضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد






الاثنين، 15 أكتوبر 2018

- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح 
ابن قيم الجوزية




- تجديد الفكر الديني في الإسلام... محمّد إقبال

تجديد الفكر الديني في الإسلام... محمّد إقبال (ترجمة جديدة)







- الفتوحات المكية... مولانا محيي الدين بن عربي

الفتوحات المكية... مولانا محيي الدين بن عربي



الفتوحات المكية لمولانا محيي الدين بن العربي، طبعة دار الكتب العلمية، تحقيق: أحمد شمس الدين



الثلاثاء، 9 أكتوبر 2018

- الصحة النفسية في الأسرة

{ بحث بعنوان الصحة النفسية في الأسرة }

المقدمة
إن نشأة علم الصحة النفسية وتطوره يعدان من الموضوعات القديمة قدم الإنسان فالقرآن الكريم اخبرنا أن ادم عليه السلام نشأ في صحة جسمية ونفسية طيبة , كما في قوله تعالى (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ))             ( سورة التين / آية 4 ) .
   وقد أشارت الدراسات في الحضارات القديمة في وادي الرافدين ووادي النيل إلى الاهتمام بالصحة النفسية وعلاج المصابين بالاضطرابات العقلية وألف العلماء والفقهاء خاصة في البلاد الإسلامية العديد من الكتب التي تهتم بالصحة والمرض في الجانب النفسي والعقلي  , وعدوا المصاب بالإمراض النفسية شخصا بحاجة إلى العلاج  ومن هذا المنطلق غيروا النظرة التي كانت سائدة آنذاك والتي تعد المريض العقلي تحت تأثير الأرواح الشريرة وقاموا بتشخيص الأمراض  وتصنيفها وابتكار طرق في علاجها , ولقد أنشئت أول مستشفى للطب النفسي في بغداد سنة 793 م  ثم تبعتها مستشفيات أخرى في دمشق والقاهرة والأندلس .
    ومن أهم العلماء البارزين في ذلك الوقت العالم ابن سينا الذي وصف في كتابه ( القانون في الطب  حالات الهستريا والهوس والاكتئاب وكانت له طريقته الخاصة في العلاج) .
الأسرة هي الخلية والوحدة الاجتماعية التي يقوم عليها سلامة بنيان المجتمع.. ومن هذا المنطلق، حظيت باهتمام المفكرين من جميع الثقافات، فطالما كانت الأسرة على قدر كبير من الاستقامة والتماسك، صلحت شؤون المجتمع واستقامت أموره.. وما انحلال الحياة الاجتماعية في كثير من الدول إلا نتيجة لانحلال الروابط الأسرية وضعفها.. وهذا الانحلال والتفكك الأسري، كنا نراه في الماضي محصورًا في الدول الغربية وغير الإسلامية، إلا أنه في الآونة الأخيرة أصبح يطال بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأصبح ضعف الروابط الأسرية هو السمة السائدة.. فلا يمكننا على هذا النحو أن نقضي على مشاكل المجتمع ما لم نعمل أولاً على حل مشاكل الأسرة وحمايتها من التشرذم والتفكك، إذ لا صلاح للمجتمع الكبير إلا بإصلاح المجتمع الصغير، وهو الأسرة.



تعريف الصحة النفسية
  أ‌-   إنها قابلية الفرد على التوافق الشخصي والاجتماعي , والتوافق يعني الانسجام والمؤازرة والمشاركة , أما التوافق الاجتماعي عبارة عن عملية تتوحد من خلالها وجهات النظر والآراء والأفكار بين الإفراد تساعد على تحقيق حد من التفاهم المتبادل المشترك بين المشترك فيما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية المتغيرة والجديدة والتي بدورها تكون السلوك الملائم لهذا التغيير .
  ب‌-  حالة نسبية تتميز بخلو الفرد من العلامات والأعراض المرضية وحالة ايجابية موضوعية يلاحظها الآخرون , وذاتية يشعر بها الفرد نفسه فالمفهوم الايجابي للصحة النفسية يعني التوائم مع النفس والتكيف لمتطلبات الحياة ضمن إطار المجتمع الذي يضمن حصول الفرد على اكبر قدر من النجاح والشعور بالسعادة وتحقيق الفائدة بما تسمح به قدراته وإمكاناته .
علامات الصحة النفسية
يتميز الفرد السوي الذي يتمتع بالصحة النفسية بعلامات يمكن ملاحظتها وتحديدها بالرغم من تفاوت درجاتها بين فرد وآخر ومن هذه العلامات : ـ
1)    المعرفة الواقعية عن الذات و احترام وتقبل الذات بما فيها من نقاط قوة وضعف
2)    الاهتمام بالآخرين وحبهم ومساعدتهم واحترامهم .
3)   انسجام أفعال الفرد مع القيم والمعايير الاجتماعية .
4)    القابلية على عقد العلاقات الاجتماعية مع الآخرين يرضى عنها الفرد نفسه والآخرون .
5)    القابلية والقدرة على مجابهة المشكلات والأزمات وحلها حلا سلميا .
6)    الابتعاد عن السلوك الانفعالي الطفو لي والقدرة على ضبط النفس .
7)    الشعور بالاطمئنان والسعادة .
8)     القابلية على الإنتاج والعمل في حدود ما يمتلكه من قدرات ذهنية واستعداد ونشاط وتفادي المؤثرات .
9)    القابلية على اتخاذ القرار في الموقف والظرف المناسبين .
10)   العمل على توفير وإشباع الحاجات الأساسية والضرورية لحياته اليومية .
العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية 
إن تحقيق الصحة النفسية يعتمد على عدة عوامل لا يمكن إغفالها وتؤثر بصورة متفاوتة في صحة الأفراد
1)  العوامل الوراثية :
ويسهم هذا العامل بنسبة 16 % من الإصابة بمرض الفصام إذا كان احد الوالدين مصابا بهذا المرض  .
2)   العوامل الجسمية
 إن إصابة الفرد بالإرهاق وقلة النوم والجوع تؤثر سلبا في الصحة النفسية.
3)  العوامل الاجتماعية :
وتشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد فعند توافر مقومات الجو الصحي للبيت الذي تسوده السعادة والحرية والتجانس في العلاقات الأسرية وكذلك المدرسة التي تعمل على احترام الطالب وتزويده بالمعلومات والمهارة بما يلائم قابلياته وقدراته ويطورها وبالنسبة لجو العمل وما يوفره من تكافؤ الفرص مع توافر النظام , كلها عوامل تؤثر في توافق الفرد في هذه البيئات .
4)  تطمين وإشباع الحاجات الأساسية للفرد :
وتشمل الحاجات الجسمية الضرورية لمعيشة الفرد كحاجه الجوع والعطش والنوم والبرد والحر وغيرها , أما الحاجات النفسية فتشمل إشباع حاجات الأنا من الطمأنينة والحب والانتماء مع الآخرين والاستقلالية وغيرها .


الاحتياجات النفسية للفرد
إن الاحتياجات الأساسية النفسية للفرد تعتمد على : ـ
1)    تحقيق الصحة والسلامة الجسمية.
2)    إقامة العلاقات الأسرية السعيدة .
3)    سلامة البيئة بما فيها جو المدرسة والعمل .
4)    إشباع الحاجات الأساسية الجسمية والنفسية للفرد وخاصة في مرحلة الطفولة .
وهناك حاجتان أساسيتان يجب توافرهما وهما: ـ
 أ‌-   الحاجة إلى الشعور بالطمأنينة : ويمكن توافرها من خلال الحب والألفة بين الفرد وذويه من خلال العلاقات الأسرية المبنية على أساس الثقة والتعاون والتفاهم والعلاقات الصحية السعيدة في مرحلة الطفولة والتي تعد الأساس الذي تبنى عليه العلاقات الاجتماعية عند الكبر .
  ب‌-  الحاجة إلى الأهمية والانتماء :ـ وإشباع هذه الحاجة يؤدي إلى الكفاية وتماسك الذات خاصة في مرحلة الطفولة ويكون للوالدين دور أساسي ومهم في تعزيز هذا الجانب من خلال إظهار الاهتمام والعناية وتقديم الدعم والتشجيع ومكافأته للأعمال الجيدة التي يقوم بها ,وهذا يساعد على تعزيز السلوك الجيد وتحسين قابلياته على التكيف والتوافق لمواجهة مختلف المواقف عند الكبر, وهذه الحاجات ذكرها العالم              ( ماسلو , Maslow    ) في ترتيب هرمي كما موضح في الشكل التالي .
*حاجة
* تحقيق الذات
 * حاجات التقدير 
  *حاجات الانتماء والحب            * حاجات الأمن
*لحاجات الفسيولوجية                   *  مدرج الحاجات عند العالم ماسلو

الوقاية من الأمراض النفسية
  إن الوقاية من الأمراض النفسية تعتمد على تجنب الأسباب التي افترضت كعوامل محدثة للمرض , فمثلا الذين يعدون المرض النفسي نتيجة لتعلم عادات سيئة ,يعدون الوقاية هي التركيز على تربية الطفل على عادات صحيحة وسليمة , وبصورة عامة فأن مفهوم الوقاية يعني الحفاظ على الصحة النفسية  ومراعاة النمو السليم .
وهناك ثلاث مستويات للوقاية في مجال الصحة النفسية وهي:ـ
      أ‌-   الوقاية الأولية: ـ وتهدف إلى تقليل احتمال حدوث المرض النفسي والعقلي.
    ب‌-  الوقاية الثانوية:ـ ويهدف هذا النوع من الوقاية إلى علاج الاضطرابات والأمراض النفسية من خلال توفير الخدمات والعلاج النفسي في المستشفيات  والعيادات الخارجية والمصحات النفسية الخاصة
   ت‌-  الوقاية الثلاثية : ـ  يهدف هذا النوع إلى تقليل تدهور الحالات المرضية إلى اقل حد ممكن والعمل على تنمية ما لدى المرضى من قدرات وإمكانيات والعودة بهم إلى حالة التوافق والصحة النفسية الممكنة وذلك عن طريق التأهيل وإعادة التعلم وإعادة التطبع الاجتماعي التي يبدأ العمل بها منذ اليوم الأول لتشخيص المرض النفسي .


الأسرة الصالحة:
قبل أن نتعرف على عوامل التوتر والتفكك الأسري، لا بد من الحديث قليلاً عن الأسرة الصالحة والسعيدة.
فهي عبارة عن وحدة حية مكونة من مجموعة أفراد «الزوج والزوجة والأطفال»، تتفاعل مشاعرهم، وتتحد أمزجتهم، وتنصهر اتجاهاتهم، وتتفق مواقفهم، وتتكامل وظائفهم، وتتوحد غاياتهم، وتكون المودة والسكينة والرحمة هي المظلة التي يستظل بها الجميع، خاصة الزوجين: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم:21).

ومقومات الأسرة الصالحة تتلخص فيما يأتي:
1- التكيف والتوافق الاجتماعي والوجداني والنفسي.
2- توفر المستوى المعيشي المناسب وأسباب الاستقرار العائلي، وذلك من حيث المأوى، وموارد الدخل، ونظام الأمن العام.
3- اكتمال هيئة الأسرة، من حيث وجود الأب والأم والأولاد، لأن انعدام أي عنصر من هذه العناصر يضر بوحدة الأسرة، ويقضي على الوظائف الطبيعية والاجتماعية التي كانت تؤديها.
وفي حالة العقم وعدم الإنجاب، يمكن للأزواج التكيف والتوافق بدون وجود ذرية، ولا شك أن العمق الإيماني يعتبر المحك الرئيس الذي يحدد هذا الجانب.
4- تكامل الأسرة، من حيث توحد الاتـجاهات والـمواقـف بيـن عناصرها، ومن حيث التماسـك والتضامن في الوظـائف والعـمـل الـمشترك، والاتـجاه نحو غايات وأهداف واحدة، ومن حـيث التـكتل والتـحفز لـدرء أي خطر خارجـي يـهدد كيان الأسرة أو ينال من عناصرها.
5- التمسك بمقاصد الشرع الإسلامي الحنيف، وأن تكون العلاقة بين أفراد الأسرة وتربية الأولاد قائمة على الأسس الإسلامية الصحيحة، مع ضرورة احترام القانون العام وآداب السلوك وقواعد العرف والتقاليد الحميدة ومستويات الذوق العام، ومن حيث إرساء العلاقات المتبادلة بين عناصر الأسرة على قواعد الاحترام والإخلاص والمحبة والإخاء.
6- تجنب حدوث التحالفات والتكتلات الداخلية في الأسرة، مع إتاحة الفرصة لكل فرد كي يضطلع بأداء دوره الأسري بصورة إيجابية تصب في مصلحة النسيج والخلية الأسرية كوحدة واحدة.
7- مواجهة وتيرة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وطفراتها بالحذر والحكمة المطلوبة، ومحاصرة صراع الأجيال، الذي أصبحنا نرى بوادره خاصة في منطقة الخليج، ولابد أن تكون المرجعية الإسلامية هي الأساس في هذه المواجهة.

مظاهر التفكك الأسري
تؤكد الكثير من الدراسات والإحصاءات أن التوتر والتفكك الأسري أصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها.. ويظهر هذا التفكك والتوتر والخلخة والفوضى الأسرية في المظاهر التالية:
1- ارتفاع منسوب ومعدلات الطلاق.. فمن بين كل ثلاثة زيجات تنتهي واحدة بالطلاق.. وكذلك يلاحظ ارتفاع نسب العنوسة، وميل سن الزواج إلى الارتفاع مقارنة بالماضي.
2- تفكك وتفسخ العلاقات العائلية، وتباعد أعضائها، بعضهم عن بعض.
3- تراجع مكانة الثقافة الإسلامية والعربية، مع اشتداد حدة الجدل والاضطراب والتأثر بالخارج، وذلك نتيجة تحلل القديم وعدم تبلور الجديد.
4- انتشار مظاهر البذخ والترف والخمول، وشيوع قيم الاستهلاك على حساب قيم العمل والإنتاج والاعتماد على الذات والادخار والتقشف والبسـاطـة فـي العيـش، وعـدم مـعرفــة الأسبقـيات والأوليات.
5- التأثر بالثقافات الأجنبية الوافدة، من دون أخذ ما هو صالح وترك ما هو طالح، عملاً بأن «... الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها.
6- اضطراب الصحة النفسية لدى الكثيرين، وظهور الأمراض النفسية والانحرافات، خاصة بين الأطفال والأحداث والشباب، وكذلك انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات والمسكرات والسلوك الإجرامي.
ولا شك أن تفسخ الأسرة واهتزاز القيم وازدواجية الهوية، هي المسبب الأساس لكل ذلك.
7- انحسار دور الأسرة الممتدة، وتعاظم دور الأسرة الصغيرة، وعدم الاهتمام بكبار السن وإيفائهم حقهم وبرهم.
8- تخلي المرأة عن دورها المنزلي بدرجة كبيرة، مما نتج عنه قصور واضح في رعاية أعضاء الأسرة وشؤون التربية والتنشئة، علمًا بأن دور المرأة في المجتمع لا يتعارض مع صحيح الدين.
أسباب التفكك الأسري
بعد أن تعرفنا على بعض مظاهر التفكك الأسري، لا بد من الخوض في أسباب هذا التفكك، حيث إن الأسرة تمثل أحد المحددات المهمة في الصحة النفسية وهو المحدد الثقافي، وذلك نظرًا للأثر البالغ الذي تتركه الأسرة على شخصية أبنائها، سواء على النحو الصحي، أو على النحو المرضي.
فالأسرة هي وحدة المجتمع الأولى، وهي الواسطة أو حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع، أي الرابط بين الثقافة والشخصية.. والأسرة هي الوسط الإنساني «الأولي»، الذي ينشأ فيه الطفل، ويكتسب في نطاقه أول أساليبه السلوكية التي تمكنه من التوافق مع المجتمع.
والأسرة قد تبدأ مفككة قبل أن تتكون أصلاً، ويتمثل هذا في التفكير في الزواج دون الاستعداد النفسي والاجتماعي له، ولا أرى أن الاستعداد المالي ذو أهمية، وإن كان مما يؤسف له أن المكون المالي والإمكانات المالية، أصبحت تمثل عائقًا أساسًا أمام الزواج في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.. والاستعداد النفسي الصحيح هو اللبنة الأولى إلى عملية الاختيار الزواجي، والتي هي حجر الزواية، فإن كان الاختيار صحيحًا كان الخير والسعادة كلها، وإن كان اختيار الزوجة قائمًا على مفاهيم سطحية ومادية وعاطفية فقط كان التوتر والتفكك قبل أن تتكون الأسرة أصلاً.. ولم أجد مرجعًا أو مقياسًا يمكن الرجوع إليه في اختيار الزوجة أفضل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك.
ضعف ووهن الرابطة الزوجية:
ويأتي هذا الضعف والوهن كنتيجة لكون كلٍ من الرجل والمرأة مستقلاً عن بعضه، خاصة من الناحية الاقتصادية، وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون المرأة عاملة، فالمرأة غير العاملة أيضًا ربما تحاول وتسـعى للاستـقلال الاقتــصادي، وذلك بتوجـيـه جزء كبـير من دخـل الأسرة لمنصرفاتها الخاصة، واهتمامها بقضايا انصرافية، خاصة فيما يخص لباسها وزينتها وعلاقاتها الاجتماعية.. وقد رأينا كثيرًا من النساء يرغبن في القيام بأداء أدوار اجتماعية مميزة لإثبات الذات والشخصية، في حين أنهن يفتقدن المقومات الأساس لذلك.
ولا شك أن مثل هذه التصرفات والمواقف من جانب المرأة، تكون على حساب البيت والأطفال، وقد يساهم الزوج بصورة شعورية أو لا شعورية في تمادي زوجته، حتى وإن كان قد أحسن الاختيار، وذلك باتباع أسلوب التهاون والمهادنة والنكران والهروب، الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب المقومات الأساس لمعيشة الأسرة، خاصة من ناحية الاستقرار وأداء الأدوار.
الفوارق الشاسعة بين الزوجين:
تدل الكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية على أن الفارق السِّني (العمري) الكبير بين الزوجين، وكذلك الفوارق التعليمية أو الفوارق المادية والاجتماعية، ربما تمثل عاملاً مهمًا في التوتر الأسري والتفكك والتمزق في كيان الأسرة لدى بعض الأسر.
والفوارق التعليمية ظاهرة معروفة، وكانت في السابق وسيلة لترابط الأسرة، حيث يكون الرجل أكثر تعليمًا، ويكون حظ الزوجة في التعليم أقل، وهذا يساعد كثيرًا في أمر تثبيت وتدعيم قوامة الرجل، وعليه تقل التوترات داخل الكيان الأسري.
- غياب رب الأسرة خارج البيت لساعات طويلة:

تعتمد ديناميكية المؤسسة الأسرية على روابط الشراكة القائمة بين مؤسسيها (الزوجين).. ويكتمل دور هذه المؤسسة بدخول المساهمين الآخرين وأهمهم الأطفال.. ورب الأسرة هو المحور الأساس الذي ترتكز عليه بقية المحاور.. والرجل الذي يتفانى ويسخِّر كل طـاقاته العـاطـفية والوجدانية والتربوية والاقتصادية من أجل أسرته، لا شك أنه بذلك يؤدي الدور الأساس في تماسك الأسرة، وتوازن أبعادها الاجتماعية والتربوية.
وبالمقابل، فإن غياب رب الأسرة خارج البيت لساعات طويلة، ينتج عنه نتائج سلبية وأضرار بالغة على استقرار الأسرة.. وغياب الرجل خارج البيت أصبح ظاهرة تهدد كيان بعض الأسر.. فهذا الغياب ربما يكون بحجة ساعات العمل الطويلة، أو إدارة الأعمال الخاصة، وأسوأ من ذلك هو الغياب في مجالسة الأصدقاء، أو بقصد اللهو، أو ما شابه ذلك.
وربما يكون غياب الأب من البيت بقصد الهرب من المسؤوليات الأسرية.. فمثل هذا الأب ليس له حضور فعلي في المواقف المهمة التي تؤثر على تنشئة الطفل، كما أن غياب الزوج من البيت لساعات طويلة، خاصة إذا لم يكن لهذا الغياب ما يبرره، سوف يؤدي إلى تأجج الانفعالات من جانب الزوجة، وسوف تسيطر عليها الغــيرة، وتــلجأ لمـحاسبة الـرجـل عـلـى تصـرفاتـه داخـل وخـارج نطـاق الأســرة، بكثير من الـدقة، والـخوف الشديد عـليه مـن اختــلاطــه أو مجالسته «للغير»، وملاحقة حركاته وسكناته، وتأويل اتجاهاته.. كل هذه الأمور وما شابهها، يسيئ إلى العلاقات الزوجية، ويجعل كلاً من الزوجين يضيق ذرعًا بالآخر، ويرميه بعدم الاهتمام والوفاء، ويكون هذا سببًا مباشرًا في نشأة حالة «التوتر» وزيادة شدتها.
هناك نوع من الغياب تفرضه ظروف شرعية ومنطقية، مثل الرجل الذي لديه أكثر من زوجة، فهنا يكون العدل والإنصاف هو السبيل الوحيد لإيفاء الزوجات والأولاد حقوقهم، وقضاء وقت أطول معهم.. إلا أنه وبكل أسف، قد استُغل أمر مقاصد الشريعة الإسلامية من إباحة التعدد بطريقة سيئة من بعض الرجال.. فها هو المطلاق المزواج، وكذلك الباحث عن المنافع الدنيوية والاقتصادية فقط، وغير ذلك، تجد في عصمته أكثر من زوجة، والعديد من الذرية، لكن تجده غير عادل، ولا يقضي وقته مع أولاده بصورة منصفة بقدر المستطاع، وربما يقضي الكثير من الوقت خارج البيت فيما لا يفيد.
ومن الظواهر غير المحمودة، وتضر بالأسرة، وربما تؤدي إلى تفككها، أن بعض الآباء يستخدمون المال كبديل عن العاطفة الفعلية، فمثلاً هنالك الأب الذي يعطي أي مبلغ من المال حين يطلبه أبناؤه، لكن ليس لديه الاستعداد أن يجلس مع هذا الابن لنصف ساعة فقط، يسأله عن شؤونه ويفيض عليه بعاطفة الأبوة.
وسائل الإعلام الحديثة:
كثر الحديث، كما كثرت البحوث والدراسات التي تجرى حول دور وسائل الإعلام الحديثة، وأثرها على مرافق الحياة المختلفة، خاصة وأن الأسرة هي صاحبة النصيب الأكبر من التأثيرات التي تنتج عن هذه الوسائل.. ولا أحد يستطيع أن ينكر الأدوار الإيجابية لهذه المرافق في بعض مناحي الحياة، إلا أن التأثير السلبي أصبح أكثر وضوحًا، خاصة بعد استحالة التحكم فيما تحمله الفضائيات والإنترنت من ثقافات أخرى أضرت بالكثير من القيم التي تتمتع بها الأسرة الإسلامية العربية.
وقد أثرت وسائل الإعلام الحديثة، خاصة غير المنضبطة منها، على قيم التضامن العائلي، وقيم الاحترام المتبادل، وأخلت بمعايير الحلال والحرام، والطبيعي والشاذ، والمقبول وغير المقبول.. وتوجد الآن دراسات تؤكد أن الجلوس أمام أجهزة «الكمبيوتر» والدخول إلى شبكة الإنترنت لأوقات طويلة، خاصة بالنسبة للأطفال والشباب، يولد فيهم روح السلبية والقصور، وينشط لديهم صفات الشخصية الانطوائية والاعتمادية، التي تفتقد الهمة وروح الجد والمثابرة.
إلى جانب ذلك، فإن الجلوس لساعات أمام هذه الوسائل الإعلامية يحرم أفراد الأسرة من التفاعل مع بعض، وربما يفرض أحد أفراد الأسرة على بقية أعضاء الأسرة برامج خاصة تبثها إحدى محطات التلفزة، وبهذا يلحق الضرر بهؤلاء الأفراد، خاصة إذا كان هذا الفرد يمثل التيار القوي في داخل الأسرة.. وكثيرًا ما تؤدي مثل هذه المواقف إلى صراع القيم، خاصة بين الأطفال، مما يضر مستقبلاً بقضية الهوية والانتماء لدى هؤلاء الأطفال.
الخدم داخل البيوت وغياب الأمومة تربويًا ولغويًا:
أكدت الدراسات العربية والإسلامية، وخاصة الخليجية منها، وضوح ظاهرة الخادمات والمربيات الأجنبيات في البيت الخليجي، حيث أصبح وجود الخادمة أو المربية أمرًا ضروريًا إلى حد بعيد، يصعب الاستغناء عنها في ظل الظروف الراهنة.. ولا نستطيع القول بمحدودية تأثيرهن على الطفل في البيت الخليجي، نظرًا لاتساع مجال التفاعل من ناحية، والدور الحيوي الذي تضطلع به هذه الفئة في تربية الطفل وتنشئته ورعايته من ناحية أخرى.
وقد أشارت الكثير من الدراسات التي أجريت في منطقة الخليج إلى مساوئ المربيات والخادمات، وإن كانت بعض الدراسات، خاصة من الكويت، قد أشارت إلى إيجابياتهن، فقالت بأنه لا توجد آثار سلبية على الأبناء من وجود المربيات الأجنبيات، خاصة في مظاهر النمو بالطفولة المبكرة واتجاهات الوالدين.. ومهما ذهبت هذه الأبحاث إلى القول بمحدودية التأثير أو ضعفه، فإن هذا لا يمكن الأخذ به وإطلاقه على المجتمع الكويتي بأسره، ولا أدل على ذلك من الأبحاث الأخرى التي أجريت في الكويت نفسها، والتي أكدت على وجود الكثير من السلبيات المرتبطة بوجود الخادمات داخل البيوت.

من سمات الأسرة المسلمة:
وفيما يلي محاولة لتلمس بعض الملامح والسمات التي تتصف بها الأسرة الإسلامية والعربية في كثير من الأحيان:
1- إننا كثيرًا لا نعترف بالمرض النفسي، أو ننكر على أي إنسان الحق في أن يتألم نفسيًا.
2- مشكلتنا أننا لا نهتم إذا عبر أحد أعزائنا عن معاناته النفسية، ولكننا ربما نعطي اهتمامًا سخيًا إذا اشتكى عضويًا.
3- مشكلتنا أن سخـاءنا مادي، واهتمامنا محدود بالمعنويات، معاناة وعطاء.
4- مشكلتنا في كثير من الأحيان أننا نرفض أن نعرف، بل ونقاوم بشدة من يحاول أن يأخذ بأيدينا لنعرف، ونظل متشبثين ببعض الأمور القديمة البالية.
5- مشكلتنا الكبرى هي اختفاء الحوار في البيت الإسلامي العربي.. وبالتالي كلامنا النافع الذي يلبي الحاجات النفسية لأفراد الأسرة قليل، ولذا فإن تعبيرنا عن متاعبنا معدوم.
6- قليلون جدًا الذين يعرفون شيئًا عن الطب والصحة النفسية.. وما يعرفونه قليل جدًا، وهو مأخوذ عن أجهزة الإعلام، وكثـيرًا ما تنقصه الدقة.
7- من مشاكلنا أن مفهوم العلاج الديني اختلط لدى الكثيرين، وتم استغلاله لمنافع دنيوية من آخرين، وقد حمّلنا العين والسحر والمس فوق طاقتها، وهذا أنسانا الرُّقى' الشرعية والمعلوم من الدين بالضرورة.
8- من مشاكلنا أننا نرتكب أخطاءً تربوية كبيرة، خاصة حين نعامل أطفالنا كشريحة واحدة، ويفوت علينا أن لكل طفل كيانه ووجدانه ودرجة استعداده الخاصة به، فهناك من يفيد معه التشجيع، وآخر لابد أن يكون أسلوب الترهيب هو الأنفع معه، وثالث بين هذا وذاك، وهكذا.

موقف البيت العربي من الطب النفسي:
ومن خلال التجارب والخبرة في التعامل مع المريض العربي بصفة عامة، يمكن أن نلخص موقف البيت العربي من الطب النفسي على النحو التالي:

1- مازالت زيارة الطبيب النفسي من الأشياء المفزعة، التي تهز الأسرة، وترفضها بشدة في البداية.. فإذا اشتكى عضو في الأسرة من مشكلة نفسية وتجرأ وطلب زيارة الطبيب النفسي، فإن رد الفعل الأول والتلقائي من الأسرة هو الرفض بشدة، ومحاولة تهوين الأمر بأن الحالة لا تستحق استشارة طبيب.
2- بعض الناس الذين يتألمون نفسيًا يترددون كثيرًا في زيارة الطبيب النفسي، خشية افتضاح أمرهم.. فهذه الزيارة تعني أنهم مصابون بالجنون.. فلدى بعض الناس تصور خاطئ، وهو أن كل من يزور الطبيب النفسي مختل عقليًا.
3- والذي يزور العيادة النفسية من المرضى النفسيين يجـيئ بعـد تردد طــويل، وبعد معانـاة أطـول، استهلكت وقته وصحته وأمنه وسعادته.
4- وإذا عاد المريض بدواء قرره له الطبيب النفسي، فإن الأسرة تفزع مرة ثانية.. وبناء على معلومات خاطئة، يتصورون أن هذه الأدوية تسبب الإدمان، ويتبارون في نصح المريض بعدم تعاطيها، ويشككون فيها، وبذلك يزيدون من حيرته ومعاناته.. بعضهم يتصور أنها تؤذي المخ أو الكبد وأنها نوع من المخدرات التي ربما تفتك به.
5- وفي الحالات التي تقتنع فيها الأسرة بأهمية العلاج، وخاصة في حالة الـمريض العقلي، فإن الأسرة تنصح أو تأمر مريضها بالتوقف عن العلاج بعد فترة معينة، إذ يكون المريض قد أظهر تحسنًا، ولا يدرون ضرورة في استمراره على العلاج.. والنتيجة طبعًا هو تدهور حالة المريض مرة أخرى.
6-مـع ظهور أي أعـراض جـانـبـية فـي بـدايـة العـلاج، حـتى ولـو كانت بسيطة، فإن الأسرة تمنع مريضها من الاستمرار في العلاج، أو قد يتوقف المريض ذاته عن استعماله، وقد لا يعاود الاتصال بالطبيب أو زيارته مرة أخرى، وقد يذهبون به إلى طبيب ثان وثالث.
7- زيارة الطبيب النفسي قد تكون بداية لمشاكل جديدة في حياة الأسرة.. فالزوجة يضايقها أن يذهب زوجها إلى طبيب يحكي له مشاكله، وقد تكون هذه المشاكل مرتبطة بحياته الزوجية.. والزوج يزعجه أن تفضي زوجته للطبيب بأسرارها. ولذا يحاول الطرف السليم أن يفت في عزم شريك حياته المريض ويثنيه عن الذهاب إلى الطبيب، أو إنهاء العلاج قبل أن يتم، وإذا وجد معارضة، فإنه يبدي تذمره وعدم ارتياحه، وذلك مما يخلق صراعات جديدة.






الأسرة المنتجة للمرض النفسي:
الأسرة المنتجة للمرض، فرض يطرحه بعض علماء النفس والأطباء النفسيون معًا، وذلك بعد أن اكتشفوا من خلال الدراسة والعلاج الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في اضطراب الفرد، وهم بذلك يعطون لبنية الأسرة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة ثقلاً خاصًا في توفير الصحة أو نشأة المرض.
وفرض «الأسرة المنتجة للمرض»، يقوم على أساس أن هناك بعض الأسر -بحكم بنيتها- أسر غير سوية.. ويفصح عامل اللاسواء في الأسرة عن نفسه من خلال أحد الأبناء.. وعادة ما يكون هذا الابن أكثر الأبناء تهيأً للإصابة بالمرض، وقد يكون أساس هذا التهيؤ وراثته لقدر أكبر من الاستعداد للمرض.
وطبقًا لهذا الفرض، فإن مرض الفرد في هذه الحالة مرض أسرة بكاملها، أفصح عن نفسه من خلال أضعف الحلقات في الأسرة، وهو الطفل الأكثر تهيأ للاضطرابات.
ويلاحظ أن معظم الدراسات والبحوث التي تمت في إطار فرض «الأسرة المنتجة للمرض» تمت على مرضى «الفصام»، وهو مرض عقلي رئيس.. وقد ركز «هندرسون» في أبحاثه، على العوامل البيئية، وفي مقدمتها الأسرة، واعتبر أن «باثولوجية» العصاب هي أساس «باثولوجية» العلاقات البيئية الشخصية.. وخصت معظم هذه الدراسات الأم بقدر أكبر من عامل اللاسواء، وبالتالي النصيب الأوفى من مسؤولية اضطراب الطفل.

الخاتمة
تعديل العوامل البيئية داخل المنزل وخارجه ، وشغل وقت الفرغ والترفية المناسب والرياضة والنشاط الاجتماعي . وتوفير الرعاية الاجتماعية للحدث الجانح في الأسرة والمدرسة أو المؤسسة ، واستخدام كافة امكانيات الخدمة الاجتماعية المتيسرة في المجتمع . والايداع في المؤسسات للتأهيل النفسي والتربوي والمهني ، وإعادة التطبيع الاجتماعي وتعديل الدوافع والاتجاهات في ضوء دراسات وخطط علاجية مدروسة والعمل مع الجانحين على أساس من الفهم والرعاية بهدف الاصلاح والتقويم وليس العقاب
كما وتؤثر العلاقات بين الاخوة على الصحة النفسية حيث العلاقات المنسجمة بين الاخوة الخالية من تفضيل طفل على طفل او جنس على جنس المشبعة بالتعاون الخالية من التنافس تؤدي الى النمو النفسي السليم للطفل .والعلاقات بين الاسرة والمدرسة مهمة للغاية وخاصة علاقات التعاون لتبادل المعلومات والتوجيهات فيما يتعلق بنموالطفل. وتقوم مجالس الاباء والمعلمين بدوركبير في هذا الصدد.كما انها تؤثر على النمو النفسي (السوي وغيرالسوي) للطفل في تكوين شخصيتة اضافة الى ان الاسرة السعيدة تعتبر بيئة نفسية صحية للنمو وتؤدي الى سعادة الطفل اما الاسرة المضطربة تعتبر بيئة نفسية سيئة للنمو .فهي تكون بمثابة مرتع خصب للانحرافات السلوكية والاضطرابات النفسية والاجتماعية وبالتالي يؤدي ذالك الى عدم انتظام شخصية الطفل وتدهورها التدريجي لذا تعتبر الاسرة واحدة من المقومات الاساسية الهامة في عملية تكوين الشخصية المتكاملة واعداد انسان صحيح نفسيا قادر على تحمل المسؤلية الاجتماعية.وأخيراً مع حبي وتقديري بمناسبة اليوم العالمي للطفل .

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

- رسالة المسترشدين


كتاب : رسالة المسترشدين
أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأول القديم الواحد الجليل الذي ليس له شبيه ولا نظير أحمده حمدا يوافي نعمه ويبلغ مدى نعمائه
وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له شهادة عالم بربوبيته عارف بوحدانيته وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه وختم به أنبياءه وجعله حجة على جميع خلقه { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة }
وأن الله عز وجل اجتبى من عباده المؤمنين ذوي
الألباب العالمين به وبأمره فوصفهم بالوفاء والأخلاق الفاضلة والخوف والخشية فقال عز وعلا إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب
فمن شرح الله صدره ووصل التصديق إلى قلبه ورغب في الوسيلة إليه لزم منهاج ذوي الألباب برعاية حدود الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما اجتمع عليه المهتدون من الأئمة
وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إليه عباده فقال جل وعز { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ
واعلم أن فريضة كتاب الله العمل بحكمه من الأمر والنهي والخوف والرجاء لوعده ووعيده والإيمان بمتشابهه والاعتبار بقصصه وأمثاله
فإذا أتيت بذلك فقد خرجت من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن عذاب الشك إلى روح اليقين قال الله جل ذكره { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }
وإنما يميز ذلك ويرغب فيه أهل العقل عن الله الذين عملوا في إحكام الظاهر وتنزهوا عن الشبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبين
ذلك أمور مشتبهات ) تركها خير من أخذها
فافحص عن النية واعرف الإرادة فإن المجازاة بالنية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى )
والزم تقوى الله فإن ( المسلم من سلم الناس من يده ولسانه والمؤمن من أمن الناس بوائقه ) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه اتق الله بطاعته وأطع الله بتقواه ولتخف يداك من دماء المسلمين وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم
وحاسب نفسك في كل خطرة
وراقب الله في كل نفس
قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية
وخف الله في دينك وارجه في جميع أمورك واصبر على ما أصابك قال علي رضي الله عنه لا تخف إلا ذنبك ولا ترج إلا ربك ولا يستحي الذي يعلم أن يسأل حتى يعلم ولا يستحي من يسأل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم
واعلم أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس ذهب الجسد
وإذا سمعت كلمة تغضبك في عرضك فاعف واصفح فإن ذلك من عزم الأمور
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من خاف الله لم بشف غيظه ومن اتقاه لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون
وراع همك واشتغل بإصلاح نفسك عن عيب غيرك فإنه كان يقال كفى بالمرء عيبا أن يستبين له
من الناس ما يخفى عليه من نفسه أو يمقت الناس فيما يأتي مثله أو يؤذي جليسه أو يقول في الناس ما لا يعنيه
واستعمل لله عقلك بترك التدبير واستعن بالله على صرف المقادير
قال علي رضي الله عنه يا ابن آدم لا تفرح بالغنى ولا تقنط بالفقر ولا تحزن بالبلاء
ولا تفرح بالرخاء فإن الذهب يجرب بالنار وإن العبد الصالح يجرب بالبلاء وإنك لا تنال ما تريد
إلا بترك ما تشتهي ولن تبلغ ما تؤمل إلا بالصبر على ما تكره وابذل جهدك لرعاية ما افترض عليك
وارض بما أرادك الله به قال ابن مسعود رضي الله عنه ارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس وأد ما افترض الله عليك تكن من أعبد الناس
ولا تشك من هو أرحم بك إلى من لا يرحمك واستعن بالله تكن من أهل خاصته
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى وإياك والطمع وطلب الحاجات فإنه الفقر وإذا صليت فصل صلاة مودع
واعلم أنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر خيره وشره
وكن بالحق عاملا يزدك الله نورا وبصيرة ولا تكن ممن يأمر به وينأى عنه فيبوء بإثمه ويتعرض لمقت ربه قال الله عز وجل { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من وعظ ولم يتعظ وزجر ولم ينزجر ونهى ولم ينته فهو عند الهل من الخائبين )
ولا تخالط إلا عاقلا تقيا ولا تجالس إلا عالما بصيرا
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي جلسائنا خير قال ( من ذكركم بالله رؤيته وزادكم في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله )
وتواضع للحق واخضع له وأدم ذكر الله تنل قربه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جلساء الله يوم القيامة الخاضعون المتواضعون الخائفون الذاكرون الله كثيرا )
وابذل النصيحة لله وللمؤمنين وشاور في أمرك الذين
يخشون الله
قال الله عز وجل { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة )
واعلم أن من نصحك فقد أحبك ومن داهنك فقد غشك ومن لم يقبل نصيحتك فليس بأخ لك
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا خير في قوم لا يحبون الناصحين
وآثر الصدق في كل موطن تغنم واعتزل الفضول تسلم فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى
رضا الله تعالى والكذب يهدي إلى الفجور والفجور يورث سخط الله
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لا تتكلم فيما لا يعنيك ولا تمار سفيها ولا حليما واذكر أخاك بما تحب أن تذكر به
واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام وأدم شكرك واقصر من أملك وزر القبور بهمك وجل في الحشر بقلبك
وقال أبو ذر رضي الله عنه اعمل كأنك ترى وعد نفسك في الموتى واعلم أن الشر لا ينسى والخير لا يفنى واعلم أن قليلا يغنيك خير من كثير يلهيك
وإياك ودعوة المظلوم
ثم رم جهازك وافرغ من زادك وكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك واعقل أمرك وتيقظ من سنتك فإنك مسئول عن عمرك
قال أبو أمامة رضي الله عنه لو عقل ابن آدم عن ربه كان خيرا له من جهاده
واعلم أن من جعل همه الآخرة كفاه الله امر دنياه كما كما ذكر في الحديث المروي ( تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فإنه من كانت الدنيا اكبر همه أفشى الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ومن كانت
الآخرة أكبر همه جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه
وما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تنقاد إليه بالرحمة والمودة )
واحذر يا أخي المراء في القرآن
والجدال في الدين
والكلام في التحديد وكن من الذين قال الله عز وجل فيهم ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )
والزم الأدب وفارق الهوى والغضب واعمل في أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزبا والتأني صاحبا والسلامة
كهفا والفراغ غنيمة والدنيا مطية والآخرة منزلا وقال الحسن رضي الله عنه إن الله تعالى لم يجعل للمؤمن راحة دون الجنة

واحذر مواطن الغفلة ومخاتل العدو وطربات الهوى وضراوة الشهوة وأماني النفس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ( أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك )
وإنما صارت أعدى أعدائك لطاعتك لها
وكل أمر لاح لك ضوءه بمنهاج الحق فاعرضه على الكتاب والسنة والآداب الصالحة
فإن خفي عليك أمر فخذ فيه رأي من ترضى دينه وعقله
واعلم أن على الحق شاهدا بقبول النفس له
ألا ترى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استفت قلبك وإن أفتاك المفتون )
وقيد الجوارح بإحكام العلم وراع همك بمعرفة قرب الله منك وقم بين يديه مقام العبد المستجير تجده رؤوفا رحيما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله عز
وجل ينزل العبد من نفسه بقدر منزلته منه )
وذلك على قدر الخشية لله والعلم به والمعرفة له
واعلم أنه من آثر الله آثره ومن أطاعه فقد أحبه ومن ترك له شيئا لم يعذبه به كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فإنك لن تجد فقد شيء تركته لله
واحم القلب عن سوء الظن بحسن التأويل وادفع الحسد بقصر الأمل وانف الكبر باستبطان العز واترك كل فعل يضطرك إلى اعتذار وجانب كل حال يرميك في التكلف وصن دينك بالاقتداء واحفظ أمانتك بطلب العلم وحصن عقلك بآداب أهل الحلم
واستعد الصبر لكل موطن والزم الخلوة بالذكر واصحب النعم بالشكر
واستعن بالله في كل أمر واستخر الله في كل حال وما أرادك الله له فاترك الاعتراض فيه وكل عمل تحب أن تلقى الله به فألزمه نفسك وكل أمر تكرهه لغيرك فاعتزله من أخلاقك وكل صاحب لا تزداد به خيرا في كل يوم فانبذ عنك صحبته
وخذ بحظك من العفو

واعلم أن المؤمن يختبر صدقه في كل حال مطلب نفسه بالبلوى رقيب لله على نفسه فاثبت على محجة الحق فإنك مراد العون

واصدق في الطلب ترث علم البصائر وتبد لك عيون المعارف وتميز بنفسك علم ما يرد عليك بخالص التوفيق فإنما السبق لمن عمل والخشية لمن علم والتوكل لمن وثق والخوف لمن أيقن والمزيد لمن شكر
واعلم أن ما يصل العبد إليه من الفهم بقدر تقديم عقله وموجود علمه بتقواه لله وطاعته
فمن وهب
الله له العقل وأحياه بالعلم بعد الإيمان وبصره باليقين عيوب نفسه فقد نظمت له خصال البر فاطلب البر في التقوى وخذ العلم من أهل الخشية
واستجلب الصدق بمباحث الصدق في مواطن التفكر
قال الله عز وجل { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعلموا اليقين فإني أتعلمه )

واعلم أن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكار إيثار الطاعة على المعصية وإيثار العلم على الجهل وإيثار الدين على الدنيا وكل علم لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو مزيد في الحجة كف الأذى بقطع الرغبة ووجود العمل بالخشية وبذل الإنصاف بالتباذل والرحمة
واعلم أنه ما تزين أحد بزينة كالعقل ولا لبس
ثوبا أجمل من العلم لأنه ما عرف الله إلا بالعقل
ولا أطيع إلا بالعلم
واعلم أن أهل المعرفة بالله بنوا أصول الأحوال على شاهد العلم وتفقهوا في الفروع ألا ترى لقول
النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم )
وعلامة ذلك هو تزايد العلم بالإشفاق ومزيد العلم بالاقتدار فكلما ازداد علما ازداد خوفا وكلما ازداد عملا ازداد تواضعا
والأصل الذي بنوا به في طريقهم التزام الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالصدق وتقديم العلم على حظوظ النفوس والاستغناء بالله عن جميع خلقه
فاطلب آثار من زاده العلم خشية والعمل بصيرة
والعقل معرفة فإن حجبك عن منهاجهم فقد الأدب فارجع بالذم على نفسك ولن يخفى على أهل العلم صفة المخلصين
واعلم أن في كل فكرة أدبا وفي كل إشارة علما وإنما يميز ذلك من فهم عن الله عز وجل مراده وجنى فوائد اليقين من خطابه
وعلامة ذلك في الصادق إذا نظر اعتبر وإذا صمت تفكر وإذا تكلم ذكر وإذا منع صبر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي استرجع وإذا جهل عليه حلم وإذا علم تواضع وإذا علم رفق وإذا سئل بذل
شفاء للقاصد وعون للمسترشد حليف صدق
وكهف بر قريب الرضا في حق نفسه بعيد الهمة في حق الله تعالى
نيته أفضل من عمله وعمله أبلغ من قوله موطنه الحق ومعقله الحياء ومعلومه الورع وشاهده الثقة له بصائر من النور يبصر بها وحقائق من العلم ينطق منها ودلائل من اليقين يعبر عنها

وإنما يواصل بذلك من جاهد لله تعالى نفسه واستقامت لطاعته نيته وخشي الله في سره وعلانيته وقصر الأمل وشمر مئزر الحذر وأقلع بريح النجاة في بحر الابتهال
فأوقاته غنيمة وأحواله سليمة لم يغتر بزخرف دار الغرور ولم يله ببريق سراب نسيمها عن أهوال يوم النشور
واعلم أن العاقل لما صح علمه وثبت يقينه علم أن لا ينجيه من ربه إلا الصدق فسعى في طلبه وبحث عن أخلاق أهله رغبة في أن يحيى قبل مماته ليستعد لدار الخلود بعد وفاته فباع نفسه وماله من ربه حيث سمعه يقول { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }
فعلم بعد الجهل واستغنى بعد الفقر وأنس بعد الوحشة وقرب بعد البعد واستراح بعد التعب فائتلف أمره واجتمع همه
فشعاره الثقة وحاله المراقبة ألا ترى لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
يحسبه الجاهل صميتا عييا وحكمته أصمتته ويحسبه الأحمق مهذارا والنصيحة لله أنطقته
ويحسبه غنيا والتعفف أغناه ويحسبه فقيرا والتواضع أدناه
لا يتعرض لما لا يعنيه ولا يتكلف فوق ما يكفيه ولا يأخذ ما ليس بمحتاج إليه ولا يدع ما وكل بحفظه الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب قد أمات بالورع حرصه وحسم بالتقى طمعه وأفنى بنور العلم شهواته
فهكذا فكن ولمثل هؤلاء فاصحب ولآثارهم فاتبع وبأخلاقهم فتأدب فهؤلاء الكنز المأمون
بائعهم بالدنيا مغبون وهم العدة في البلاء والثقات من الأخلاء إن افتقرت أغنوك وإن دعوا الرب لم ينسوك { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }
واعلم وسع الله بالفهم قلبك وأنار بالعلم صدرك وجمع باليقين همك أني وجدت كل بلاء داخل على القلب ضرورة من نتائج الفضول وأصل ذلك الدخول في الدنيا بالجهل ونسيان المعاد بعد العلم
والنجاة من ذلك ترك كل مجهول في الورع
وأخذ كل معلوم في اليقين

ووجدت فساد القلب فساد الدين ألا ترى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )
ومعنى الجسد ها هنا الدين لأن بالدين صلاح الجوارح وفسادها
وأصل فساد القلب ترك المحاسبة للنفس والاغترار بطول الأمل فإذا أردت صلاح قلبك فقف مع الإرادة وعند الخواطر فخذ ما كان لله ودع ما كان لغيره
واستعن على قصر الأمل بدوام ذكر الموت
ووجدت أصول الفضول المتحركة من القلب تظهر على السمع والبصر واللسان والغذاء واللباس وفضول السمع يخرج إلى السهو والغفلة وفضول البصر يخرج إلى الغفلة والحيرة وفضول اللسان يخرج إلى التزيد والبدعة
وفضول الغذاء يخرج إلى الشره والرغبة وفضول اللباس يخرج إلى المباهاة والخيلاء
واعلم أن حفظ الجوارح فريضة وترك الفضول فضيلة
والتوبة قبل ذلك فريضة وقد فرضها الله ورسوله فقال جل ذكره { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } معنى نصوحا ترك العود فيما تاب منه العبد إلى ربه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وتقربوا إلى الله بالعمل الصالح من قبل أن تشغلوا )

ولا تصح التوبة إلا بأربعة أشياء حل إصرار القلب عن المعاودة والاستغفار بالندم ورد التبعات والمظالم وحفظ الجوارح من الحواس السبع السمع والبصر واللسان والشم واليدان والرجلان والقلب وهو أميرها وبه صلاح الجسد وفساده
وقد جعل الله على كل جارحة أمرا ونهيا فريضة منه وجعل بينهما سعة وإباحة تركها فضيلة للعبد
ففرض القلب بعد الإيمان والتوبة إخلاص العمل لله واعتقاد حسن الظن عند الشبهة والثقة بالله والخوف من عذابه والرجاء لفضله

وقد روي في معنى القلب أخبار كثيرة منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن من المؤمنين من يلين له قلبي ) وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الحق يأتي وعليه نور فعليكم بسرائر القلوب ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه للقلوب شهوة وإقبال وفتره وإدبار فاغتنموها
عند شهوتها وإقبالها وذروها عند فترتها وإدبارها
قال ابن المبارك رحمه الله القلب مثل المرآة إذا طالت في اليد صدئت وكالدابة إذا غفل عنها عدلت
وقال بعض الحكماء القلب مثل بيت له ستة أبواب ثم قيل لك احذر ألا يدخل عليك من أحد الأبواب شيء فيفسد عليك البيت فالقلب هو البيت والأبواب
العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت
وفرض اللسان الصدق في الرضا والغضب وكف الأذى في السر والعلانية وترك التزيد بالخير والشر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ( وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )
وقال صلى الله عليه وسلم ( أنذركم فضول الكلام حسب أحدكم ما يبلغ به حاجته فإن الرجل يسأل عن فضول كلامه كما يسأل عن فضول ماله )
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الله عند
لسان كل قائل فاتقى الله امروء علم ما يقول )
وفرض البصر الغض عن المحارم وترك التطلع فيما حجب وستر
قال حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( النظر سهم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله آتاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه )
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه من غض بصره عن النظر الحرام زوج من الحور العين حيث أحب ومن اطلع فوق بيوت الناس حشره الله يوم القيامة أعمى

وقال داود الطائي لرجل وقد أحد النظر إلى بعض من ينظر إليه فقال يا هذا اردد بصرك إليك فإنه بلغني أن الرجل يسأل عن فضول نظره كما يسأل عن فضول عمله
ويقال لك النظرة الأولى وليست لك الآخرة
فما هجم على النظر فهو موضوع عن العبد وما استبد به النظر بمعقول الفهم فالعبد مأخوذ به
وفرض السمع تبع للكلام والنظر فكل ما لا يحل لك الكلام فيه والنظر إليه فلا يحل لك استماعه ولا التلذذ به والبحث عما كتم عنك تجسس
وسماع اللهو والغناء وأذى المسلمين حرام كالميتة والدم
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نهينا عن الغيبة والاستماع إليها وعن النميمة والاستماع لها
وسئل القاسم بن محمد عن سماع الغناء قال إذا ميز الله بين الحق والباطل يوم القيامة أين يقع الغناء قيل في حوز الباطل قال فأفت نفسك

وليس من جارحة أشد ضررا على العبد بعد لسانه من سمعه لأنه أسرع رسول إلى القلب وأقرب وقوعا في الفتنة
وقد ذكر عن وكيع بن الجراح قال سمعت كلمة من مبتدع منذ عشرين سنة ما أستطيع إخراجها من أذني وكان طاووس إذا أتاه مبتدع سد أذنيه لئلا يسمع كلامه
وفرض الشم تبع للسمع والبصر فكل ما حل استماعه ونظره جاز لك شمه
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أتي بمسك فأمسك عنه أنفه
فقيل له في ذلك فقال وهل ينتفع منه إلا برائحته
وفرض اليدين والرجلين أن لا تبسطهما إلى محظور ولا تقبضهما عن حق
وقال مسروق ما خطا العبد خطوة إلا كتبت حسنة أو سيئة
وكتبت ابنة سليمان إلى عبدة
بنت خالد بن معدان زوديني فكتبت إليها عبدة أما بعد فإن أبي رحمه الله كان يكره أن يسير مسيرا ليس هو فيه ضامنا على الله أو يأكل طعاما إذا سئل عنه يوم القيامة لم يكن عنده فيه مخرج وقد كرهت من ذلك ما كره أبي والسلام عليك
فإن قال قائل ما السبيل إلى العمل بذلك قيل لزوم منهاج الأئمة المتقين والنظر في آداب المسترشدين لمعرفة الخطو والتيقظ بالمحاسبة
والعمل بالإنصاف والتحرز بكف الأذى وبذل الفضل بترك المنة وحسن السمت بغير حسد والقناعة بحب الخمول وطول الصمت رغبة في السلامة والتواضع للخلق بلا وحشة والأنس بالذكر في الخلوة وتفرغ القلب للخدمة واجتماع الهم بالمراقبة وطلب النجاة في طريق الاستقامة

قال الله عز وجل { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
وقال سفيان بن عبد الله الثقفي يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال ( قل آمنت بالله ثم استقم )
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أستقاموا لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب
وقال أبو العالية الرياحي استقاموا أخلصوا لله الدين والدعوة والعمل
وأصل الاستقامة في ثلاثة اتباع الكتاب والسنة ولزوم الجماعة

واعلم أن أنجى طريق للعبد العمل العلم والتحرز بالخوف والغنى بالله عز وجل
فاشتغل بإصلاح حالك وافتقر إلى ربك وتنزه عن الشبهات وأقلل حوائجك إلى الناس وأحب واحب لهم ما تحب لنفسك واكره لهم مثل ذلك ولا تكشفن سترا
ولا تحذثن نفسك بخطيئة ولا تصرن على صغيرة وافزع إلى الله عند كل فاقة وافتقر إليه في كل حال
وتوكل عليه في كل أمر
واعتزل الهوى ولا تقنع من نفسك بالتربص وأخمل ذكرك وأدم لله شكرك وأكثر من الاستغفار واعتبر بالإفكار
وعليك بالتأني عند موارد العجلة وحسن الأدب في المخالطة
ولا تغضب لنفسك على الناس واغضب لله على نفسك ولا تكافئن أحدا بإساءة واحذر المدحة
للجاهل بنفسه ولا تقبلها لنفسك من أحد
وأقلل الضحك وجانب المزاح
واكتم الأوجاع وأظهر التعفف واستبطن الثقة واستشعر اليأس وحسن الفقر واصبر على ما اصابك وارض بما قسم الله لك وكن من وعد الله على يقين ومن آثارك في وجل
ولا تتكلفن ما قد كفيته ولا تضيعن ما وكلت بطلبه وافتقر إلى الله في كل عطائه وارغب في النجاة منه
واعف عمن ظلمك وأعط من حرمك وصل في الله من قطعك وآثر في الله من أحبك وابذل نفسك ومالك لأخوانك وارع حقوق المولى في دينك ولا يعظمك
كبير من المعروف تفعله ولا تحقرن صغيرا من المنكر تفعله
واحذر التزين بالعلم كما تحذر العجب بالعمل ولا تعتقدن باطنا من الأدب ينقضه عليك ظاهر من العلم وأطع الله في معصية الناس ولا تطع الناس في معصية الله تعالى ولا تدخرن من جهدك عن الله شيئا ولا ترض من نفسك لله عملا وقم بين يديه في صلاتك جملة

وأد زكاة ما افترض الله عليك بالنشاط والرغبة واحفظ صومك من الكذب والغيبة
وارع حق الجار والمسكين والقريب وأدب أهلك وارفق بما ملكت يمينك وكن قواما بالنشاط كما أمرك وإذا حركت لخير فتعجله وما اشتبه عليك فدعه
والزم الرحمة للمؤمنين وقل الحق حيثما كنت
ولا تكثر الأيمان وإن كنت صادقا واحذر التوسع في المنطق وإن كنت بليغا وإياك والتكلف في الدين وإن كنت عالما
وقدم العلم قبل كل مقال

والزم الإشفاق بعد الاجتهاد ودار الناس ما سلم لك الدين واحذر المداهنة أصلا

وخالق الناس بخلق حسن
ولا تستحين أن تقول فيما لا تعلم الله أعلم
ولا تنشر حديثك عند من لا يريده ولا تبذل دينك عند من يبغضه إليك
ولا تتعرض من البلاء ما لا طاقة لك به وأكرم نفسك عمن يهينها ونزه همتك عن دناءة الأخلاق ولا تواخ إلا أمينا ولا تبد أسرارك لكل الناس ولا تجاوز بالمرء حاله ولا تخاطبه من العلم بما لا يحتمله عقله ولا تدخل في أمر لم تدع إليه
ووقر مجالس العلماء واعرف قدر الحكماء
ولا تدع المكافأة والصنائع وأعرض عن الجهال واحلم عن السفهاء وشاور في أمرك الذين يخشون الله
وانصر أخاك مظلوما ورده إلى الحق إن كان ظالما وابذل له حقه منك ولا تطالبه في حقك منه ويسر
على الغريم وارفق بالأرملة واليتيم وأكرم الصابرين من الفقراء وارحم أهل البلاء من الأغنياء ولا تحسدن أحدا على نعمة
ولا تذكر أحدا بغيبة وسد على نفسك باب سوء الظن بخوف المسألة وافتح باب حسن الظن بسعة التأويل وأغلق باب الطمع بالإياس واستفتح باب الغنى بالقناعة ونزه ذكر الله عن إضافة المكاره
وحصل الأوقات واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك

وجدد في كل وقت توبة واجعل عمرك ثلاث ساعات
ساعة للعلم وساعة للعمل وساعة لحقوق نفسك وما يلزمك
واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله تعالى فريق في الجنة برضاه وفريق في السعير بسخطه واعرف قرب الله منك وأكرم الحفظة الكاتبين
وتناول نعم الله بالفهم وردها إليه بحسن الثناء والشكر

واحذر من اتهام النفس برؤية المقامات وتسفه الحق بغمط الناس فإنه سم قاتل واعتزل خوف السقوط من أعين الناس لخوف مقتهم وخوف الفقر بقرب الأجل
وأخف أثرك ما استطعت

وابذل الجهد عند المشورة وأحب في الله بعزم واقطع في الله بحزم
ولا تخالل إلا تقيا عالما ولا تخالط إلا عاقلا بصيرا
وكن مقتديا بمن قبلك من الائمة ومعلما لمن بعدك من الأمة
إماما للمتقين كهفا للمسترشدين
ولا تظهرن إلى أحد شكوى ولا تأكل بدينك الدنيا
وخذ بحظك من العزلة ولا تأخذن إلا حلالا وجانب الإسراف واقنع من الدنيا بالكفاف

واطلب الأدب في بساتين العلم والأنس في مواطن الخلوة والحياء في شعاب النفس والاعتبار في أودية التفكر والحكمة في رياض الخوف
واعرف دوام إحسان الله إليك مع مخالفتك لأمره وحلمه عنك مع إعراضك عن ذكره وستره عليك مع قلة حيائك منه وغناه عنك مع فقرك إليه
أين عالم بربه أين خائف من ذنبه أين مسرور بقربه أين مشغول بذكره أين مشفق من بعده هو ذا مغفور له يا مغرور ألم يرك الجليل قد هتكت الستور
واعلم يا أخي أن الذنوب تورث الغفلة والغفلة
تورث القسوة والقسوة تورث البعد من الله والبعد من الله يورث النار وإنما يتفكر في هذه الأحياء وأما الأموات فقد أماتوا أنفسهم بحب الدنيا

واعلم أنه كما لا يغني ضوء النهار الأعمى كذلك لا يضيء بنور العلم إلا أهل التقى
وكما أن الميت لا ينفعه الدواء كذلك لا يفيد الأدب في أهل الدعوى
وكما لا ينبت الوابل الصفا كذلك لا تثمر الحكمة بقلب محب الدنيا ومن ألف هواه قل أدبه ومن
خالف دلالة علمه كثر جهله ومن لم ينفعه دواءه كيف يداوي غيره
واعلم أن أروح الناس أبدانا أهل الزهد في الدنيا
وأتعب الناس قلوبا وأكثرهم شغلا أهل الاهتمام بالدنيا
وأعون الأخلاق على الزهد قصر الأمل وأقرب حالات أهل المعرفة ذكر القيام لله عز وجل
قال الله عز وجل { إن الله كان عليكم رقيبا } واعلم أنه لا طريق أقرب من الصدق ولا دليل
أنجح من العلم ولا زاد أبلغ من التقوى وما رأيت أنفى للوسواس من ترك الفضول ولا أنور للقلب من سلامة الصدر
ووجدت كرامة المؤمن تقواه وحلمه صبره وعقله تجمله ومودته تجاوزه وعفوه وشرفه
تواضعه ورفقه
واعلم أن محبة الغنى مع اختيار الله لعبده الفقر تسخط ومحبة الفقر مع اختيار الله لعبده الغنى جور وكل ذلك هرب من الشكر لقلة المعرفة وتضييع للأوقات من قصر العلم
وذلك أن ايمان الغني لا يصلحه الفقر إيمان الفقير لا يصلحه الغنى كما جاء في الخبر أن الله تعالى يقول ( إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك )
وكذلك في الصحة والسقم فمن عرف الله لم يتهمه ومن فهم عن الله رضي بقضائه
ولو لم يكن لأهل العلم إلا هذه الآية لكفتهم { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة }
واحذر أخلاق الجاهلين ومجالسة المذنبين
ودعاوى المعجبين ورجاء المغترين ويأس القانطين
وكن بالحق عاملا وبالله واثقا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا
فإن من صدق الله نصحه ومن تزين لغيره فضحه ومن توكل عليه كفاه ومن وثق بغيره مقته ومن خافه أمنه ومن شكره زاده ومن أطاعه أكرمه ومن آثره أحبه

واحذر أن تدين لله بالعقل وتعمل بالهوى وتترك الحق وتبوء بالباطل وتتمنى المغفرة وأنت ناس للتوبة
واعلم أنه لا يرضى من العلم والعمل إلا ما ثبت باليقين أصله وعلا بالصدق فرعه وأثمر بالورع نباته وقام بالإشفاق برهانه وحجب بالخشية أستاره فلا ترض من نفسك بالتواني فإنه لا عذر لأحد في التفريط ولا لأحد عن الله غنى
واعلم أن من سعادة المرء حسن النية فيما عند الله تعالى والتوفيق لمحابه
ومن أراد الله به خيرا وهب
له العقل وحبب إليه العلم
وحباه بالإشفاق واستعمله بالرفق وأغناه بالقناعة
وبصره عيبه
واعلم رحمك الله أن الصدق والإخلاص أصل كل حال فمن الصدق يتشعب الصبر والقناعة والزهد والرضا والأنس
وعن الإخلاص يتشعب اليقين والخوف والمحبة والإجلال والحياء والتعظيم
ولكل مؤمن في هذه المقامات موطن يعرف به حاله فيقال له خائف وفيه الرجاء وراج وفيه الخوف وصابر وفيه الرضا ومحب وفيه الحياء
وقوة كل حال وضعفه بحسب إيمان العبد ومعرفته
ولكل أصل من هذه الأحوال ثلاث علامات يعرف بها الحال
فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به صدق القلب بالإيمان تحقيقا وصدق النية في الأعمال وصدق اللفظ في الكلام
والصبر في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به الصبر عن محارم الله والصبر على اتباع أمر الله والصبر عند المصائب احتسابا لله

والقناعة في ثلاثة أشياء قلة الغذاء بعد وجوده وصيانة الفقر عند العدم وقلة الأسباب والسكون إلى أوقات الله عز وجل مع حلول الفاقة
وللقناعة أول وآخر فأولها ترك الفضول مع وجود الاتساع وآخرها وجود الغنى مع فقد الأسباب ومن هاهنا قال بعضهم القناعة أعلى من الرضا
وإنما أراد قناعة التمام لأن الراضي لا يتعرض في المنع والعطاء والقانع غني بربه لا يحب الزيادة معه من حظ هو له إلا منه له
والزهد في ثلاثة أشياء لا يسمى زاهدا إلا بها خلع الأيدي من الأملاك ونزاهة النفس عن الحلال والسهو عن الدنيا بكثرة الأوقات
ويكون الرجل متزهدا بثلاثة أخر حمية النفس عند
ترامي الإرادات والهرب من مواطن الغنى وأخذ المعلوم عند الحاجة
والأنس في ثلاثة أشياء أنس بالعلم والذكر في الخلوة وأنس باليقين والمعرفة مع الخلوة وأنس بالله عز وجل في كل حال
والرضا نظام المحبة
ونفس التوكل روح اليقين
وقد ذكر عن أيوب السختياني والفضيل بن عياض رحمة الله عليهما أنهما كانا يقولان الرضا التوكل
فهذه شعب الصدق المأخوذة بأوصاف العلم
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول إذا كمل صدق الصادق لم يملك ما في يديه
وأما شعب الإخلاص فلا يسمى المخلص مخلصا حتى يفرد الله عز وجل من الأشباه والأنداد والصاحبة والأولاد

ثم إرادته الله بإقامة التوحيد وجمع الهم له وبه في النفل والفرض
وصحة اليقين في ثلاثة أشياء سكون القلب إلى الثقة بالله والانقياد لأمر الله والإشفاق والوجل من سابق العلم
ولليقين أول وآخر فأوله الطمأنينة وآخره إفراد الله بالكفاية لقوله جل وعز { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } والحسب هو الكافي والمكتفي هو العبد الراضي بما قضى
وإنما قلنا آخر اليقين من وجود أوصاف العبد مقام الإيمان لا في آخر اليقين من العلم ولن يبلغ ذلك
أحد من خلق الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن يبلغ أحد من الله كنها ) قالوا يا رسول الله إنا بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يمشي على الماء قال لو ازداد يقينا وخوفا لمشى في الهواء
ولا يكون الخوف إلا بعد اليقين وهل رأيت خائفا لما لم يستيقنه

والخوف في ثلاثة أشياء خوف الإيمان وعلامته مفارقة المعاصي والذنوب وهو خوف المريدين
وخوف السلف وعلامته الخشية والإشفاق والورع وهو خوف العلماء
وخوف الفوت وعلامته بذل الجهد في طلب مرضاة الله بوجود الهيبة والإجلال لله عز وجل وهو خوف الصديقين
ومقام رابع في الخوف خص الله به الملائكة والأنبياء عليهم السلام وهو خوف الإعظام لأنهم آمنون في أنفسهم بأمان الله لهم فخوفهم تعبدهم لله إجلالا وإعظاما
والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محبا لله عز وجل إلا بها محبة المؤمنين في الله عز وجل وعلامة ذلك
كف الأذى عنهم وجلب المنفعة إليهم
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل وعلامة ذلك اتباع سنته
قال الله جل ذكره { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } 
و محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية ويقال ذكر النعمة يورث المحبة
وللمحبة أول وآخر فأولها محبة الله بالأيادي والمنن قال ابن مسعود رضي الله عنه جبلت القلوب على حب من أحسن إليها
وأعلاها المحبة لوجوب حق الله عز وجل قال علي بن الفضيل رحمة الله عليه إنما يحب الله عز وجل لأنه هو الله
وقال رجل لطاووس أوصني قال أوصيك أن تحب الله حبا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه وخفه خوفا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف وارض للناس ما ترضى لنفسك قم فقد جمعت لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان
والإجلال والتعظيم من الحياء بمنزلة الرأس من الجسد
الذي لا غنى لأحدهما عن صاحبه وإذا استحيا العبد من ربه أجله
وأفضل الحياء المراقبة لله عز وجل
والمراقبة في ثلاثة أشياء مراقبة الله في طاعته بالعمل ومراقبة الله في معصيته بالترك ومراقبة الله في الهم والخواطر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
ومراقبة القلب لله عز وجل أشد تعبا على البدن من مكابدة قيام الليل وصيام النهار وإنفاق المال في سبيل الله

وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول إن لله في أرضه آنية وإن من آنيته فيها القلوب فلا يقبل منها إلا ما صفي وصلب ورق
ومعنى ذلك أن يصفي القلب لله عز وجل باتباع أمره ونهيه ومشاهدة الصدق والإشفاق وصفاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقبول ما أتى به قولا وعملا ونية
وصفاه للمؤمنين بكف الأذى وإيصال النفع
وأما معنى قوله وصلب فمعناه قوي في إقامة الحدود لله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقوله ورق فالرقة على وجهين رقة بالبكاء ورقة بالرأفة
وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

- نصيحة للسالكين الطريق إلى الله

باب الوصية للمريدين
قال الأستاذ الإمام: لما اثبتنا طرفاً من سير القوم، وضممنا إلى ذلك أبواباً من المقامات، أردناأن نختم هذا الرسالة بوصية للمريدين، نرجو من الله تعالى حسن توفيقهم لاستعمالها، وأن لا يحرمنا القيام بها، وأن لا يجعلها - سبحانه - حجة علينا.
فول قدم للمريد في هذه الطريقة ينبغي أن يكون على الصدق، ليصح له البناءُ على أصل صحيح؛ فإن الشيوخ قالوا: إنما حُرموا الوصول لتضييعهم الأصول..
كذلك سمعت الأستاذ أبا علي يقول؛ فتجب البداية بتصحيح اعتقاد بينه وبين الله تعالى، صاف عن الظنون والشبه، خال من الضلالة والبدع، صادر عن البراهين والحجج.
ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة.
وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين، سوى طريقة الصوفية، إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة؛ فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب.
والناس: إمَّا أصحاب النقل والأثر، وما أرباب العقل والفِكر.
وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة؛ فالذي للناس غيب، فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه، موجوج، فهم أهل الوصال، والناسً أهل الاستدلال.
وهم كما قال القائل:
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامُه في الناس ساري
فالناس في سلدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
ولم يكن عصر ن الأعصار في مدة الإسلام إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة، ممن له علوم التوحيد، وإمامة القوم إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا وتبركوا به..
ولولا مزية، وخصوصية لهم، وإلا كان الأمر بالعكس..
هذا أحمد بن حنبل كان عند الشافعي، رضي الله عنهما، فجاء شيبان الراعي فقال أحمد: أريد يا ابا عبد الله أن أُنبِّه هذا على نقصان علمه، ليشتغل بتحصيل بعض العلوم.
فقال الشافعي: لا تفعل!! فلم يقنع؛ فقال لشيبان: ما تقول فيمن نسي صلاة من خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يدري أي صلاة نسيها، ما الواجب عليه: يا شيبان؟! فقال شيبان: يا أحمد، هذا قلب غفل عن الله تعالى، فالواجب أن يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه بعدُ!! فغشي على أحمد.. فلما أفاق، قال له الإمام الشافعي، رحمه الله: ألم أقل لك لا تحرك هذا!!
وشيبان الراعي كان أمياً منهم، فإذا كان حالُ الأمي منهم هكذا، فما الظنُّ بأئمتهم؟؟ وقد حكي أن فقيهاً من أكابر الفقهاء كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان يقال لذلك الفقيه أبو مران وكان تتعطل عليهم حلقتهم لكلام الشبلي.
فسأل اصحابُ أبي عمران يوماً الشبلي عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجال!! فذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها..
فقام أبو عمران وقبل رأس الشبليّ، وقال: يا أبا بكر، استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاثة أقاويل.
وقيل: اجتاز أبو العباس بن سريج الفقيه بمجلس الجنيد، رحمهما الله، فسمع كلامه، فقيل له: ما تقول في هذا الكلام؟ فقال: لا أدري ما يقول.. ولكني أرى لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل.
وقيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب: أنت تتكلم على كلام كل أحد، وهاهنا رجل يقال له الجني، فانظر هل تعترض عليه أم لا؟ فحضر حلقته..
فسأل الجنيدَ عن التوحيد فأجابه، فتحيّر عبد الله وقال: أعد عليّ ما قلت؟.
فأعاده ولكن لا بتلك العبارة.
فقال له عبد الله: هذا شيء آخر لم أحفظ، تعيده عليّ مرة أخرى..
فأعاد بعبارة أخرى، فقال عبد الله: ليس يمكنني حفظ ما تقول!! أمْلِه علينا، فقال: إن كنت أجزته فأنا أمليه، فقام عبد الله، وقال بفضله، واعترف بعلوَ شأنه.
فإذا كان أصول هذه الطائفة أصحَّ الأصول، ومشايخُهم أكبرَ الناس، وعلماؤهم أعلمَ الناس، فالمريد الذي له إيمان بهم: إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقاصدهم فهو يساهمهم فيما خُصوا به من مكاشفات الغيب، فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة، وإن كان مريداً طريقةَ الاتباع وليس بمستقبل بحاله، يريد أن يعرج في أوطان التقليد إلى أن يصل إلى التحقيق فليقلد سلَفَه، وليجر على طريقة هذه الطبقة؛ فإنهم أولى به من غيرهم.
ولقد سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: ما ظنك بعِلمَ عِلم العلماءُ فيه تهمة!! وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي بن محمد المخرمي يقول: سمعت محمد ابن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: لو علمت أن لله عِلْماً تحت أديم السماء اشرفُ من هذا العلم الذي نتكلم فيه ما أصحابنا وإخواننا لسعيت إليه، ولقصدته.
وإذا أحكم المريد بينه وبين الله عقده، فيجب أن يحصل من علم الشريعة، إما بالتحقيق، وإما بالسؤال عن الأئمة ما يؤدي به فَرْضَه، وإن اختلف عليه فتاوى الفقهاء يأخذُ بالأحوط، ويقصد الخروج من الخلاف، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال.
وهؤلاء الطائفة ليس لهم شغل سوى القيام بحقِّه سبحانه، ولهذا قيل: إذا انحظ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رُخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله، ونقض عهده فيما بينه وبين الله تعالى.
ثم يجب على المريد أن يتأدَّب بشيخ؛ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً.
هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان.
وسمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غراس فإنها تورق، ولكن لا تُثمر؛ كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً نفساً فهو عابد هواه، لا يجد نفاذاً.
ثم إذا أراد السلوكَ فبعد هذه الجملة يجب أن يتوب إلى الله سبحانه من كل زلة؛ فيدع جميع الزلات: سرها وجهرها، صغيرها وكبيرها، ويجتهد في إرضاء الخصوم أولاً، ولم يُرض خصومَه، لا يفتح له من هذه الطريقة بشيء.
وعلى هذا النحو جروا، ثم بعد هذا يعمل في حذف العلائق والشواغل؛ فإن بناء هذا الطريق على فارغ القلب.
وكان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة الثانية التي تأتيني فيها غيرَ الله تعالى فحرام عليك أن تحضرني.
وإذا أراد الخروج عن العلائق فأولها: الخروج عن المال؛ فإن ذلك الذي يميل به عن الحق، ولم يوجد مريدٌ دخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج، فإذا خرج عن المال، فالواجب عليه الخروجُ عن الجاه، فإن ملاحظة حب الجاه مقطعة عظيمة.
وما لم يستو عند المريد قبول الخلق وردهم لا يجيء منه شيء، بل اضرُّ الأشياء له ملاحظة الناس إياه بعين الإثبات والتبرُّك به لإفلاس الناس عن هذا الحديث، وهو بعد لم يصحح الإرادة، فكيف يصح أن يتبرك به؟! فخروجهم من الجاه واجب عليهم؛ لأن ذلك سم قاتل لهم، فإذا خرج عن ماله وجاهه فيجب أن يصحح عقده بينه وبين الله تعالى، وأن لا يخالف شيخه في كلِّ ما يشير عليه: لأن الخلاف للمريد في ابتداء امره عظيم الضرر؛ لأن ابتداء حاله دليل على جميع عمره.
ومن شرطه: أن لا يكون له بقلبه اعتراض على شيخه، فإذا خطر ببال المريد أن له في الدنيا والآخرة قدراً أو قيمة، أو على بسيط الأرض أحد دونه لم يصح له في الإرادة قدم، لأنه يجب أن يجتهد، ليعرف ربه، لا ليحصل لنفسه قدراً.
وفرق بين من يريد الله تعالى وبين من يريد جاه نفسه، إما عاجله وإما، آجله، ثم يجب عليه حفظ سره حى عن زِره إلا عن شيخه، ولو كنتم نفساً من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته، ولو وقعت له مخالفة فيما شار علي شيخه، فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت، ثم يستسلم لما يحكم به عليه شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته، إما بسفر يُكلفه، أو أمر ما يراه.
ولا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى، وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخ أن يلقنه شيئاً من الأذكار، بل يجب أن يقدم التجربة له، فإذ شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحيئذ يشترط عليه أن يرضي بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضرر والذل، والفقر والأسقام والآلام، وأن لا ينجح بقلبه إلى السهولة، ولا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات، ولا يؤثر الدعة، ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شر من فترته.
والفرق بين الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل.
وكان مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء.
فإذا جر به شيخه، فيجب عليه أن يلقنه ذكراً من الأذكار على ما يراه شيخه فيأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه، ثم يأمره أن يستوي قلبه مع لسانه، فيقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبداً بقلبك، ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك ثم يأمره أن يكون أبداً في الظاهر على الطهارة، وأن لا يكون نومه إلا غلبة، وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء حتى يقوى على ذلك، ولا يأمره أن يترك عادته بمرة، فإن في الخبر: " إنَّ المنبتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " .
ثم يأمره بإيثار الخلوة والعزلة، ويجعل اجتهاده في هذه الحالة لا محالة في نفي الخواطر الدنية والهواجس الشاغلة للقلب.
واعلم، أن في هذه الحالة قلما يخلوا المريد في أوان خلوته في ابتداء إرادته من الوساوس في الاعتقاد، لا سيما إذا كان في المري كياسة قلب، وقلَّ مريدٌ لا تستقبله هذه الحالة في ابتداء إرادته.
وهذه من الامتحانات التي تستقبل المريدين، فالواجب على شيخه إن رأى فيه كياسة، أن يحيله على الحجج العقلية، فإن بالعلم يتخلص لا محالة المتعرف مما يعتريه من الوساوس.
وإن تفرس شيخه فيه القوة والثبات في الطريقة أمره بالصبر واستدامة الذكر حتى تسطع في قلبه أنوار القبول، وتطلع في سره شموس الوصول، وعن قريب يكون ذلك.
ولكن لا يكون هذا إلا لأفراد المريدين، فأما الغالب فأن تكون معالجتهم بالرد إلى النظر، وتأمل الآيات بشرط تحصيل علم الأصول على قدر الحاجة الداعية للمريد.
واعلم أنه يكون للمريدين على الخصوص بلايا من هذا الباب، وذلك أنهم إذا خلوا في مواضع ذكرهم، أن يكونوا في مجالس سماع، أو غير ذلك فيهجس في نفسه ويخطر، ببالهم أشياء منكرة، يتحققون أن الله، سبحانه، منزه عن ذلك، وليس تعتريهم شبهة في أن ذلك باطل، ولكن يدوم ذلك، فيشتد تأذيهم به، حتى يبلغ ذلك حداً يكون أصعب شتم وأقبح قول وأشنع خاطر، بحيث لا يمكن للمريد إجراء ذلك على اللسان، وإبداؤ لأحد، وهذا أشد شيء يقع لهم.
فالواجب عند هذا ترك مبالاتهم بتك الخواطر، واستدامة الذكر، والابتهال إلى الله باستدفاع ذلك.
وتلك الخواطر ليست من وساوس الشيطان، وإنما هي من هواجس النفس، فإذا قابلها للعبد بترك المبالاة بها ينقطع ذلك عنه.
ومن آداب المريد، بل من فرائض حاله، أن يلازم موضع إرادته، وأن لا يسافر قبل أن تقبله الطريق، وقبل الوصول بالقلب إلى الرب، فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل، ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته.
وإذا أراد الله بمريد خيراً ثبته في اول رادته، وإذا أراد الله بمريد شراً رَده إلى ما خرج عنه من حرفته أو حالته، وإذا أراد الله بمريد محنة شرَّده في مطارح غربته.
هذا إذا كان المريد يصلح للوصول: فأما إذا كان شاباً طريقته الخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء، وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة، فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر، فينقطعون في الأسفار. وغية نصيبهم من هذه الطريقة حِجَّات يحصلونها، وزيارات لموضع يُرتحل إليه، ولقاء شيوخ بظاهر سلام، فيشاهدون الظواهر، ويكتفون بما في هذا الباب من السير، فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر، حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة.
وإذا توسط المريد جمع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جداً، فإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيوخ، والخدمة للأصحاب، وترك الخلاف عليهم،والقيام بما فيه راحة الفقير، والجهد في أن لايستوحش منه قلب شيخ.
ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبداً خصمهم على نفسه، ولا يكون خصم نفسه عليهم، ويرى لكل واحد منهم عليه حقاً واجباً، ولا يرى لنفسه واجباً على أحد.
ويجب أن لا يخالف المريد أحداً، وإن علم أن الحق معه يسكت، ويُظهر الوفاق لكل أحد.
وكل مريد يكون فيه ضحك ولجاج ومماراة فإنه لا يجيى منه شيء!! وإذا كان المريد في جمع من الفقراء، إما في سفر أو حضر، فينبغي أن لا يخالفهم في الظاهر، لا في أكل ولا صوم ولا سكون ولا حركة، بل يخالفهم بسره وقلبه، فيحفظ قلبه مع الله عزَّ وجلَّ، وإذا أشاروا عليه بالأكل، مثلاً، يأكل لقمة أو لقمتين، ولا يعطى نفس شهوتها.
وليس من آداب المريدين كثرة الأوراد في الظاهر، فإن القوم في مكابدة إخلاء خواطرهم، ومعالجة أخلاقهم، ونفى الغفلة عن قلوبهم، لا في تكثير أعمال البر. والذي لابد لهم منه إقامة الفرائض والسنن الراتبة.
فأما الزيادة من الصلوات النافلة فاستدامة الذكر بالقلب أتم لهم.
ورأس مال المريد: الاحتمال عن كل أحد، بطيبة النفس، وتلقي ما يستقبله بالرضا، والصبر على الضر والفقر، وترك السؤال والعارضة في القليل ولكثير فيما هو حظ له.
ومن لم يصبر على ذلك فليدخل السوق، فإن من اشتهى من يشتهيه الناس، فالواجب أن يحصل شهوته من حيث يحصلها الناس: من كد اليمين، وعرق الجبين...
وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لم يجده قبله إما في النوم وإما في اليقظة، أو بين اليقظ. والنوم من خطاب يًسمْع، أو معنى يُشاهد مما يكون نقضاً للعادة، فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة، ولا يسكن إليه، ولا ينبغي له أن ينتظر حصول أمثال ذلك، فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه.
ولابد له في هذه الأحوال من وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه فارغاً عن ذلك.
ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره، فيكتم عن غيره أمره، ويصغر ذلك في عينه، فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر، فليحظر المريد عن ذلك، وعن ملاحظتها، وليجعل همته فوق ذلك.
واعلم أن أضر الأشياء بالمريد: استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له، ومنته عليه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك، فإنه لو قال بترك هذا فعن قريب سيختطف عن ذلك مما يبدو له من مكاشفات الحقيقة.
وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعذر.
ومن أكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين، ثم يقيم عليه، ولا يبرح عن سدّته إلى وقت الإذن.
واعلم أن تقديم معرفة رب البيت - سبحانه - على زيارة البيت واجب، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت، والشبان الذين يخرجون إلى الحج ثم زيارة البيت من هؤلاء القوم من غير إشارة إلى الشيوخ فهي بدلالات نشاط النفوس، فهم متوسمون بهذه الطريقة، وليس سفرهم على أصل.
والذي يدل على ذلك: أنه لا يزداد سفرهم إلا وتزداد تفرقة قلوبهم، فلو أنهم ارتحلوا من عند أنفسهم بخطوة لكان أحظة لهم من ألف سفرة.
ومن شرط المريد إذا زار شخصاً أن يدخل عليه بالحرمة، وينظر إليه بالحشمة، فإن أهله الشيخ لشيء من الخدمة عدّ ذلك من جزيل النعمة.

- الجزء الثالث من شرح مقامات الطريق إلى الله

باب التصوف
الصفاء محمود بكل لسان، وضدّه: الكدورة؛ وهي مذمومة.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا عبد الله بن يحيى الطلحي قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن نوفل قال: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: " ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم " .
ثم هذه التسمية غلبت علي هذه الطائفة؛ فيقال: رجلٌ صوفي، وللجماعة صوفيَّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب، فأما قول من قال: إنه من الصوف، ولهذا يقال: تَصوَّف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه. ولكن القوم لم يختصوا بلبس: الصوف!! ومن قال: إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيدٌ في مقتضى الله.
وقول من قال: إنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق.
وتكلم الناس في التصوف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلُّ عبر بما وقع له. واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه على حدِّ التلويح، إن شاء الله تعالى.
سمعت محمد بن أحمد بن يحيى الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: الدخول في كل خلق مني والخروج من كل خلق دنيّ.
سمعت عبد الرحمن بن يسوف الأصبهاني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عمار الهمداني يقول: سمعت أبا محمد المرعشي يقول: سئل شيخي عن التصوف، فقال: سمت الجنيد وقد سئل عنه فقال: هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الفارسي يقول: سمعت أبا الفانك يقول: سمعت الحسين بن منصور، وقد سئل عن الصوفي، فقال: وحداني الذات لا يقبله أحد، ولا يقبل أحداً.
وسمعته يقول: سمت عبد الله بن محمد يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا علي الوراق يقول: سمعت أبا حمزة البغدادي يقول: علامة الصوفي الصادق: أن يفتقر بعد الغني، ويذلّ بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب: أن يستغني بالدنيا بعد الفقر، ويعز بعد الذلّ، ويشتهر بعد الخلفاء.
وسُئل عمرو بن عثمان المكيّ عن التصوفَّ، فقال: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت.
وقال محمد بن علي القصاب: التصوّف: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام.
وسئل سمنون عن التصوف فقال: أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء.
وسئل رويمٌ عن التصوف فقال: استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.
وسئل الجنيد عن التصوف فقال: هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السَّرَّاج الطوسي يقول: أخبرني محمد بن الفضل قال: سمعت عليّ بن عبد الرحيم الواسطي يقول: سمعت رويم بن أحمد البغدادي يقولُ: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار إلى الله، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
وقال معروف الكرخي: التصوف: الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق.
قال حمدون القصار: اصحب الصوفية؛ فإن للقبيح عندهم وجوهاً من المعاذير.
وسُئل الخراز عن أهل التصوف فقال: قوم أعطوا حتى بسطوا، ومنعوا حتى فقدوا، ثم نودوا من أسرار قريبة ألا فابكوا علينا.
وقال الجنيد: التصوف: عنوة لا صلح فيها.
وقال أيضاً: هم أهل بيت واحد، لايدخل فيهم غيرهمُ.
وقال أيضا: التصوف: ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.
وقال أيضاً: الصوفيَّ كالأرض، يُطرح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كلُّ مليح.
وقال أيضاً: إله كالأرض؛ يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء وكالقطر يسقى كل شيء.
وقال: إذا رأيت الصوفي يعني بظاهره، فاعلم أن باطنه خراب.
وقال سهل بن عبد الله: الصوفي: من يرى دمه هدراً، وملكه مباحاً.
وقال النوري: نعت الصوفي السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود.
وقال الكناني: التصوف خُلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء.
وقال أبو علي الروذباري التصوف: الإناخة على باب الحبيب ون طرد عنه.
وقال أيضاً: صفوة القرب بعد كدورة البعد.
وقيل أقبح من كل قبيح صوفي شحسح.
وقيل: التصوف: كف فارغ، وقلب طيب.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي: هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي:هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق؛ كقوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " قطعه عن كل غير، ثم قال له: " لن تراني " .
وقال: الصوفية أطفالٌ في حجر الحق.
وقال أيضاً: التصوف برقة محرقةٌ.
وقال أيضاً: هو العصمة عن رؤية الكون.
وقال رويم: ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم.
وقال الجريري: التصوف مراقبة الأحوال، ورومُ الأدب.
وقال المزين: التصوف: الانقياد للحق.
وقال أبو تراب النخشبي: الصوفي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء.
وقيل: الصوفي لا يتعبه طلب، ولا يزعجه سبب.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ذو النون المصري عن أهل التصوف فقال: هم قوم آثروا الله، عز وجل، على كل شيء فآثرهم الله، عز وجل، على كل شيء.
وقال الواسطي رحمه الله: كان للقوم إشارات.. ثم صارت حركات.. ثم لم يبق إلا حسرات!! وسئل النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب.
سمعت أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: قلت للحصري: من الصوفي عندك؟ فقال: الذي لا نقله الأرض، ولا تظله السماء.
قال الأستاذ أبو القاسم: إنما أشار إلى حل المحو.
وقيل: الصوفي من إذا استقبله حالان، أو خُلقان كلاهما حسن، كان مع الأحسن منهما.
وسئل الشبلي: لم سميت الصوفية بهذه التسمية؟.
فقال: لبقية بقيت عليهم من نفوسهم؛ ولولا ذلك لما تعلقت بهم تسمية.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: ما معنى قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب، وكان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان يسمى صوفيَّاً.
وقال بعضهم: التصوف: إسقاط الجاهِ، وسوادِ الوجه في الدنيا والآخرة.
وقال أبو يعقوب المزايلي: التصوف: حال تضمحل فيها معالم الإنسانية.
وقال أبو الحسن السبرواني: الصوفي: من يكون مع الواردات لا مع الأوراد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: أحسن ما قيل في هذا باب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم مزابل؛ ولهذا قال رحمه الله يوماً: لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها على كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها.
وقال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: التصوف: الإعراض عن الاعتراض.
وقال الحصري: الصوفي لا يود بعد علمه؛ ولا يُعدَم بعد وجوده.
قال الأستاذ القشيري: وهذا فيه إشكال. ومعنى قوله: لا يوجد بعد عدمه أي إذا فنيت آفاته لا نعود تلك الأفات. وقوله: ولايعدم بعد وجوده، معنى:إذا اشتغل بالحق لم يسقط بسقوط الخلق، فالحادثات لا تؤثر فيه.
ويقال: الصوفي: المصطلم عنه بما لاح له من الحق.
ويقال: الصوفي: مقهور بتصريف الربوبية. مستور بتصرف العبودية.
ويقال: الصوفي لا يتغير، فإن تغير لا يتكدر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا بكر المصري يقول: سمعت الخرَّاز يقول: كنت في جامع قيروان يوم الجمعة، فرأيت رجلاً يدور في الصف ويقول.
تصدَّقوا عليَّ؛ فقد كنت صوفياً فضعنت..
فرفقته بشيء. فقال لي. مر، ويلك!! ليس هذا من ذلك!!. ولم يقبل الرفق.
باب الأدب

قال الله عزَّ وجلَّ: " مازاغ البصر وما طغى " .
قيل: حفظ آداب الحضرة.
وقال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم ناراً " . جاء في التفسير عن ابن عباس: فقهوهم، وأدبوهم.
أخبرنا: عليّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري قال: حدثنا غنام قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال: حدثنا عبد الملك ابن الحسين، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن شيبة، عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حقّ الولد على والده: أن يسحن اسمه، ويحسن مرضعه، ويحسن أدبه " .
ويحكى عن سعيد بن المسيب أنه قال: من ل يعرف ما لله عزّ وجلّ، عليه في نفسه، ولم يتأدب بأمره ونهيه كان من الأدب في عزلة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: " إن الله، عزّ وجلّ، أدبني فأحسن تأديبي " .
وحقيقة الأدب: اجتماع جميع خصال الخير؛ فالأديب: هو الذي اجتمع فيه خصال الخير ومنه أخذت المأدبة اسم للمجمع.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: العبد يصل بطاعته إلى الجنة، وبأدبه في طاعته إلى الله.
وسمعته أيضاً يقول: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة بين يدي الله إلى أنفه، ليزيل ما به، فقبض على يده.
وكان الأستاذ أبو علي، رحمه الله، لا يستند إلى شيء، وكان يوماً في مجمع، فأردت أن أضع وسادة خلف ظهره؛ لأني رأيته غير مستند.. فتنحى عن الوسادة قليلاً.. فتوهمت أنه توقى الوسادة، لأنه لم يكن عليها خرقة أبو سجادة، فقال لا أريد الاستناد.
فتأملت بعده حاله؛ فكان لا يستند إلى شيء.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت أحمد بن محمد البصري يقول: سمعت الجلالي البصري يقول: التوحيد موجب يوجب الإيمان؛ فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة؛ فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجب يوجب الأدب؛ فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولاتوحيد.
وقال ابن عطاء: الأدب: الوقوف مع المحسنات، فقيل: وما معناه؟ قال: أن تعامل الله بالأدب سراً وعلناً؛ فغذا كنت كذلك كنت أديباً وإن كنت أعجمياً.
ثم أنشد:
إذا نطقت جاءت بكل ملاحةٍ ... وإن سكتت جاءت بكل مليح
أخبرنا. محمد بن الحسين، قال: سمعت عبد الله الرازيّ يقول: سمعت عبد الله الجريري يقول: منذ عشرين سنة ما مددت رجلي وقت جلوسي في الخلوة فإن حُسن الأدب مع الله أولى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من صاحب الملوك بغير أجب أسلمه الجهل إلى القتل.
وروي عن أبن سيرين أنه سئل: أيَّ الآداب أقرب إلى الله تعالى؟ فقال: معرفة بربو بيته، وعملٌ بطاعته، والحمد لله على السراء، والصبر على الضراء.
وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.
سمعت الأستاذ أبا علي رحمه الله، يقول: ترك الأدب موجب يوجب الطرد؛ فمن أساء الأدب على البساط ر إلى الباب، ومن أساء الأدب علي الباب ردّ إلى سياسة الدواب.
وقيل للحسن البصري: قد أكثر الناس فيعلم الآدب، فما أنفعها عاجلاً وأوصلها آجلاً؟ فقال: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله، عز وجل عليك.
وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله تعالى صار من أهل محبة الله تعالى.
وقال سهل: القوم الذين استعانوا بالله، على أمر الله، وصبروا على آداب الله.
وروي عن أبن المبارك أنه قال: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منَّا إلى كثير من العلم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قال الوليد بن عتبة: قال: ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤديون: وقيل: ثلاث خصال ليس معهن غُربة: مجانبةُ أهل الرِّيب، وحسن الأدب.وكف الأذى: وأنشدنا الشيخ أبو عبد الله المغربي، رضي الله عنه، في هذا المعنى:
يزين الغريبَ إذا ما اغترب ... ثلاث: فمنهن حسنُ الأدب
وثانيه: حسن أخلاقه ... وثالثه. اجتناب الرِّيب
ولما دخل أبو حفص بغداد قال له الجنيد: لقد أذبت أصحابك أدب السلاطين.
فقال له أبو حفص: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن.
وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف.
سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: قيل لبعضهم: ياسيء الأدب.
فقال: لست بسيء الأدب، فقيل له: من أدّبك؟ فقال: أدَّبني الصوفية سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا النصر الطوسي السراج يقول: الناس في الأدب علي ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسماء الملوك وأشعار العرب.
وأما أهل الدين فأكثرهم آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات.
وأما أهل الخصوصية فأكثر آدابهم في طهارة القلوب ومراعات الأسرار والوفاء وبالعهود وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسنُ الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب.
وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال: من قهر نفسه بالآدب فهو يعبد الله بالإخلاص.
وقيل: كمال الأدب لا يصفو إلا للأنبياء والصديقين.
وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس في الأدب، ونحن نقول: هو معرفة النفس.
وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق سبحانه ترك الأدب.
وقال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب؛ لأن معروفة مؤدب قلبه.
وقال بعضهم: يقول الحق، سبحانه: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فأختر أيهما شئت: الأدب أو العطب.
وقيل: مدّ ابن عطاء رجله يوماً بين أصحابه وقال: ترك الأدب بين أهل الأدب أدب.
ويشهد لهذه الحكاية الخبر الذي روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أبو بكر، وعمر، فدخل عثمان فغطى فخذه وقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " نبه صلى الله عليه وسلم: أن حشمة عثمان، رضي الله عنه، وإن عظمت عنده، فالحالة التي بينه وبين أبي بكر وعمر كانت أصفى.
وفي قريب من معناه أنشدوا:
فيّ أنقاض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غيرَ محتشم
وقال الجنيد: إذا صحت المحبَّة سقطت شروط الأدب.
وقال أبو عثمان: إذا صحت المحبة تأكد علي المحب ملازمة الأدب.
وقال النوري: من لم يتأدب للوقت فوقته المقت.
وقال ذو النون المصري: إذا خرج المريج عن استعمال الأدب، فإنه يرجع عن حيث جاء.
سمعت الأستاذ أبا علي. رحمه الله، يقول في قوله عزَّ وجلَّ: وأيوب إذ نادى ربَّه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين " قال: لم يقل ارحمني لنه حفظ آداب الخطاب.
وكذلك عيسى عليه السلام حيث قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " ، وقال: " إن كنت قلته فقد علمته " ولم يقل: لم أقل؛ رعاية لآداب الحضرة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الطيب بن الفرحان يقول: سمعت الجنيد يقول: جاءني بعض الصالحين يوم جمعة فقال لي: أبعث معي فقيراً يُدخل عليّ سروراً، ويأكل معي شيئاً؛ فالتفت، فإذا أنا بفقير شهدتُ فيه الفاقة.. فدعوته.. وقلت له: امض مع هذا الشيخ وأدخل عليه سروراً، فلم ألبث أن جاءني الرجل فقال لي: يا أبا القاسم لم يأكل ذلك الرجل الفقير إلا لقمة، وخرج!! فقتل: لعلك قلت كلمة جفاء عليه، فقال لي: لم أقل شيئاً.
فالتفت فإذا أنا بالفقير جالس، فقلت له: لمّ لمْ تتم عليه السرور؟ فقال: يا سيدي، خرجت من الكوفة وقدمت بغداد ولم آكل شيئاً.. وكرهت أن يبدو سوء أدب مني من جهة الفاقة في حضرتك.. فلما دعوتني سررتُ إذ جرى ذلك ابتداء منك، فمضيتُ وأنا لا أرضى له الجنان... فلما جلست على مائدته سوى لقمة وقال لي: كل، فهذا أحب إليّ من عشرة آلاف درهم. فلما سمعت هذا منه علمت أنه دنيء الهمة، فتطرفت أن آكل طعامه، فقال الجنيد: ألم أقل لك إنك أسأت أدبك معه، فقال: يا أبا القاسم.. التوبةَ، فسأله أني مضي معه ويفرحه.
باب أحكامهم في السفر

قال الله عزّ وجلّ: " هو الذي يسيركم في البر والبحر.. " الآية.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو أزبير: أن عليًّا الأزدي أخبره: أن ابن عمر أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على البعير خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، ثم قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا. وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا.
اللهمَّ أنت الصاحب في السفر والخيفة في الأهل.. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في المال والأهل، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: " آيبون.. تائبون.. لربنا حامدون " .
ولما كان رأى كثير من أهل هذه الطائفة أختيارُ السفر أردنا لذكر السَّفر في هذه الرسالة بابا؛ لكونه من أعظم شأنهم، وهذه الطائفة مختلفون: فمنهم من آثر الإقامة على السفر، ولم يسافر غلا لفرض، كحجة الإسلام، والغالب عليهم الإقامة، مثل: الجنيد، وسهل بن عبد الله، وأبي يزيد البسطامي، وأبي حفص، وغيرهم.
ومنهم من آثر السفر، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا في ابتداء أمورهم في حال شبابهم أسفاراً كثيرة ثم قعدوا عن السفر في آخر أحوالهم، مثل: أبي عثمان الحيري، والشبلي، وغيرهم، ولكل منهم أصول بنوا عليها طريقتهم.
واعلم أن السفر على قسمين: سفر بالبدن: وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة.
وسفر بالقلب: وهو الارتقاء من صفة إلى صفة؛ فترى ألفاً يسافر بنفسه وقليل من يسافر بقلبه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: كان بفَرَحك. قرية بظاهر نيسابور شيخ من شيوخ هذه الطائفة، وله على هذا اللسان تصانيف، سأله بعض الناس: هل سافرت أيها الشيخ؟ فقال: سفر الأرض أم سفر السماء؟ سفر الأرض لا. وسفر السماء، بلى.
وسمعته، رحمه الله، يقول: جاءني بعض الفقراء يوماً، وأنا بمرو، فقال لي: قطعت إليك شقة بعيدة، والمقصود لقاؤك.
فقتل له: كان يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عن نفسك.
وحكاياتهم في السفر تختلف عن ما ذكرنا من أقسامهم وأحوالهم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أحنف الهمذاني يقول: كنت في البادية وحدي، فأعييتُ، فرفعت يدي وقلت: يارب، إني ضعيف زمن، وقد جئت إلى ضيافتك، فوقع في قلبي أن يقال لي: من دعاك؟ فقلت يا رب هي مملكة تحتمل الطفيلي.. فإذا أنا بهاتف من ورائي.. فالتفت إليه فإذا أعرابي على راحلة، فقال: يا أعجمي، إلى أين؟.. قلت: إلى مكة، قال: أو دعاك؟ قلت: لا أدري، فقال: أليس قال: " من أستطاع إليه سبيلاً " ؟ فقلت: المملكة واسعة تحتمل الطفيلي، فقال: نِعم الطفيلي أنت، يمكنك أن تخدم الجمل؟ قلت: نعم، فنزل عن راحلته وأعطانيها، وقال: سر عليها.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الكتاني يقول؛ وقد قال له بعض الفقراء: أوصني: أوصني، فقال: اجتهد أن تكون كل ليلة ضيف مسجد، وأن لا تموت إلا بين منزلين.
ويحكى عن الحصري أنه كان يقول: جلسة خير من ألف حجة.
وإنما أراد جلسة تجمع الهمَّ على نعت الشهود.
ولمري، إنها أتمُّ من ألف حجة، على وصف الغيبة عنه.
سمعت محمد بن أحمد الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت علي بن عبد الله التميمي يقول: حكى عن محمد بن إسماعيل الفرغاني أنه قال: كنا نسافر مقدار عشرين سنة أنا وأبو بكر الزقاق، والكتاني، لا نختلط بأحد، ولا نعاشر أحداً، فإذا قدمنا بلداً؛ فإن كان فيه شيخ سلمنا عليه، وجالسناه إلى الليل.. ثم نرجع إلى مسجد، فيصلى الكتاني من أول الليل إلى آخره ويختم القرآن؛ ويجلس الزقاق مستقبل القبلة؛ وكت استلقي متفكراً، ثم نصبح ونصلي صلاة الفجر على وضوء العتمة، فإذا وقع معنا إنسان ينام كنا نراه أفضلنا.
سمعت محمد بن الحسين، رحمهالله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت عيسى القصار يقول: سئل رويم عن أدب السفر. فقال: أن لايجاوز همه قدمه؛ وحيثما وقف قلبه يكون منزله.
وحكى عنمالك بن دينار أنه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتخذ نعلين من حديد، وعصاً من حديد، ثم سِحْ في الأرض، فاطلب الآثار والعبر، حتى تنخرق النعلان وتنسكر العصا.
وقيل: كان أبو عبد الله المغربي يسافر أبداً ومعه أصحابه، وكان يكون محرماً: فإذا تحلل من إحرامه ثانياً، ولم يتسخ له ثوب، ولا طال له ظفر ولا شعر.
وكان يمشي معه أصحابه بالليل وراءه.فكان إذا حاد أحدهم عن الطريق، يقول: يمينك يا فلان. يسارك يا فلان، وكان لا يمد يده إلى ما وصلت إليه يد الآدميين، وكان طعامه أصل شيء من النبات يؤخذ فيُقلع لأجله.
وفي معناه أنشدوا:
إذا استسجدوا لم يسالوا عن دعاهم ... لأية حرب أم لأيَّ مكان
وحكي عن أبي علي الرباطي قال: صحبت عبد الله المروزي، وكان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد ولا راحلة. فلما صحبته، قال لي: أيما أحبُّ إليك، أن تكون أنت الأمر أم أنا؟ فقلت: لا، بل أنت؛ فقال: وعليك الطاعة؟ فقلت: نعم.
فأخذ مخلاة، ووضع فيها زاداً، وحملها على ظهره، فإذا قلت: أعطني حتى أحملها.
قال: الأمير أنا وعليك الطاعة.
قال: فأخذنا المطر ليلة.. فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عني المطر، فكنت أقول في نفسي: يا ليتني متُّ ولم أقل له أنت الأمير.
ثم قال لي: إذا صحبت إنساناً فاصحبه كما رأيتني صحبتك.
وقد شاب علي أبي عليِّ الروذباري، فلما أراد الخروج، قال: يقول الشيخ شيئاً، فقال: يا فتى كانوا لا يجتمعون عن موعد، ولا يتفرقون عن مشورة.
وعن المزين الكبير قال: كنت يوماً مع إبراهيم الخواص في بعض اسفاره، فإذا عقرب تسعى على فخذه، فقمت لأقتلها، فمنعني وقال: دعها. كلُّ شيء مفتقر إلينا. ولسنا مفتقرين إلى شيء.
وقال أبو عبد الله النصبيني: سافرت ثلاثين سنة ما خطت قط خرقة على مرقعتي، ولا عدلت إلى موضع علمت أن لي فيه رفيقاً، ولا تركت أحداً يحمل معي شيئاً.
واعلموا أن القوم استوقوا آداب الحضور من المجاهدات، ثم أرادوا أن يضيفوا إليها شيئاً، فاضافوا أحكام السفر إلى ذلك؛ رياضة لنفوسهم، حتى أخرجوها عن المعلومات، وحمروها على مفارقة المعارف، كي يعيشوا مع الله بلا علاقة ولا واسطة، فلم يتركوا شيئاً من أورادهم في أسفارهم.
وقالو: الرُّخص لمن كان سفره ضرورة، ونحن لا شغل لنا ولا ضرورة في أسفارنا علينا.
سمعت أبا صادق بن حبيب قال: سمعت النصراباذي يقول: ضعفت في البادية مرة، فأيست من نفسي، فوقع بصري على القمر، وكان ذلك بالنهار، فرأيت مكتوباً عيه: فسيكفيكهم الله فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع إليه مرة أخرى يأمر بهجرانه؛ وإنماكان يفعل ذلك؛ لأنهم كانوا يسافرون إلى اليمن ذلك الوقت لأجل الرفق.
وقيل: كان إبراهيم الخواص لا يحمل شيئاً في السفر، وكان لا يفارق الإبرة والركوة أما الأبرة فلخياطة ثوبه إن تمزق ستراً للعورة، وأما الركوة فللطهارة، وكان لا يرى ذلك علاقة ولا معلوماً.
وحكي عن أبي عبد الله الرازي قال: خرجت من طرسوس حافياً، وكان معي رفيق، فدخلنا بعض قرى الشام، فجاءني فقير بحذاء فامتنعت من قبوله؛ فقال لي رفيق: البس هذا، فقد عييتُ، فإنه قد فتح عليك بهذا النعل بسببي. فقلت: مالك؟ فقال: نزعت نعلي موافقة لك، ورعاية لحق الصحبة.
وقيل: كان الخواص في سفر، ومعه ثلاثة نفر، فبلغوا مسجداً في بعض المفارز وباتوا فيه، ولم يكن عليه باب. وكان برد شديد فناموا، فلما أصبحوا رأوه واقفاً على الباب، فقالوا: له في ذلك فقال: خشيت أن تجدوا البرد.
وكان قد وقف طول ليلته.
وقيل: إن الكتاني استأذن أمه في الحج مرة فأذنت له، فخرج، فأصاب ثوبه البول في البادية، فقال: إن هذا لخلل في حالي، فانصرف. فلما دق باب داره أجابته أمه، ففتحت.. فرآها جالسة خلف الباب.. فسألها عن سبب جلوسها فقالت: مذ خرجت أعتقدت أن لا أبرح من هذا الموضع حتى أراك.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: سمعت إبراهيم القصار يقول: سافرت ثلاثين سنة أصلح قلوب الناس للفقراء.
وقيل: زار رجل داود الطائي فقال: يا أبا سليمان، كانت نفسي تنازعين إلى لقائك منذ زمان، فقال: لا بأس إذا كانت الأبدان هادئة والقلوب ساكنة فالتلاقي أيسر.
سمعت أبا نصر الصوفي، وكان من أصحاب النصرأباذي، يقول: خرجت من البحر بعمان وقد أثر فيّ الجوع، فكنت أمرّ في السوق.. فبلغت حانوت حلاوي.. فرأيت فيه حملاناً مشوية، وحلواء.. فتعلقت برجل وقلت: اشتر لي من هذه الأشياء.
فقال: لماذا؟ ألك عليّ شيء، أو عليّ دين؟ فقلت: لا بد أن تشتري لي من هذا.
فرآني رجل فقال: خله يا فتى إن الذي يجب عليه أن يشتري لك ما تريد أنا لا هو، اقترح علي، وأحكم بما تريد.
ثم اشترى لي ما أردتُ، ومضى.
وحكي عن أبي الحسين المصري قال: انفقت مع الشجري في السفر من طرابلس. فسرنا أياماً لم نأكل شيئاً،فرأيت قرعاً مطروحاً.. فأخذت آكله، فالتفت إليّ الشيخ ولم يقل شيئاً، فرميت به، وعلمت أنه كره ذلك.. ثم فتح علينا بخمسة دنانير.. فدخلنا قرية، فقتل: يشتري الشيخ لنا شيئاً لا محالة.
فمر.. ولم يفعل.. ثم قال: لعلك تقول نمشي جياعاً ولم يشتر لنا شيئاً، هو ذا. فوافى اليهودية قرية على الطريق، وثم رجلٌ صاحب عيال إذا دخلناها يشتغل بنا، فادفعها إليه؛ لينفقها علينا وعلى عياله.
فوصلنا إليه، ودفع الدنانير إلى الرجل فأنفقها، فلما خرجنا قال لي: إلى أين يا أبا الحسين؟ فقلت: أسير معك. فقال: لا، إنك تخونني في قرعة وتصحبني، لاتفعل وأبي أن أصحبه.
سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: كنت في حال حداثتي استقبلني بعض الفقراء.. فرأى فيّ أثر الضرّ والجوع، فأدخلني داره وقد لي لماً طبخ بالكشك واللحم متغير. فكنت آكل الثريد وأتجنب اللحم لتغيره فلقمني لقمة، فأكلتها بجهد.. ثم لقمني ثانية فبلغتني مشقة.. فرأى ذلك فيّ، وخجل، وخجلت لأجله، فخرجت وانزعجت في الحال للسفر.
فأرسلت إلى والدتي من يخبرها ويحمل إلي مرقعتي. فلم تعارضني الوالدة.. ورضيت بخروجي، فارتحلت من القادسية مع جماعة من الفقراء.. فهنا.. ونفذ ما كان معناه.. وأشرفنا على التلف، فوصلنا إلى حي من أحياء العرب، ولم نجد شيئاً فاضطررنا إلى أن أشترينا منهم كلبا بدنانير، وشووه، وأعطوني قطعة من لحمه.. فلما أردت أكله فكرت في حالي، فوقع لي أنه عقوبة خجل ذلك الفقير. فتبت في نفسي.. فدلونا على الطريق.. فمضيت.. وحججت.. ثم رجعت معتذراً إلى الفقير.
باب الصحبة

قال الله عزَّ وجلَّ: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
لما أثبت الله سبحانه للصدِّيق الصحبة بين أنه أظهر عليه الشفقة: فقال تعالى: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
فالحر شفيقٌ على من يصحبه.
أخبرنا عليّ بن أحمد الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا يحيى بن محمد الجياني قال: حدثنا عثمان بن عبد الله القرشي، عن نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " متى ألقى أحبابي؟ فقال أصحابه: بأبينا أنت وأمنا. أو لسنا أحبابك؟ فقال:أنتم أصحابي، أحبابي: قوم لم يروني، وآمنوا بي، وأنا إليهم بالأشواق أكثر " .
والصحبة على ثلاثة أقسام: صحبة منع من فوقك: وهي في الحقيقة خدمة، وصحبة مع من دونك وهي تقضي على المتبوع بالشفقة والرحمة، وعلى التابع بالوفاق والحرمة.
وصحبة الأكفاء والنظراء: وهي مبنية على الإيثار والفتوة؛ فمن صحب شيخاً فوقه في الرتبة، فأدبه ترك الاعتراض، وحمل ما يبدو منه على وجه جميل، وتلقى أحوال بالإيمان به.
سمعت منصور بن خلف المغربي وسأله بعض أصحابنا: كم سنة صحبت أبا عثمان المغربي؟ فنظر إليه شزراً وقال: إني لم أصحبه، بل خدمته مدة.
وأما إذا صحبك من هو دونك، فالخيانة منك في حق صحبته أن لا تنبهه على ما فيه م نقصان في حالته؛ ولهذا كتب أبو الخير التيناني إلى جعفر بن محمد بن نصير: وزر جهل الفقراء عليكم؛ لأنكم اشتغلتم بنفوسكم عن تأديبهم، فبقوا جهلة.
وأما إذا صحبت من هو في درجتك، فسبيلك النعامي عن عيوبه، وحملُ ما ترى منه على وجه من التأويل جميلٍ، ما أمكنك، فإن لم تجد تأويلاً عدت إلى نفسك بالتهمة وإلى التزام اللائمة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: إن فلاناً لا يقع من قلبي!! فقال أبو سليمان: وليس يقع أيضاً من قلبي، ولكن يا أحمد، لعلنا أتينا مِنْ قِبلنا، لسنا من جملة الصاحلين؛ فلسنا نحبهم.
وقيل: صحب رجلٌ إبراهيم بن أدهم، فلما أراد أن يفارقه قال له الرجل: إن رأيت فيَّ عيباً فنبي عليه. فقال إبراهيم: إني لم أر بك عيباً؛ لأني لاحتك بعين الوداد؛ فاستحسنت منك ما رأيت، فسل غيري عن عيبك.
وفي معناه أنشدوا:
وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنَّ عن السخط تبدي المساويا
وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كنا لا نصحب من يقول نَعلي.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: قال أبو أحمد القلانسي، وكان من أستاذي الجنيد: صحبت أقواماً بالبصرة فأكرموني.. فقلت مرّة لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.
وسمعت أبا حاتم يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت الزقاق يقول: منذ أربعين سنة أصحب هؤلاء: فما رأيت رفقاً لأصحابنا إلا من بعضهم لبعض، أو ممن يحبهم، ومن لم يصحبه التقوى والورع في هذا الأمر أكل الحرام النص.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قال رجل لسهل بن عبد الله: أريد أن أصحبك يا أبا محمد. فقال: إذا مات أحدنا فمن يصحبه الباقي؟ فقال: الله. فقال له: فليصحبه الآن.
وصحب رجل رجلاً مدّة، ثم بدا لأحدهما المفارقة، فاستأذن صاحبه، فقال: بشرط ألا تصحب أحداً إلا إذا كان فوقنا وإن كان أيضاً فوقنا فلا تصحبه؛ لأنك صحبتناأولاً، فقال الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت الدُّقي يقول: سمعت الكناني يقول: صحبني رجل، وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت ل شيئاً، ليزول ما في قلبي، فلم يَزُل!!.. فحملته إلى بيتي، وقلت له: ضع رجلك على خدّي. فأبي، فقلت: لا بدّ. ففعل، واعتقدت أن لا يرفع رجله من خدّي حتى يرفع الله من قلبي ما كنت أجده، فلما زال عن قلبي ما كنت أجده، قلت له: أرفع رجلك الآن.
وكان إبراهيم بن أدهم يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغيره، وينفق على أصحابه.
وقيل: كان مع جماعة من أصحابه، فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم، ويجتمعون بالليل في موضع وهم صيام، فكان يبطىء في الرجوع من العمل، فقالوا ليلة: تعالوا نأكل فطورنا دونه، حتى يعود بعد هذا أسرع، فأفطروا، وناموا، فلما رجع إبراهيم وجدهم نياماً، فقال: مساكين، لعلهم لم يكن لهم طعام؛ فَعَمد إلى شيء من الدقيق كان هناك، فعجنه، وأوقد على النار، وطرح الملةَ، فانتبهوا، وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك، فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً.. فنمتم.. فأحببت أن تستيقظوا والملة قد أدركت.
فقال بعضهم لبعض: انظروا ما الذي عملنا، وما الذي به يعاملنا.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم إذا صحبه أحد شارطه على ثلاثة اشياء: أن تكون الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا كيدهم.
فقال له يوماً رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا؟ فقال: أعجبني صدقك.
وقال يوسف بن الحسين: قلت لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من لا تكتمه شيئاً يعلمه الله تعالى منك.
وقال سهل بن عبد الله لرجل: إن كنت ممن يخاف السباع فلا تصحبني.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن العلوي يقول: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو القاسم بن منبه قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
وحكى الجنيد قال: لما دخل أبو حفص بغداد كان معه إنسان أصلع لا يتكلم بشيء.. فسألت أصحاب أبي حفص عن حاله، فقالوا: هذا رجل أنفق عليه مائة ألف درهم، واستدان مائة ألف درهم أنفقها عليه، ولا يُرخص له أبو حَفص أن يتكلم بحرف.
وقال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
وقال رجل لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت تاب عليك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد يورق ولكنه لا يثمر، كذاك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لايجيء منه شيئ.
وكان الأستاذ أبو عليّ، يقول: أخذت هذا الطريق عن النصراباذي، والنصرأباذي عن الشبلي، والشبلي عن الجنيد، والجنيد عن السريّ، والسريّ عن معروف الكرخي، ومعروف الكرخي عن داود الطائي، وداود الطائي لقي التابعين.
وسمعته يقول: لم أختلف إلى مجلس النصراباذي قط إلا اغتسلت قبله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولم أدخل أنا على الأستاذ أبي عليّ في وقت بدايتي إلا صائماً، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب؛ احتشاماً منه أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت المدرسة كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدّرٍ، حتى لو غرزني إبرة - مثلاً - لعلي كنت لا أحسن بها، ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لي لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة، فكما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتي، وغير مرة رأيت منه هذا عياناً، وكنت أفكر في نفسي كثيراً أنه لو بعث الله في وقتي رسولاً إلى الخلق هل يمكنني أن أزيد من حشمته على قلبي فوق ما كان منه، رحمه الله، فكان لا يتصور لي أن ذلك ممكن، ولا أذكر أني في طول اختلافي إلى مجلسه، ثم كوني معه بعد حصول الوصلة، أن جرى في قلبي أو خطر ببالي عليه قط اعتراض، إلى أن خرج رحمه الله من الدنيا.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد ابن أحمد العبدي، قال: أخبرنا أبو عوانة، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا خلف بن تميم أبو الأحوص، عن محمد بن النضر الحارثي، قال: أوحى الله سبحانه، إلى موسى عليه السلام: كن يقطاناً.. مرتاداً لنفسك أخداناً. وكل خدن لا يؤاثيك على. مسرّة فاقصه. ولا تصحبه؛ فإنه يقسى قلبك، وهو لك عدو، وأكثر من ذكرى تستوجب على شكري والمزيد من فضلي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله.. أبن المعلم يقول: سمعت أبا بكر الطمستاني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله، لتوصكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله عزَّ وجلَّ.
باب التوحيد

قال الله عزَّ جلَّ: " وإلهكم إله واحد " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا مسيح بن حاتم العكلي قال: حدثنا الحجبي عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن سعد ابن حاتم العتكي، عن ابن أبي صدقة: عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" بينا رجل فيمن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد، فقال لأهله: إذا متَّ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر في يوم ريح. ففعلوا.. فقال الله عزَّ وجلَّ للريح: أدَّى ما أخذتِ، فإذا هو بين يديه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أستحياءً منك، فغفر له " ..
التوحيد: هو الحكم بأن المه واحد، والعلم بأن الشيء واحد أيضاً توحيد، ويقال: وحدته: إذا وصفته بالوحدانية، كما يقال: شجعت فلاناً إذا نسبته إلى الشجاعة، يقال في اللغة: وَحَد يحد فهو واحد وَوَحدْ، ووحيد؛ كما يقال: فرد فهو فارد، وفَرْد، وفريد.
وأصل أحد وحد فقلبت الواو همزة، والواو المفتوحة قد تقلب همزة، كما تقلب المكسورة والمضمومة، ومنه امرأة أسماء، بمعنى وسماء، من الوسامة، ومعنى كونه، سبحانه، واحداً على لسان العلم، قيل: هو الذي لا يصحّ في وصفه الوضع والرفع، بخلاف قولك: إنسان واحد؛ لأنك تقول إنسان بلا يد ولا رجل، فيصح رفع شيء منه،واسحق، سبحانه، أحدى الذات، بخلاف الأسم الجملة الحاملة.
وقال بعض أهل التحقيق في معنى أنه واحد: نفى التقسيم لذاته، ونفى التشبيه عن حقه وصفاته، ونفى الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته.
والتوحيد ثلاثة: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخيبره عنه بأنه واحد.
والثاني: توحيد الحق، سبحانه، للخلق، وهو حكمه، سبحانه، بأن العبد موحد، وخلقه توحيد العبد.
والثالث: توحيد الخلق للحق، سبحانه، وهو علم العبد بأن الله، عز وجل، واحد، وحكمه وإخباره عنه بأنه واحد.
فهذه جمة في معنى التوحيد علي شرط الإيجاز والتحديد.
واختلفت عبارات الشيوخ عن معنى التوحيد: سمعتالشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: وقد سئل عن التوحيد. فقال: أن تعلم أن قدرة المه تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء بلاعلاج، وعلةُ كلِّ شيء صَنَعه ولا علة لصُنعه، ومهما تصور في نفسك شيء فالله بخلافه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زكريا يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت عبد الله بن صالح يقول: قال الجريري: لبس لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد.
وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: إفراد الموحَّد بتحقيق وحدا نيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشياء بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
وقال الجنيد: إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد تناهت إلى الحيرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول ذلك، وسئل الجنيد عن التوحيد،فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم ويكون الله تعالى كما لم يزل وقال الحصري: أصولنا في التوحيد خمسة أشياء.
رفع الحدث وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما عُلم على وجُهل.
سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: كنت في صحن الجامع ببغداد يعني جامع المنصور والحصري يتكلم في التوحيد، فرأيت ملكين يعرجان إلى السماء، فقال أحدهما لصاحبه: الذي يقول هذا الرجل علم التوحيد والتوحيد غيرُه، يعني كنت بين اليقظة والنوم.
وقال فارس التوحيد هو إسقاط الوسائط عند غلبة الحال والرجوع إليها عند الأحكام، وأن الحسنات لا تغير الأقسام من الشقاوة والسعادة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر بن شاذان يقول: سمعت الشبلي يقول: التوحيد: صفة الموحَّد حقيقة وحلية الموَّحد رسماً.
وسئل الجنيد عن توحيد الخاص فقال: أن يكون العبد شبحاً بين يدي الله، سبحانه، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته، في حقيقة قربه بذهاب حسنه وحركته. لقيام الحق، سبحانه له فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون.
وسئل البوشنجي عن التوحيد فقال: غير مشبه الذوات ولا منفي الصفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسين العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول، وقد سئل عن ذات الله، عزَّ وجلَّ. فقال: ذات الله تعالى موصوفة بالعلم، غيرُ مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حدِّ ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقي ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه،ينظر إليه المؤمنون بالآبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وقال الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد: ما قاله أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
قال الأستاذ أبو القاسم: ليس يريد الصّديق، رضي الله عنه، أنه لا يعرف؛ لأن عند المحققين: العجز عجز عن الموجود، دون المعدوم، كالمقعد عاجزٌ عن قعوده؛ إذ ليس بكسب له ولا فعل، والقعود موجود فيه، كذلك العارف عاجز عن معرفته، والمعرفة موجودة فيه؛ لأنها ضرورية.
وعند هذه الطائفة المعرفة به سبحانه في الانتهاء ضرورية.
فالمعرفة الكسبية في الابتداء، وإن كانت معرفة على التحقيق، فلم يعدّها الصديق رضي الله عنه شيئاً بالإضافة إلى المعرفة الضرورية، كالسراج عند طلوع الشمس وانبساط شعاعها عليه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن سعيد البصري بالكوفة يقول: سمعت ابن الأعرابي يقول: قال الجنيد: التوحيد الذي انفرد به الصوفي هو: إفراد القدم عن الحدث والخروج عن الأوطان، وقطع المحاب وترك ما علم وجهل، وأن يكون الحق، سبحانه، مكان الجميع.
وقال يوسف بن الحسين: من وقع في بحار التوحيد لايزداد على ممر الأوقات إلا عطشاً.
وقال الجنيد: علم التوحيد مباين لوجوده، ووجوده مفارق لعلمه.
وقال الجنيد أيضاً: علم التوحيد طوى بساطه منذ عشرين سنة، والناس يتكلمون في حواشيه!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد الأصبهاني يقول: وقف رجل علي الحسين بن منصور، فقال: من الحق الذي يشيرون إليه؟ فقال: معل الأنام ولا يعتل.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: من اطلع على ذرّة من علم التوحيد ضعف عن حمل بقة لثقل ما حمله.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي؛ فقيل له أخبرنا عن توحيد مجرد وبلسان حق مفرد.
فقال: ويحك!! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نصدق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أ،ه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتوه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
وقال يوسف بن الحسين: توحيد الخاصة أن يكون بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله تعالى يجري علي تصاريف تدبيره وأحكام قدرته في بحار توحيده بالفناء عن نفسه وذهاب حسه، بقيام الحق سبحانه له في مراه منه، فيكون كما هو قيل أن يكون في جريان حكمه سبحانه عليه.
وقيل: التوحيد للحق سبحانه، والخلق طفيلي.
وقيل: التوحيد: إسقاط الياءات؛ لا تقول لي وبي ومني وإليّ.
وقيل: لأبيبكر الطمستاني: ما التوحيد؟ فقال: توحيد، وموحد، وموحَّد، هذه ثلاثة.
قال رويم: التوحيد هو آثار البشرية وتجرد الألوهية.
سمت أبا علي الدقاق يقول في آخر عمه، وكان قد اشتدت به العلة، فقال: من أمارات التأييد حفظ التوحيد فيأوقات الحكم، ثم قال؛ كالمفسر لقوله مشيراً إلى ما كان من حاله، هو: أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعةً وأنت شاكر حامد.
وقال الشبلي: ما شم روائح التوحيد من تصور عنده التوحيد.
وقال أبو سعيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد، وتحقق بذلك، فناء ذكر الأشياء عن قلبه، وانفراده بالله عزَّ وجلَّ.
وقال الشبلي لرجل: أتدري لم لا يصح توحيدك؟ فقال: لا!! فقال: لأنك تطلبه بك.
وقال ابن عطاء: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد، وهو أن يكون القائم به واحداً.
ويقال من الناس من يكون مكاشفاً بالأفعال، يرى الحادثات بالله تعالى، ومنهم من هو مكاشف بالحقيقة، فيضمحل إحساسه بما سواه، فهو يشاهد الجمع سراً بسرّ، وظاهره بوصف التفرقة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن محمد القزويني يقول: سمعت القنفذ يقول: سئل الجنيد عن التوحيد، فقال سمعت قائلاً يقول:
وغنى لي من قلبي
وغنيت كما غنّى
وكنا حينما كانوا
وكانوا حينما كنا
فقال السائل: أهَلكَ القرآن والأخبار؟!! فقال: لا، ولكن الموحِّد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الخطاب وأيسره.
باب الخروج من الدنيا

باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا قال الله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين " .
يعنى: طيبة نفوسهم، ببذلهم مُهجهم لا يثقل عليهم رجوعهم إلى مولاهم.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن عقبة الشيباني بالكوفة قال: حدثنا الخضر بن أيان الهاشمي قال: حدثنا أبو هدبة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت، وإن مفاصله ليسِّلم بعضها علي بعض؛ تقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي قال: حدثنا سوار قال: حدثنا جعفر. عن ثابت، عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله تعالى وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئان لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف " .
واعلم أن أحوالهم في حال النزع مختلفة؛ فبعضهم الغالب عليه الهيبة، وبعضهم الغالب عليه الرجاء، ومنهم من كشف له في تلك الحالة ما أوجب له السكون، وجميل الثقة.
حكى أبو محمد الجريري قال: كنت عند الجنيد في حال نزعه، وكان يوم الجمعة، ويوم نيروز، وهو يقرأ القرآن، فختمه، فقلت: في هذه الحالة يا أبا القاسم؟ فقال: ومن أولى بذلك منى وهو ذا تطوى صحيفتي.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول بلغني عن أبي محمد الهروي أنه قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها فكان يقول طول ليلته هذين البيتين:
كلُّ بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرُج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
وحكى عن عبد الله بن منازل أنه قال: إن حمدون القصار أوصى إلى أصحابه أن لا يتركوه في حال الموت بين النسوان.
وقيل لبشر الحافي، وقد احتضر كأنك يا أبا نصر تحبّ الحياة؟ فقال: القدوم علي الله، عزَّ وجلَّ، شديد.
وقيل: كان سفيان الثوري إذا قال له بعض أصحابه إذا سافر: أتأمر بشغل؟؟..
يقول: إن وجدتَ الموتَ فاشتره لي! فلما قربت وفاته كان يقول: كنا نتمناه.. فإذا هو شديد!! وقيل: لما حضرت الحسن بن علي بن أبي طالب الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أقدم على سيد لم أره.
ولما حضرت بلالاً الوفاة قالت امرأته: واحزناه!! فقال: بل واطرباه.. غداً نلقي الأحبة محمداً وحزبه.
وقيل: فتح عبد الله بن المبارك عينيه عند الوفاة وضحك. وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
وقيل: كان مكحول الشامي الغالب عليه الحزن، فدخلوا عليه في مرض موته وهو يضحك، فقيل له في ذلك، فقال: ولام لا أضحك وقد دنا فراق ما كنت أحذره، وسرعة القدوم على ما كنت أرجوه وآمله.
وقال رويم: حضرتُ وفاة أبي سعيد الخراز، وهو يقول في آخر نفسه:
حنينُ قلوب العارفين إلى الذكر ... وتذكارهم وقت المناجاة للسرِّ
أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر
هُمُوهم جوالة بمعسكرٍ ... به أهل ودّ الله كالأنجم الزهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرَّجوا عن مسر بؤس ولا ضر
وقيل للجنيد: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت. فقال: لم يكن بعجيب أن تظير روحه اشتياقاً.
وقال بعضهم وقد قربت وفاته: يا غلام اشدد كتافي وعفر خدي، ثم قال: دنا الرحيل ولا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر به، ولا قوة أنتصر بها.. أنت لي، أنت لي..
ثم صاح صيحة ومات، فسمعوا صوتاً: " استكان العبدُ لمولاه، فقبله " .
وقيل لذي النون المصري عند موته: ما تشتهي؟ قال أن أعرفه قبل موتي بلحظة.
وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل الله، فقال: إلى متى تقولون: قل الله، وأنا محترق بالله؟!! وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري، فقدم فقير وقال السلام عليكم، فردوا عليه السلام، فقال: هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه؟ فأشاروا عليه بمكان، وكان ثمَّ عين ماء.. فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله تعالى، ومضى إلى المكان الذي أشاروا إليه.. ومد رجليه، ومات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم يوماً في مجلسه.. فصاحت امرأة تواجداً، فقال لها: موتي.. فقامت المرأة فلما بلغت باب الدار التفتت إليه وقالت: قدُمتُّ. ووقعت ميتة.
وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلة؟! فقال سلوا العلة عني كيف تجدني، فقيل له. قل لا إله إلا الله، فحول وجهه إلى الجدار وقال: أفنيت كُلي بكلك هذا جزاء من يحبك.
وقيل لأبي محمد الدبيلي، وقد حضرته الوفاة، قل: لا إله إلا الله.
فقال هذا شيء قد عرفناه، وبه نفنى، ثم أنشأ يقول:
تسربل ثوبُ النية لما هويته ... وَصدَّ ولم يرض بأن أكُ عبده
وقيل للشبلي عند وفاته: قل لا إله إلى الله. فقال:
قال سلطان حبه ... أنا لا أقبل الرِّشا
فسلوه بحقه ... لِم بقتلي تحرَّشا
سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت بعض الفقراء يقول: لما مات يحيى الاصطخري جلسنا حوله، فقال له رجل منا: قل أشهد أن لا إله إله الله، فجلس مستوياً.. ثم أخذ بيد واحد منا، وقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله.. ثم أخذ بيد آخر.. حتى عرض الشهادة على جميع الحاضرين، ثم مات.
ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري، أنها قالت: لما قرب أجل أخي أبي الروذباري، وكان رأسه في حجري، فتح عينيه، وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت.. وهذه الجنان قد زُينت، وهذا قائل يقول لي: يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها.. ثم أنشأ يقول:
وحقّك لا نظرتُ إلى سواكاً ... بعين مودةّ حتى أراكا
أراك معذِّبي بفتورِ لحظر ... وبالخد المورد من جناكا
ثم قال: يا فاطمة، الأول ظاهر،والثاني فيه إشكال.
سمعت بعض الفقراء يقول: لما قربت وفاة أحمد بن نصر، رحمه الله تعالى، قال له واحد: قل أشهد أن لا إله إلا الله فنظر إليه وقال له: لا تترك الحرمة بالفراسية بي حرمتي مكن.
وقال بعضهم: رأيت فقيراً يجود بنفسه غريباً.. والذباب على وجهه، فجلست أذبّ الذباب عن وجهه.. ففتح عينيه، وقال: من هذا؟ أنا منذ كذا سنة في طلب وقت يصفو لي فلم يتفق إلا الآن.. جئت أنتّ توقع نفسك فيه، مرّ؛ عافاك الله.
وقال أبو عمران الاصطخري: رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري أنه سمع هذا البيت.
لا زلت أنزل في ودادك منزلاً ... تتحير الألبابُ عند نزوله
فتواجد النودي وهام في الصحراء ... فوقع في أجمه قصب قد قطعت وبقي
أصولها مثلُ السيوف، فكان يمشي عليها ويعيد عليها ويعيد هذا البيت إلى الغداة والدم يسيل من رجليه. ثم وقع مثل السكران، فتورمت قدماه. ومات.
وحكي أنه قيل له عند النزع: قل لا إله إلا الله، فقال أليس إليه أعود.
وقيل: مرض إبراهيم الخواص في المسجد الجامع: بالري وكنت به علة بالإسهال، فكان إذا قام مجلساً يدخل الماء.. ويتوضأ، فدخل الماء مرة فخرجت روحه.
سمعت منصوراً المغربي يقول دخل عليه يوسف بن الحسين عائداً له بعد ما أتى عليه أيامٌ لم يعده، ولم يتعهده، فلما رآه، قال للخواص: أتشتهي شيئاً؟ قال: نعم، قطعت كبد مشوي.
قال الأستاذ أبو القاسم: لعل الإشارة فيه أنه أراد: أشتهى قلباً يرقى لفقير، وكبداً تشتوي وتحترق لغريب؛ لأنه كالمستجفى ليوسف بن الحسين؛ حيث لم يتعهده.
وقيل: كان سبب موت بن عطاء أنه أدخل مرة على الوزير، فكلمه الوزير بكلام غليظ.
فقال له ابن عطاء: أهدأ يا رجل!! فأمر.. فضُرب بخفه على رأسه فمات منه.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبدالله بن علي التميمي يقول: سمت أبا بكر الدقي يقول: كنا عند أبي بكر الزقاق بالغداة، فقال: إلهي: كم تبقيني ها هنا فما بلغ الغداة الأولى حتى مات.
وحكي عن أبي علي الروذباري أنه قال: رأيت في البادية حّدَثاً، فلما رآني. قال: أما يكفيه أ، شغفني بحبه حتى علني، ثم رأيته يجود بروحه، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فأنشأ يقول:
أيا من ليس لي عنه ... وإن عذبني بد
ويا من نال من قلبي ... منالاً ما له حد
وقيل للجنيد: قل لا إله إلا الله، فقال: ما نسيتُه فأذكره!! وقال:
حاضر في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره
فهو مولاي ومعتمدي ... ونصيبي منه أوفر
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سألت جعفر بن نصير بكران الدينوري، وكان يخدم الشبلي، ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي عليَّ درهم مظلمة، وقد تصدَّقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شغل أعظم منه، ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك علي لسانه، فقبض على يدي وأدخلها في لحيته، ثم مات، فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته حتى في آخر عمره أدب من آداب الشريعة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن بن عبد الله الطرسوسي يقول: سمعت علوشاً الدينوري يقول: سمعت المزين الكبير يقول: كنت بمكة - حرصها الله تعالى - فوقع بي انزعاج، فخرجت أريد المدينة. فلما وصلت إلى بئر ميمونة إذا أنا بشاب مطروح؛ فعدلت إليه وهو ينزع؛ فقلت له: قل لا إله إلا الله.. ففتح عينيه؛ مانشأ يقول:
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي ... وبداء الهوى تموت الكرام
فشهق شهقة، ثم مات، فغسلته، وكفنته، وصليت عليه، فلما فرغت من دفنه سكن ما كان بي من إرادة السفر، فرجعت إلى مكة.
وقيل لبعضهم: أتحبُّ الموت؟ فقال: القدوم على من يرجى خيره خير من البقاء مع من ى يؤمن شره.
وحكي عن الجنيد أنه قال: كنت عند أستاذي ابن الكرنبي، وهو يجود بنفسه، فنظرت إلى السماء فقال: بعد، ثم نظرت إلى الأرض فقال: بعد، يعني: أنه أقرب إليك من أن تنظر إلى السماء أو إلى الأرض، بل هو وراء المكان.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت مصر فرأيت الناس مجتمعين، فقالوا: كنا في جنازة فتى سمع قائلا يقول:
كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراكا
فشهق شهقة ومات.
وقيل: دخل جماعة علىممشاد الدينوري في مرض موته، فقالوا: ما فعل الله بك وما صنع؟ فقال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي، وقالوا له عند النزع: كيف تجد قلبك؟ فقال: منذ ثلاثين سنة فقدت قلبي.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن التميمي يقول: قال الوجيهي: كان سبب موت ابن بنان أنه ورد على قلبه شيء، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط متاهة بني إسرائيل في الرمل، ففتح عينيه وقال: ارتع، فهذا مرتع الأحباب. وخرجت روحه.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: كنت بمكة، فجاءني فقير معه دينار، فقال: إذا كان غداً فأنا أموت، فأصلح لي بنصف هذا قبراً، والنصف الثاني لجهازي. فقلت في نفسي: دوخل الشاب؛ فإنه قد أصابته فاقة الحجاز، فلما كان الغد جاء؛ ودخل الطواف، ثم مضى وامتد على الأرض، فقلت: هو ذا يتماوت، فذهبت إليه، فحركته فإذا هو ميت. فدفنته كما أمر.
وقيل: لما تغيرت الحال على أبي عثمان الحيري مزق ابنه أبو بكر قميصاً ففتح أبو عثمان عينيه وقال: يا بني إن خلاف السنة في الظاهر من رياء في الباطن.
وقيل: دخل ابن عطاء على الجنيد، وهو يجود بنفسه؛ فسلم. فأبطأ في الجواب، ثم رد، وقال: اعذرني، فلقد كنت في وردي ثم مات.
وحكى أبو علي الروذباري قال: قدم علينا فقير، فمات، فدفنته وكشفت عن وجهه لأضعه في التراب ليرحم الله عزّ وجلّ غربته. ففتح عينيه وقال: يا أبا علي، أتدللني بين يدي من دللني؟! فقلت: يا سيدي أحياة بعد موت؟ فقال لي: بلى أنا حيّ، وكل محبّ لله، عزّ وجلّ، حتىّ لأنصرنك غداً بجاهي يا روذباري.
ويحكى عن ابن سهل الأصفهاني أنه قال: أترون أني أموت كما يموت الناس، مرض وعيادة، وإنما أدعى، فيقال: يا عليٌّ، فأجيب.
فكان يمشي يوماً، فقال: " لبيك " . ومات.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: سمعت أبا الحسن المزين قال: لما مرض أبو يعقوب النهرجوري مرض وفاته، قلت له، وهو في النزع: قل لا إله إلا الله، فتبسم إلي وقال: إيايّ تمني؟ وعزة من لا يذوق الموت ما بيني وبينه إلا حجّاب العزة. وانطفأ من ساعته، فكان المزين يأخذ بلحيته ويقول: حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة، واخجلتاه منه!! وكان يبكي إذا ذكر هذه الحكاية.
وقال أبو حسين المالكي: كنت أصحب خيرا النساج سنين كثيرة، فقال لي قبل موته بثمانية أيام: أنا أموت يوم الخميس وقت المغرب، وأدفن يوم الجمعة قبل الصلاة، وستنسى هذا، فلا تنس.
قال أبو الحسين: فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من أخبرني بموته، فخرجت لأحضر جنازته، فوجدت الناس راجعين يقولون: يدفن بعد الصلاة.
فلم أنصرف، وحضرت، فوجدت الجنازة قد أخرجت قبل الصلاة كما قال، فسألت من حضر وفاته، فقال: إنه غشي عليه، ثم أفاق، ثم التفت إلى ناحية البيت وقال: قف عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور، الذي أمرت به لا يفوتك، والذي أمرت به يفوتني؛ فدعا بماء فجدد وضوءه وصلى، ثم تمدد، وغمض عينيه، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: كيف حالك؟ فقال: لا تسل، ولكني تخلصت من دنيا الوضرة.
وذكر أبو الحسين الحمصي مصنف كتاب بهجة الأسرار أنه لما مات سهل بن عبد الله انكبّ الناس على جنازته، وكان في البلد يهودي نيف على السبعين، فسمع الضجة، فخرج لينظر ما كان، فلما نظر إلى الجنازة صاح وقال: أترون ما أرى؟ فقالوا: لا، ماذا ترى؟ فقال أرى أقواماً ينزلون من السماء يتسحون بالجنازة، ثم إنه تشهد، وأسلم، وحسن إسلامه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن قيس - بمصر - يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كنت بمكة فجزت يوماً بباببني شيبة فرأيت شاباً حسن الوجه ميتاً، فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي وقال لي: يا أبا سعيد، أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينقلون من دار إلى دار.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: بلغني أنه قيل لذي النون المصري عند النزع: أوصنا. فقال: لا تشغلوني فإني متعجب من محاسن لطفه.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: سئل أبو حفص في حال وفاته: ما الذي تعظنا به؟ فقال: لست أقوى على القول، ثم رأى من نفسه قوة، فقلت له: قل حتى أحكي عنك.
فقال: موعظتي: الانكسار بكلِّ القلب على التقصير.
باب المعرفة بالله

قال الله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره " .جاء في التفسير: وما عرفوا الله حق معرفته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العدل، قال: حدثنا محمد بن القاسم العتكي، قال: حدثني محمد بن أشرس، قال: حدثنا سليمان بن عيسى الشجري عن عبا بن كثير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن دعامة البيت أساسهُ، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، واليقينُ والعقل القامع فقلت: بأبي أنت وأمي ما العقل القامع؟ قال الكف عن معاصي الله، والحرص على طاعة الله " .
قال الأستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو: العلم؛ فكل علم معرفة؛ وكل معرفة علم؛ وكل عالم بالله عارف؛ وكل عارف عالم وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائ وصفاته؛ ثم صدق الله تعالى في معاملاته: ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وأفاقه؛ ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكاف فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله في جميع أ؛واله؛ وانقطع عنه هواجس نفسه؛ ولم يضع بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره؛ فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه بريا؛ ومن المساكنات والملاحظات نقياً؛ ودام في السر مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة.
وبالجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.
وقد تكلم المشايخ في المعرفة، فكل نطق بما وقع له؛ وأشار إلى ما وجده في وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
وسمعته يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب كما أ، العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
سمعت الشيخ أبا عب الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زيد يقول: سمعت الشبلي يقول: ليس لعارف علاقة ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت الشبلي يقول،وقد سئل عن المعرفة، فقال: أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية له.
وسمعته يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا العباس الدينوري يقول: قال أبو حفص: مذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا الذي اطلقه أبو حفص فيه طرف من الإشكال، وأجل ما يحتمله: أن عند القوم المعرفة توجب غيبة العبد عن نفس، لإستيلاء ذكر الحق؛ سبحانه، عليه، فلا يشهد غير الله، عزّ وجلَّ، ولا يرجع إلى غيره، فكما أن العقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال؛ فالعارف رجوعه إلى ربه. فإذا لم يكن مشتغلاً إلا بربه لم يكن راجعاً إلى قلبه. وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. وفرق بين من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عز وجل.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة، فقال: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " .
قال الأستاذ: هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص.
وقال أبو يزيد: للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه. فنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.
وقال الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار إليه.
قال الأستاذ: أراد الواسطي بهذا: أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه؛ لأنهما من صفاته، والعارف محو في معرفة، فكيف يصح له ذلك، وهو لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ الوجود مختطف عن إحساسه بكل وصف هو له.
لهذا قال الواسطي أيضاً: من عرف الله تعالى انقطع، بل خرس وانقمع. قال صلى الله عليه سلم: " لا أحصي ثناء عليك " .
هذه صفات الذين بعد مرماهم، فأما من نزلوا عن هذا الحد فقد تكلموا في المعرفة وأكثروا.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول: من كان بالله أعرف كان له أخوف.
وقال بعضهم: من عرف الله تعالى تبرم بالبقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.
وقيل: من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنس بالله تعالى.
وقيل: من عرف الله ذهب عنه رغبة الأشياء، وكان بلا فصل ولا وصل.
وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم.
وقال رويم: المعرفة للعارف مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه.
وقال ذو النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة فسبقت روحُ نبينا، صلى الله عليه وسلم، أرواحَ الأنبياء عليهم السلام إلى روضة الوصال.
وقال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقاً بأخلاق الله.
وشئل بن يزدانيار: متى يشهد العارف الحقَّ سبحانه؟ فقال: إذا بدا الشاهد وفنى الشواهد وذهب الحواس واضمحل الإخلاص.
وقال الحسين بن منصور: إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره، وحرس سرَّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق.
وقال علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: أعرف الناس بالله تعالى أشدهم تحيراً فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنطاكي يقول: قال رجل للجنيد: مِن أهل المعرفة أقوام يقولون إن ترك الحركات من باب البر والتقوى!! فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة.
وقيل لأبي يزيد: بماذا وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: قلت لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله عز وجل؟ فقال: وهل يرى غيره فيتأسف عليه؟! قلت: فبأي عين ينظر إلى الأشياء؟ فقال: بعين الفناء والزوال.
وقال أبو يزيد: العارف طيار، والزاهد سيار.
وقيل: العارف تبكي عينه ويضحك قلبه.
وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض يطؤه البرُّ والفاجر، وكالسحاب بطل كل شيء، وكالمطر، يسقى ما يحب، وما لا يحب.
وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، عز وجل.
وقال أبو يزيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ماله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت يوسف بن علي يقول: لا يكون العارف عارفاً حقاً حتى لو أعطي مثل ملك سليمان عليه السلام لم يشغله عن الله طرفة عين.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: قيل لذي النون المصري: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي.
وقيل: العالم يقتدي به، والعارف يهتدي به.
وقال الشبلي: العارف لا يكون لغيره لاحظاً، ولا بكلام غيره لا فظاً، ولا يرى لنفسه غير الله تعالى حافظاً.
وقيل: العارف أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذل له تعالى فأعزه في خلقه.
وقال أبو الطيب السامري: المعرفة طلوع الحق على الأسرار بمواصلة الأنوار.
وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
وقال أبو سليمان الداراني: إن الله تعالى يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي.
وقال الجنيد: العارف من نطق الحقُّ عن سره وهو ساكت.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله تعالى.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الرُّوذباري يقول: سمعت رويماً يقول: رياء العارفين أفضل من أخلاص المريدين.
وقال أبو بكر الوراق: سكوت العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب.
وقالذو النون: الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين.
وسئل الجنيد عن العارف، فقال: لون الماء لون إناثه يعني أنه يحكم وقته.
وسئل أبو يزيد عن العارف، فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غير ألمه، ولا يطالع غير الله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سئل بعض المشايخ: بمَ عرفت الله تعالى؟ فقال: بلمعة لمعت بلسان مأخوذ عن التمييز المعهود، ولفظة جرت على لسان هالك مفقود يشير إلى وجد ظاهر ويخبر عن سر سائر هو بما أظهرهُ، وغيره بما اشكله ثم أنشد:
نطقتُ بلا نطق هو النطق إنه ... لك النطق لفظاً أو يبين عن النطق
تراءيت كي أخفى وقد كنتَ خافياً ... وألمعتَ لي برقاً فانضفت بالبرق
وسمعته يقول: سمعت علي بن بندار الصيرفي يقول: سمعت الجريري يقول: سئل أبو تراب عن صفة العارف، قال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كلُّ شيء.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: العارف تضيء له أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: العارف مستهلك في بحار التحقيق؛ كما قال قائلهم: المعرفة أمواج تغطّ. ترفع وتحط.
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: رجل كائن بائن، ومرة قال: كان فبان.
وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراً من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل، عليه على هتك أستار محارم الله.
وقيل: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف عند أبناء الدنيا؟؟ وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سئل الجنيد عن قول ذي النون المصري في صفة العارف.
كان ها هنا فذهب فقال الجنيد: العارف: لا يحصره حال عن حال، ولا يحجبه منزل ن التنقل في المنازل، فهو مع أهل كل مكان يمثل الذي هو فيه يجد مثل الذي يجدون، وينطق فيها بمعالمها لينتفعوا بها.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محم بن الفضل يقول: المعرفة حياة القلب مع الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: سئل أبو سعيد الخراز: هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ فقال: نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله تعالى، فإذا نزلوا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك.
؟باب المحبة قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: حدثنا السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاء، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله لقاءه " أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد الصفار البصري قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا الحسين بن موسى قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا الحسن بن يحيى عن صدقة الدمشقي، عن هشام الكتاني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربه سبحانه وتعالى قال: " من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له منه، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً " .
أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عبيد ابن شريك قال: أخبرنا يحيى، قال: حدثنا مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحبّ الله، عز وجل، العبد قال لجبريل: يا جبريل، إني أحب فلاناً فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله تعالى قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك " .
والمحبة: حالة شريفة شهد الحقُّ، سبحانه، بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق: سبحانه، يوصف بأنه يحب العبدّ، والعبدُ يوصف بأنه يحب الحق سبحانه.
والمحبة على لسان العلماء: هي الإرادة، وليس مراد القوم بالمحبة الإرادة؛ فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، اللهمَّ إلا أن تُحمل على إرادة التقرب إليه والتعظيم له.
ونحن نذكر من تحقيق هذه المسألة طرَفاً إن شاء الله تعالى؛ فمحبة الحقُّ سبحانه، للعبد إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته له إرادة الإنعام، فالرحمة أخصّ من الإرادة، والمحبة أخصّ من الرحمة، فإرادة الله تعالى لأن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة وإرادته لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة.
وإرادته، سبحانه، صفة واحدة، فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضباً، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة.
وقوم قالوا: محبة الله، سبحانه، للعبد، مدحه ل، وثناؤه عليه بالجميل، فيعود معنى محبته له، على هذا القول، إلى كلامه، وكلامه قديم.
وقال قوم: محبته للعبد: من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقي الله العبد به، وحالة مخصوصة برقية إليها، كما قال بعضهم: إن رحمته بالعبد نعمة معه، وقوم من السلف قالوا: محبته من الصفات الخبرية، فأطلقوا اللفظ وتوقفوا عن التفسير.
فأما ما عدا هذه الجملة مما هو المعقول من صفت محبة الخلق؛ كالميل إلى الشيء، والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين، فالقديم، سبحانه. يتعالى عن ذلك.
وأما محبة العبد لله: فحالة يجدها من قلبه. تلطف عن العبارة.
وقد تحمله تلك الحالة علي التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه. والاهتياج إليه، وعدم القرار من ونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه. وليست محبة العبد ل. سبحانه. متضمنة سَبيلاً، ولا أختطاطاً. كيف. وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة. والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب، أولى منه بأن يوصف بالاختطاط. ولا توصف المحبة يوصف ولا تحد بحد أضح ولا أقرب إلى الفهم والاستقصاء في المقال عند حصول الإشكال؛ فإذا زاد الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام.
وعبارات الناس عن المحبة كثيرة. وتكلموا في أصلها في اللغة؛ فبعضهم قال: الحب اسم لصفاء الموجة؛ لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.
وقيل: الحباب: ما يعلوا الماء عند المطر الشديد؛ فعلى هذا المحبة: غليان القلب وثورانه عند العطش والاهتياج إلى لقاء المحبوب.
وقيل: إنه مشتق من حباب الماء بفتح الحاء وهو: معظمه. فسمي بذلك: لأن المحبة غاية معظم ما في القلب من المهمات.
وقيل: اشتقاق من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير. وهو: أن يبرك فلا يقوم فكأن المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه.
وقيل: الحب مأخوذ من الحب. وهو القرط قال الشاعر:
تبينت الحيَّة النضناض منه ... مكانّ الحب تستمع السرارا
وسمي القرط حبا؛ إما للزومه للأذن، أو لقلقه. وكلا المعنيين صحيح في الحب.
وقيل: هو مأخوذ من الحبِّ جمع حبَّة وحبة القلب: ما به قوامه؛ فسمي الحب حباً باسم محله.
وقيل: الحب، والحبّ كالعمَر والعُمر.
وقيل: هو مأخوذ من الحبة بكسر الحاء وهي بذور الصحراء: فسمي الحب حبا، لأنه لباب الحياة، كما أن الحب لباب النبات.
وقيل: الحب: هي الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة:، فسميت المحبة حباً لأنه يتحمل عن محبوبه كل عز وذلّ.
وقيل: هو من الحب الذي فيه الماء، لأنه يمسك ما فيه، فلا يسع فيه غير ما امتلأ به، كذلك إذا امتلأ القلب بالحب فلا مساغ فيه لغير محبوبه.
وأما أقويل الشيوخ فيه، فقال بعضهم: المحبة: الميل الدائم بالقلب الهائم.
وقيل: المحبة: إيثار المحبوب على جميع المصحوب.
وقيل: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.
وقيل: نحو المحبِ لصفاته، وإثباتُ المحبوب بذته.
وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب.
وقيل: خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة.
وقال أبو يزيد البسطامي: المحبة: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار قليل من حبيبك.
وقال سهل: الحبُّ: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة.
وسئل الجنيد عن المحبة، فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.
أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب، حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفت المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها.
وقال أبو علي الروذباري: المحبة: الموافقة.
وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كتلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
وقال الشبلي: سميت المحبة محبة؛ لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب.
وقال ابن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: المحبة: لذة، ومواضع الحقيقة دهش.
وسمعته يقول: العشق: مجاوزة الحد في المحبة، والحقُّ، سبحانه؛ لا يوصف بأنه يجاوز الحدّ، فلا يوصف بالعشق، ولو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ذلك استحقاق قدر الحق سبحانه، فلا يقال: إن عبداً جاوز الحد في محبة الله. فلا يوصف الحق. سبحانه بأنه يعشق، ولا العبد في صفته سبحانه بأنه يعشق، فنفى العشق، ولا سبيل له إلى وصف الحق، سبحانه، لا من الحق للعبد، ولا من العبد للحق، سبحانه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول، وقد سئل عن المحبة. فقال: أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت سمنوناً يقول: ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المرءمع من أحب " ؛ فهم مع الله تعالى: وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة مالا ينقص بالجفاء، ولايزيد بالبر، وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.
وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وفي معناه نشد الأستاذ أبو عليّ:
إذا صفت المودّة بين قوم ... ودام ودادهم سمج الثناء
وكان يقول: لا ترى أباً شفيقاً يبجل إبنه في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته والأب يقول: يا فلان.
وقال الكتاني: المحبة: الإيثار للمحبوب.
وسمعت محمد بن الحسيني قول: سمعت ابا سعيد الأرجاني يقول: سمعت بندار بن الحسين يقول: رؤى مجنون بني عامر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وجعلني حجة على المحبِّبين.
وقال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة: أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه.
وقال الحسين بن منصور: حقيقة المحبة: قيامك مع محبوبك بخلع وصافك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قيل النصراباذي: ليس لك من المحبة شيء؟ فقال: صدقوا؛ ولكن لي حسراتهم، فهو ذا احترق فيه.
وسمعته يقول: قال النصراباذي: المحبة: مجانبة السلو على كلِّ حال. ثم أنشد:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً ... فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق
وقال محمد بن الفضل: المحبة: سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب.
وقال الجنيد: المحبة: إفراط المسيل بلا نيل.
ويقال: المحبة: تشويش في القلوب يقع من المحبوب.
ويقال:المحبة: فتنة تقع في الفؤاد من المراد.
وأنشد ابن عطاء:
غرست لهل الحبّ غصناً من الهوى ... ولم يك يدري ما الهوى أحدٌ قبلي
فأورق أغصاناً، وأينع صبوة ... وأعقب لي مراً من الثمر المحلى
كل جميع العاشقين هواهم إذا نسوه كان من ذلك الأصلي
وقيل: الحب أوله ختل وآخره قتل.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " حبّك للشيء يعمى ويُصم " .
فقال يعمى عن الغير غيرة وعن المحبوب هيبة، ثم أنشد:
إذا ما بد لي تعاظمته ... فأصدر في حال من لم يرد
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارس المحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك وما لك، ثم موافقتك له سرَّا وجهراً، ثم علم بتقصيرك في حبِّه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: لا تصلع المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.
وقال الشبلي. المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك.
وقيل: المحبة: نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.
وقيل:المحبة: بذل المجهود والحبيب يفعل ما يشاء.
وقال النوري: المحبة: هتك الأستار وكشف الأسرار.
وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة.
وقال جعفر: قال الجني: دفع السريِّ إلى رقعة، وقال: هذه لك خير من سبعمائة قصة أو حديث يعلو، فإذا فيها:
ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت: كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
وقال ابن مسروق: رأيت سمنونا يتكلم في المحبة فتكسرت قناديل المسجد كلها.
سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم ابن فانك يقول: سمعت سمنوناً، وهو جالس في المسجد يتكلم في المحبة إذ جاء طير صغير فقرب منه، ثم قرب.. فلم يزل يدنو حتى جلس على يده.. ثم ضرب بمنقاره الأرض حتى سال منه الدم، ثم مات.
وقال الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة.
وقيل: حبس الشبليّ في المارستان فدخل عليه جماعة: فقال: من أنتم؟ قالوا: إنا محبوك يا أبا بكر، فأقبل يرميهم بالحجارة، ففروا، فقال: إن ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي.
وأنشد الشبلي:
أيها السيد الكريم ... حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني ... أنت بما مر بي عليم
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: سمعت علي بن عبيد يقول: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وماروي بعد، ولسانه خارج ويقول: هل من مزيد.
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت إلفي ... وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمني وأموت شوقاً ... فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحبّ كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
وقيل: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني إذا اطلعت علي قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي.
ورأيت بخط الأستاذ أبي علي الدقاق، رحمه الله: في بعض الكتب المنزلة " عبدي، أنا وحقك لك محب، فبحقي كن لي محباً " .
وقال عبد الله بن المبارك: من أعطى شيئاً من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع.
وقيل: المحبة: ما يمحو أترك.
وقيل: المحبة: سُكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه.
ثم السكر الذي يحصل عند الشهود لا يوصف، وأنشدوا:
فأسكر القومَ دَوْرُ كًأس ... وكان سكري من المدير
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق ينشد كثيراً:
لي سكرتان، وللندمان واحدة ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أبن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
وكان للأستاذ أبي عليّ جارية تسمى فيروز وكان يحبها؛ إذ كانت قد خدمته كثيراً، فسمعته يقول: كانت فيروز تؤذيني يوماً وتستطيل عليّ بلسانها، فقال لها أبو الحسن القارىء لم تؤذين هذا الشيخ؟ فقالت: لأني أحبه.
وقال يحيى بن معاذ: مثقالُ خردلة من الحب أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقيل: إن شاباً أشرف على الناس في يوم عيد وقال:
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
وألقى نفسه من سطح عال فوقع ميتاً.
وحكي أن بعض أهل الهند عشق جارية، فرحلت الجارية، فخرج الرجل في وداعها، فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى، فغمض التي لم تدمع أربعاً وثمانين سنة. ولم يفتحها، عقوبة لها؛ لأنها لم تبك على فراق حبيبته، وفي معناه أنشدوا:
بكت عيني غداة البين دمعاً ... وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع ... بأن غمضتها يوم التقينا
وقال بعضهم: كنا عند ذي النون المصري: فتذاكرنا المحبة، فقال ذو النون: كفوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها. ثم أنشأ يقول:
الخوف أولى بالمسي ... ء إذا تأله والحزن
والحبُّ يجمل بالتقي ... وبالنقي من الدرَنَ
وقال يحيى بن معاذ: من نشر المحبة عند غير أهلها فهو في دعواه دعيّ.
وقيل: ادَّعى رجل الاستهلاك في محبة شخص، فقال له الشاب: كيف هذا، وأخي أحسن مني وجهاً وأتمُّ جمالاً؟ فرفع الرجل رأسه يلتفت، وكانا على سطح فالقاه من السطح وقال: هذا أجر من يدعي هواناً وينظر إلى سوانا.
وكان سمنون يقدم المحبة على المعرفة، والأكثرون يقدمون المعرفة على المحبة.
وعند المحققين: المحبة: استهلاك في لذة، والمعرفة: شهود في حيرة، وفناء في هيبة.
وقال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة، بمكة، أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرم سناً، فقالوا له: هات ما عندك يا عراتي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هويته، وصفا شربه منكأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيب؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله والله ومع الله فبكر الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، إني حرَّمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري فيها.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم قال: حدثنا هيثم بن همام قال: أخبرنا إبراهيم بن الحارث قال: حدثني عبد الرحمن ابن عفان قال: حدثني محمد بن أيوب قال: حدثني أبو العباس خادم الفضيل ابن عياض قال: احتبس بول الفضيل، فرفع يديه وقال: اللهم بحبي لك إلا أطلقته عني، فمابرحنا حتى شفي.
وقيل المحبة: الإيثار كامرأة العزيز لما تناهت في أمرها قالت: " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " .
وفي الابتداء قالت: " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلى أن يسجن أو عذاب أليم " ، فوركت الذنب في الابتداء عليه، وفي الانتهاء نادت على نفسها بالخيانة.
سمعت الأستاذ أبا علي يقول ذلك.
وحكي عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك.. فقال: يا مبارك، من أحب الله تعالى فقد أحبني.
وقيل: قالت رابعة في مناجاتها: إلي، أتحرق بالنار قلباً يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا، فلا تظني بنا ظن السوء!! وقيل: الحب، حرفان: حاء وباء، والإشارة فيه: أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه.
وكالإجماع من إطلاقات القوم: أن المحبة: هي الموافقة، وأشد الموافقات: الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة؛ فإن المحب أبداً مع محبوبه، وبذلك ورد الخبر: " حدَّثنا الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا القاضي أحمد بن محمود بن حرزاذ قال: حدثنا الحسين بن حماد بن فاضلة قال: حدثنا يحيى بن حبيب قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: " إن الرجل ليحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول. سمعت أبا حفص يقول: أكثر فساد الأحوال من ثلاثة، فسق العارفين، وخيانة المحبين، وكذب المريدين.
قال أبو عثمان: فسق العارفين: إطلاق الطرف واللسان والسمع إلى أسباب الدنيا ومنافعها.
وخيانتة المحبين: اختيار هواهم على رضا الله عزَّ وجل فيما يستقبلهم.
وكذب المريدين: أن يكون ذكر الخلق ورؤيتهم تغلب عليهم على ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا القاسم الجوهري يقول: سمعت أبا علي ممشاد بن سعيد العكبري يقول: رواد خطاف خطابة في قبة سلميان، عليه السلام، فامتنعت عليه، فقال لها: لِمَ تمتنعين عليّ وإن شئت قلبت القبة على سليمان!! فدعاه سليمان، عليه السلام، وقال له: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله، إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم! فقال: صدقت.
باب الشوق

قال الله عز وجلَّ: " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا ابن أبي قماش قال: أخبرنا إسماعيل بن زرارة، عن حماد ابن يزيد، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة، فأوجز فيها، فقلت: ففت أبا اليقظان!! فقال: وما عليّ من ذلك، ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات، فقال: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحبني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي.
اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرَد العيش بعد الموت، واسألك النظر إلى وجهك الكريم، وشوقاً إلى لقائك في غير ضواء مضرة ولا فتنةُ مُضلة.
" اللهم زينا بزينة الإيمان.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين " ..
قال الأستاذ الشوق: اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق، ويقول: الشوق يسكن باللقاء والرؤيةِ، والاشتياقُ لا يزول باللقاء. وفي معناه أنشدوا:
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرفُ مشتاقً
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصراباذي يقول: للخلق كلهم مقامُ الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يُرى له أثر ولا قرار.
وقيل: جاء أحمد بن حامد الأسود إلى عبد الله بن منازل فقال: رأيت في المنام أنك تموت إلى سنة، فلو استعددت للخروج؟ فقال له عبد الله بن منازل: لقد أجلتنا إلى أمد بعيد أأعيش أنا إلى سنة!! لقد كان لي أنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي يغني أبا علي:
يا من شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقال أبو عثمان: علامة الشوق: حب الموت مع الراحة.
وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق: فطام الجوارح عن الشهوات.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: خرج داود عليه السلام يوماً إلى بعض الصحارى منفرداً، فأوحى الله تعالى إليه: مالي أراك يا داو وحدانياً؟ فقال يا إلهي، استأثر الشوق إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق. فأوحى الله تعالى إليه: أرجع إليهم؛ فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتُك في اللوح المحفوظ جهبذاً.
وقيل: كانت عجوز قدَمَ بعض أقاربها من السفر فأظهر قومُها السرور، والعجوز تبكي، فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: ذكرَّني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله تعالى.
وسئل ابن عطاء عن الشوق فقال: أحتراق الأحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد.
وسئل أيضاً عن الشوق، فقيل له: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة؛ لأن الشوق منها يتولد.
وقال بعضهم: الشوق لهيب ينشأ بين أثناء الحشى، يسنح عن الفرقة، فإذا وقع اللقاء طفىء، وإذا كان الغالب على الأسرار مشاهدة المحبوب لم يطرقها الشوق.
وقيل لبعضهم: هل تشتقا؟ فقال: لا، إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر.
سمعت الأستاذ أبي علي الدقاق يقول: في قوله عزَّ وجلَّ: وعجلت إليك ربِّ لترضي قال: معناه: شوقاً إليك، فستره يلفظ الرضا.
وسمعته رحمه الله تعالى يقول: من علامات الشوق: تمنى الموت على بساط العوافي، كيوسف عليه السلام لمَّا القى في الجب لم يقل توفي؛ ولما أدخل السجن لم يقل توفني؛ ولما دخل عليه أبواه وحرَّ له الإخوةُ سُحداً وتم له الملك والنعم قال: توفني مسلماً. وفي معناه أنشدوا:
من سرَّه العيد الجيد ... فقد عدمت به السرورا
كان السرور يتمُّ لي ... لو كان أحبابي حضورا
وقال ابن خفيف: الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب.
وقال أبويزيد: إن لله عباداً لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لا ستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: أخبرنا أبو العباس الهاشمي بالبيضاء قال: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي قال: حدثنا عبد الله الأنصاري قال: سمعت الحسين الأنصاري يقول: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت وشخص قائم تحت العرش فيقول الحق، سبحانه: يا ملائكتي، من هذا؟ فقالوا: الله أعلم فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق بلقائي.
وفي بعض الحكايات في مثل هذا المنام أنه قيل: هذا معروف الكرخي خرج من الدنيا مشتاقاً إلى الله، فأباح الله عز وجلَّ له النظر إليه.
وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله تعالى، فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: عزلاً المشتاقون إلىَّ... أشهدكم أني إليهم أشوق..
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: " أسألك الشوق إلى لقائك " قال:كان الشوق مائة جزء، تسعة وتسعون له، وجزء متفرق في الناس، فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضاً، فغار أن يكون شطية من الشوق لغيره.
وقيل: شوق أهل القرب أتم من شوق المحجوبين؛ ولهذا قيل:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنتِ الخيامُ من الخيام
وقيل: إن المشتاقين يتحسون حلاوة الموت عند وروده؛ لما قد كشف لهم من رَوح اوصول أحلى من الشهد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرِّي يقول: الشوق أجلّ مقام المعارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه.
وقال أبو عثمان الحيري في قوله تعالى: " فإن أجل الله لآت " : هذا تعزية المشتاقين، معناه: أني أعلم أن اشتياقكم إلى غالب. وأنا أجلت للقائكم أجلاً، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.
وقيل: أوحى الله تعالى لداود عليه السلام: قل لشبان بني إسرائيل لم تشغلون أنفسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم، ما هذا الجفاء!! وقيل: أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داود عليه السلام: لو يعلم المديرون على كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إليّ، وانقطعت أوصالهم من محبتي، ياداود هذه برادتي للمديرين علي، فبكيف إرادتي للمقبلين إليّ؟ وقيل: مكتوب في التوراة: شوقناكم فلم تشتاقوا، وخوفنا كم فلم تخافوا، نحنا لكم في تنوحوا.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بكى شعيب حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه، ثم بكى حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه. ثم بكى حتى عمي، فأوحى الله تعالى إليه: إن كان هذا البكاء لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها، فقال لا، بل شوقاً إليك. فأوحى الله إليه: لأجل ذلك أخدمتك نبي وكليمي عشر سنين.
وقيل: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء.
وفي الخبر: " اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان " .
سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال بعض المشايخ: أنا أدخل السوق والأشياء تشتاق إليّ، وأنا عن جميعها حُر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: سمعت محمد بن عمر الرملي يقول: حدثنا محمد بن جعفر الإمام قال: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم قال: حدثنا مرحوم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قرأت في التوراة: شوقنا كم فلم تشتاقوا، وزمَّرنا لكم فلم ترقصوا.
سمت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان يقول: سمعت الجنيد، وقد سئل من أي شيء يكون بكاء المحب إذا لقي المحبوب؟ فقال: إنما يكون ذلك سروراً به، ووجداً من شدة الشوق إليه، ولقد بلغني أن أخوين تعانقا، فقال أحدهما: وأشوقاه، وقال الآخر: واوجداه!!
باب حفظ قلوب المشايخ

وترك الخلاف عليهم

قال الله تعالى في قصة موسى مع الخضر، عليهما السلام: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً " .
قا الإمام: لما أراد صحبة الخضر حفظ شرط الأدب، فاستأذن أوَّلاً في الصحبة، ثم شرط عليه الخضر أن لا يعارضه في شيء ولا يعترض عليه في حكم، ثم لما خالفه موسى عليه السلام تجاوز عنه المرة الأولى والثانية، فلما صار إلى الثالثة، والثلاثُ آخر حد القلة وأول حد الكثرة، سلمتة الفرقة؛ فقال: هذا فراق بيني وبينك.
أخبرنا أبو الحسين الإهوازي قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا أبو سالم القزاز قال: حدثنا يزيد عن بيان قال: حدثنا أبو الرجال، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أكرم شاب شيخاً لسنَّه إلا قبض الله تعالى له من يكرمه عند سنه " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: بدء كل فُرقة المخالفهُ. يعني به: أنَّ من خالف شيخه لم يبق على طريقته وانقطعت العُلقْهُ بينهما وإن جمعتهما البقعة؛ فمن صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة، على أن الشيوخ قالوا: عُقوق الأستاذين لا توبة عنها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: خرجت إلى مرو في حياة شيخي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، وكان له قبل خروجي أيام الجمعة بالغدوات مجلس دَوْر القرآن والختم، فوجدته عند رجوعي قد رفع ذلك المسجد، وعقد لأبي الغفاني في ذلك الوقت مجلس القول، فأدخلني من ذلك شيءٌ؛ فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول، فقال لي فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول: فقال لي يوماً: يا أبا عبد الرحمن، ما يقول الناسُ فيّ؟ فقلت: يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول!! فقال: من قال لأستاذهِ لِمَ؟ لا يفلح أبداً، ومن المعروف أن الجنيد قال: دخلت على السريّ يوماً، فأمرني شيئاً، فقضيت حاجته سريعاً، فلما رجعت ناولني رقعة وقال: هذا المكان قضائك لحاجتي سريعاً، فقرأت الرقعة، فإذا فيها مكتوب سمعت حادياً يحدو في البادية:
أبكي، وهل يدريك ما يبكيني ... أبكي جداراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني ويحكى عن أبي الحسن الهمداني العلوي قال: كنت ليلة عند جعفر الخلدي، وكنت أمرت في بيتي أن يُعَلَّق طير في التنور، وكان قلبي معه، فقال لي جعفر: أقم عندنا الليلة، فتعللت بشيء، ورجعت إلى منزلي، فأخرج الطير من التنور، ووضع بين يدي، فدخل كلب من الباب، وحمل الطير عند تغافل الحاضرين، فأتى بالجواذب الذي تحته، فتعلق به ذيل الخادمة، فانصب.. فلما أصبحتُ دخلت على جعفر، فحين وقع بصره عليّ قال: من لم يحفظ قلوب المشايخ سُلّط عليه كلب يؤذيه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت أبا عبد الله الدينوري يقول: سمعت الحسن الدامغاني يقول: سمعت عمي البسطامي يحكي عن أبيه: أن شقيقاً البلخيِّ، وأبا تراب النخشبي، قدما على أبي يزيد، فقُدَّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر. فأبى. فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة. فأبى. فقال أبو يزيد: تدعُوا من سقط من عين الله تعالى!! فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة، فقطعت يده!! سمعت الأستاذ أبا عليّ يقول: وصف سهل بن عبد الله رجلاً بالولاية خبازاً بالبصرة.. فسمع رجل من أصحاب سهل بن عبدالله ذلك، فاشتاق إليه؛ فخرج إلى البصرة، فأتى حانوت الخباز.. فرآه يخبز وقد تنقب لمحاسنه على عادة الخبازين، فقال في نفسه. لو كان هذا ولياً لم يحترق شعره بغير نقاب. ثم إنه سلم عليه وسأله شيئاً، فقال الرجل: إنك استصغرتني، فلا تنتفع بكلامي، وأبي أن يكلمه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن الرازي أبا عثمان الحيري يصف محمد بن الفضل البلخي ويمدحه، فاشتاق إليه، فخرج إلى زيارته، فلم يقع بقلبه من محمد بن الفضل ما اعتقد، فرجع إلى أبي عثمان وسأله، فقال: كيف وجدته؟ فقال: لم أجد أحداً إلا حُرم فائدته، ارجع إليه بالحرمة. فرجع إليه عبد الله، فانتفع بزيارته.
ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور يكتب شيئاً، فقال. ما هذا؟ فقال: هو ذا أُعارض القرآن، فدعا عليه وهجره؛ قال الشيوخ إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد؛ دعا عليهم وقال: اللهم امنعهم الصدق. فلم يخرج من بلخ بعد صديق.
سمعت أحمد بن يحيى الأبيوري يقول: من رضي عنه شيخه لا يكافأ في حال حيته: لئلا يزول عن قلبه تعظيم ذلك الشيخ. فإذا مات الشيخ أظهر الله عز وجل عليه ما هو جزاء رضاه ومن تغير عليه قلبُ شيخه لا يكافأ في حال حياة ذلك الشيخ، لئلا يرقَّ له، فإنهم مجبولون على الكرم، فإذا مات ذلك الشيخ، فحينئذ يجد المكافأة بعده.
؟باب السماع قال الله عزَّ وجلَّ: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " .
اللام في قوله القول تقتضي التعميم والاستغراق، والدليل عليه: أنه مدحهم باتباع الأحسن.
وقال تعالى: " فهم في روضة يحيرون " ، جاء في التفسير: أنه السماع وأعلم أن سماع الأشعار بالألمان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظوراً، ولم يسمع على مذموم في الشرع، ولم ينجز في زمام هواه، ولم ينخرط في سلك لهواه، مباح في الجملة.
ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان.
هذا ظاهر من الأمر. ثم ما يوجب المستمع توفر الرغبة على الطاعات، وتذكر ما أعدّ الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرر من الزلات، ويؤدي إلى قلبه في اعمال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع، وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر، وإن لم يقصد أن يكون شعراً.
أخبرنا: أبو الحسن علي بن أحمد ألإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا الحارث بن أبي أسلمة قال: حدثنا أبو النضر قال: حدثنا شعبة عن حميد قال: سمعت أنساً يقول: كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأكرم الأنصار والمهاجرة " وليس هذا اللفظ منه، صلى الله عليه وسلم، على وزن الشعر، لكنه قريب منه.
وقد سمع السلف الأكابرُ الأبيات بالألحان؛ فمن قال بإباحته من السلف: مالك بن أنس: وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء، وأما الحداء فإجماع منهم على إجازته.
وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك، وروي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع، فقيل له: إذا أتى بك يوم القيامة، ويؤتى بحسناتك ولا في السيآت. يعني أنه من المباحات: وليس كلامنا في هذا النوع من السماع: فن هذه الطائفة جلت رتبتهم عن أن يستمعوا بلهو، أو يقعدوا للسماع بسهو، أو يكونوا بقلوبهم مفكرين في مضمون لغو. أو يستمعوا على صفة غير كفء.
وقد روي عن أبن عمر آثار في إباحة السماع، وكذلك عن عبدالله بن جعفر ابن أبي طالب. وكذلك عن مر رضي الله عنهم أجمعين، في الحداء وغيره.
وأنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الأشعار فلم ينه عنها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم استنشد الأشعار.
ومن المشهور الظاهر أنه دخل بيت عائشة رضي الله عنها، وفيه جاريتان تغنيان، فلم ينههما.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد ابن مطر قال: حدثنا الحباب بن محمد التستري قال: أخبرنا أبو الأشعث قال: حدثنا محمد بن بكر البرساني قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل عليها وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عبداً وعيدنا هذا اليوم " .
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا عثمان بن الضي قال: حدثنا أبو كمال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عائشة رضي الله عنها: " أنها أنسكحت ذات قرابتها من الأنصار. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ فقالت: نعم. قال: فأرسلت من يغني؟ قالت: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ن النصار فيهم غزل، فلو أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم "
أخبرنا الأستاذ الإمام أبوبكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا الحسين بن الحارث الإهوازي قال: حدثنا سلمة بن سعيد، عن صدقة بنت أبي عمرن، قالت: حدثنا علقمة ابن مرثد، عن زاذان، عن البراءة بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً " دلّ هذا الخبر على فضيلة الصوت الحسن.
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا أبو الربيع قال: حدثنا عبد السلام ابن هاشم قال: حدثنا عبدالله بن محرز، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن " .
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن يونس الكريمي يقال: حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال: حدثنا شبيب بن بشر بن البجلي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوتان ملعونان: صوتُ ويل عند مصيبة، وصوت مزمار عند نغمة " .
مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا في غير هذه الأحوال، وإلا بطل التخصيص.
والأخبارُ في هذا الباب تكثر، والزياة على هذا القدر من ذكر الروايات تخرجنا عن المقصود من الاختصار، وقد روي أن رجلاً أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج
أدبرت فقلت لها ... والفؤاد في وَهج
هل على ويحكما ... إن عشقت من حرج
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
وإن حُسن الصوت مما أنعم الله تعالى به على صاحبه من الناس: قال الله عز وجل: " يزيد في الخلق ما يشاء " . قيل في التفسير: من ذلك، الصوت الحسن وذم الله سبحانه الصوت الفظيع؛ فقال تعالى: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " .
واستلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة واسترواحها إليها مما لا يمكن جحوده؛ فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء. قال الله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " .
وحكى إسماعيل بن عالية قال: كنت أمشي مع الشافعي، رحمه الله تعالى، وقت الهاجرة فجزنا بموضع يقول فيه أحد شيئاً، فقال: مل بنا إليه، ثم قال: أيطربك هذا؟ فقلت: لا. فقال: مالك حسن!! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماأذن الله تعالى لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " .
أخبرنا علي بن أحمد الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا ابن ملحان قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عنعقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " .
وقيل: إن داود عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يحمل مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه.
وقال معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو علمت أنك تسمع لحبرتَه لك تحبيراً " .
أخبرنا أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا عبد الله بن علي السراج قال: حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري الرقي قال: كنت في البادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، وأضافني رجل منهم، فرأيت غلاماً أسود مقيداً هناك. ورأيت جمالاً قد ماتت بفناء البيت، فقال لي الغلام: أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفع لي؛ فإنه لا يردك.
فقلت لصاحب البيت: لا آكل طعامك حتى تحل هذا العبد.
فقال: هذا الغلام قد أفقرني وأتلف مالي!! فقلت: فما فعل؟
فقال: له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقيلة، وحدا لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة في يوم واحد، فلما حط عنها ماتت كلها، ولكن قدوهبته لك وحلَّ عنه القيد، فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته، فسألته عن ذلك، فأمر الغلامَ أن يحدو على جمل كان على بئر هناك يستقي عليه، فحدا الغلام.. فهام الجمل على وجهه وقطع حباله، ولم أظن أني سمعت صوتاً أطيب منه، فوقعت لوجهي.. حتى أشار إليه بالسكوت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سئل: ما بال الإنسان يكون هادئاً، فذ سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذرَّ في الميثاق الأول بقوله: " ألست بربك قالوا بلى " استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: السماع حرام على العوام؛ لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد؛ لحصول مجاهداتهم، مستحب لأصحابنا؛ لحياة قلوبهم.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الصوفي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: كان الحارث بن أسد المحاسبي ثلاث إذا وجدن مُتسع بهنَّ، وقد فقدناها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الصوت مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
وسئل ذو النون المصري عن الصوت الحسن، فقال: مخاطبات وإشارات أودعها أنه تعالى كلّ طيب وطيبة.
وسئل مرة أخرى عن السماع فقال: وارد حقٌ يزعج القلوب إلى الحقِّ؛ فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغًى إليه بنفس تزندق.
وحكى جعفر بن نصير: عن الجنيد أنه قال: تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن: عند السماع؛ فإنهم لا يسمعون إلا عن حق، ولا يقولون إلا عن وجد، وعند أكل الطعام؛ فأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة، وعند مجاراة العلم: فإنهم لا يذكرون إلا صفات الأولياء.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت أبا بكر بن ممشاد يقول: سمعت الجنيد يقول: السماع فتنة لمن طلبه. ترويح لمن صادفه.
وحكي عن الجنيد أنه قال: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان. والمكان؛ والإخوان.
وسئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة، وباطنه عبرة؛ فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة، وإلا فقد استدعي الفتنة، وتعرض للبلية.
وقيل:لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيّ؛ فنفسه ذُبحت بسيوف المجاهدة، وقلبه حي بنور الموافقة.
وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع فقال: حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق.
وقيل: السماع لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: السماع طبع، إلا عن شَرعْ. خرق، إلا عن حق، وفتنةٌ إلا عن عبرة.
ويقال: السماع على قسمين: سماع بشرط العلم والصحو؛ فمن شرط صاحَبَه معرفةُ الأسامي والصفت، وإلا وقع في الكفر المحض. وسماع بشرط الحال؛ فمن شرط صاحبه الفناءُ عن أحوال البشرية، والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة.
وحكي عن أحمد بن أبي الحراري أنه قال: سألت أبا سليمان عن السماع، فقال: من اثنين أحب إليّ من الواحد.
وسئل أبو الحسن النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع، وآثر الأسباب.
وسئل أبو علي الروذباري عن السماع يوماً فقال: ليتنا تخلصنا منه رأسا برأس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من أدعى السماع ولم يسمع صوت الطيور، وصرير الباب، وتصفيق الرياح، فهو فقير مدع.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: سمعت أبا الطيب أحمد بن مقاتل العكي يقول: قال جعفر: كان ابن زيري، من أصحاب الجنيد، شيخاً فاضلاً، فربما كان يحضر موضع سماع، فإنه استطابه فرش إزاره وجلس وقال: الصوفي في قلبه، وإن لم يستطبه قال. السماع لأرباب القلوب، ومر، وأخذ نعله.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت عبدالله بن عبد المجيد الصوفي يقول: سئل رويم عن وجوج الصوفية عند السماع فقال:
يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم: إليّ.. إليّ.. فيتنعمون بذلك من الفرح، ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء؛ فمنهم من يخرق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي كل إنسان على قدره.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه: ما أعمل بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ ينبغي أن يكون سماعك متصلاً غير منقطع.
قال: وقال الحصري: ينبغي أن يكون ظمأ دائم، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه.
وجاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: " فهم في روضة يخبرون " : أنه السماع من الحور العين بأصوات شهية: " نحن الخالدات، فلا نموت أبداً، نحن الناعمات، فلا نبؤس أبداً " .
وقيل: السماع نداء، والوجد قصد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: قلوب أهل الحق قلوب حاضرة، وأسماعهم أسماع مفتوحة.
وسمعته يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: المستمع بين استتار وتجلٍ، فالاستتار يوجب التلهيب، والتجلي يورث الترويح؛ والاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه سكون الواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وذلك صفة الحضرة ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة، قال الله تعالى: " فلما حضروه قالوا أنصتوا " .
وقال أبو عثمان الحيري: السماع على ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الأحوال الشريفةويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمرأءاة.
والثاني: للصادقين يطلبون الزيادة في أحوالهم ويستمعون من ذلكما يوافق أوقاتهم.
والثالث: لأهل الاستقامة من العارفين، فهؤلاء لا يختارون على الله تعالى فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الفرج الشيرازي يقول: سمعت ابا علي الروذباري يقول: قال أبو سعيد الخراز: من أدعى أنه مغلوب عن الفهم يعني في السماع، وأنّ الحركات مالكة له، فعلامته تحسين المجلس الذي هو فيه يوجده.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن: فذكرت هذه الحكاية لأبي عثمان المغربي فقال: هذا أدناه، وعلامته الصحيحة: أن لا يبقى في المجلس محق إلا أنسَ به، ولا يبقى فيه مبطل إلا استوحش منه.
وقال بندار بن الحسين: السماع علي ثلاثة أوجه: منهم من يسمع بالطبع، ومنهم من يسمع بالحال، ومنهم من يسمع بالحق.
الذي يسمع بالطبع يشترك فيه الخاص والعام؛ فإن جبلة البشرية استلذاذ الصوت الطيب.
والذي يسمع بالحال فهو يتأمل ما يردُ عليه من ذكر عتاب أو خطاب أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد، أو تأسف علي فائت أو تعطش إلى أتٍ، أو وفاء بعهد أو تصديق لوعد أو نقض لعهد، أو ذكر قلق أو اشتياق أو خوف فراق أو فرح وصالٍ، أو حذَر انفصال أو ما جرى مجراه.
وأما من يسمع بحق فيسمع بالله تعالى، والله، ولا يتصف بهذه الأحوال التي هي ممزوجة بالحظوظ البشرية فإنها مبقاة مع العلل فيسمعون من حيثُ صفاء التوحيد يحق لا يحظ.
وقيل: أهل السماع على ثلاث طبقات: أبناء الحقائق يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة لحق سبحانه لهم؛ وضرب يخاطبون الله تعالى بقلوبهم بمعاني ما يسمعون، فهم مطالبون بالصدق فيما يشيرون به إلى الله: وقالت: هو فقير مجرّد قطع العلاقات من الدنيا والآفات، سمعون بطيبة قلوبهم، وهؤلاء أقربهم إلى السلامة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري، وقد سئل عن السماع، فقال: مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب.
وقال الحواص، وقد سئل: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع غير القرآن، ولا يجد ذلك من سماع القرآن؟ فقال: لأن سماع القرآن صدمة لا يمكن لأحد أن يتحرك فيه لشدة غلبته، وسماع القول ترويح فيترحك فيه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا رأيت المريد يُحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول: سمعت أبا سعيد الرملي يقول: قال سهل بن عبد الله السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو.
وحكي أحمد بن مقاتل العكي قال: لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية، ومعهم قوَّال، فاستأذنوه أن يقول بين يديه شيئاً فأذن، فأبتدأ يقول:
صغيرُ هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعتِ من قلبي ... هَوى قد كان مشتركا
أماترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخفي بكا
قال: فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض، ثم قام رجل من القوم يتواحد، فقال له ذو النون: الذي يراك حين تقوم.. فجلس الرجل.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في هذه الحكاة: كان ذو النون صاحب إشراف علي ذلك الرجل: حيث نبهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف؛ حيث قبل ذلك منه، فرجع فقعد.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت الرقيّ يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: كان بالمغرب شيخان لهما أصحاب وتلامذة، يقال لأحدهما جبلة وللثاني رزيق فزار رزيق يوماً جبلة في أصحابه، فقرأ رجل من أصحاب رزيق شيئاً، فصاح واحد من أصحاب جبلة ومات. فلما أصبحوا قال جبلة لرزيق: أين الذي قرأ بالأمس؟ فليقرأ.. فقرأ آية، فصاح جبلة صيحة، فمات القارىء، فقال جبلة: واحد بواح والبادي أظلم.
وسئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عندالسماع فقال: بلغني أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل، فمزق واحد منهم قميصه، فأوحى الله تعالى إليه: قل له مزِّق لي قلبك ولا تمزِق ثيابك.
وسئل أبو علي المغازلي الشبلي فقال: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله عز وجلّ فتحدوني على ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس.
فقال الشبلي:ما أجتذبك إليه فهو عطف منه عليك، ولطف، وما رُدِدت إلى نفسك فهو شفقة منه عليه، لأنه لم يصح لك التبري من الحول والقوة في التوجه إليه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أحمد بن مقاتل العكي يقول: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من شهر رمضان وهو يصلي خلق إمام له وأنا بجنبه، فقرأ الإمام: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " . فزعق زعقة قلت: طابت روحه وهوي رتعد ويقول: بمثل هذا يخاطب الأحباب!! ويردد ذلك كثيراً.
وحكي عن الجنيد أنه قال: دخلت على السري يوماً فرأيت عنده رجلاً مغشياً عليه، فقلت: ماله؟ فقال: سمع آية من كتاب الله تعالى. فقلت: تُقرآ عليه ثانياً، فقُرىء، فأفاق، فقال لي: من أين علمت هذا؟ فقلت: إن قميص يوسف ذهبت بسببه عينُ يعقوب عليهما السلام ثم به عاد بصره فاستحسن مني ذلك.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق، فقال له الجنيد يوماً: إن فعلت ذلك مرّة أخرى لم تصحبني!! فكان إذا سمع شيئاً يتغير ويضبط نفسه، حتى كان يقطرُ كل شعرة من بدنه بقطرةٍ، فيوماً من الأيام صاح صيحة تلفت بها نفسه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدرّاج قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الريّ سألت عن منزله، فكلّ من أسأل عنه يقول لي: ما تفعل بذلك الزنديق؟! فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلت: جئتُ هذه البلدة، فلا أقلّ من زيارته؛ فلم أزل أسأل عنه حتى وقت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رَحل، وعليه مصحف يقرأ فيه، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد السلام وقال: من أين؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً أو جارية، أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما أمتحنني الله تعالى بشيء من ذلك!! ولو كان لا أدري كيف كنت أكون؟ فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، وقلت:
رأيتُك تبني دائباً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيتُه وثوبه، حتى رحمتُه من كثرة بكائه؛ ثم قال لي: يا بني: لا تلمُ أهل الريّ على قولهم يوسف بن الحسين زنديق ومن وقت الصلاة و ذا أقرأ فلم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت الدراج يقول كنت أنا وابن القوطي مارين على الدجلة بين البصرة والأبلة، وإذا نحن بقصر حسنٍ، له منظر وعليه رحل وبين يديه جارية تغني وتقول:
في سبيل الله ود ... كان مني لك يبذل
كلَّ يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
وإذا شاب تحت المنظرة بيده ركوة، وعليه مرقعة يسمع فقال: يا جارية، بحياة مولاك أعيدي: كل يوم تنلون غير هذا بك أجمل فأعادته.
فقال الشاب: قولي. فأعادت فقال الفقير: هذا والله تلوني مع الحق، وشهق شقة خرجت روحه. فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرّضة لوجه الله تعالى، وخرج أهل البصرة، وفرغوا من دفنه والصلاة عليه، فقام صاحب القصر، وقال: أليس تعرفوني؟؟ وأرتدي برداء، وتصرق بالقصر، ومر؟ فلم يُر له بعد ذلك وجد، ولا سمع له أثر.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت يحيى بن الرضا العلوي قال: سمعت أبو سلمان الدمشقي طوافاً ينادي: يا سسعتر بري فسقط مغشياً عليه، فلما افاق، سئل، فقال: حسبته يقول: اسمع ترَ برّي.
وسمع عتبة الغلام رجلاً يقول: سبحان ربِّ السماء؛ إن المحب لقي عناء فقال عتبة،: صدقت؛ وسمع رجل آخر ذلك القول، فقال: كذبت فكل واحد سمع من حيث هو.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمع أبا الحسن علي بن محمد الصوفي يقول: سمعت رويماً وقد سئل عن المشايخ، الذين لقيهم في السماع، فقال: كالقطيع إذا وقع فيه الذئب.
وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت علي بن المرفق في السماع يقول: أقيموني، فاقاموه، فقام، وتواجد، ثم قال: أنا الشيخ الزفان.
وقيل: قام الرقيُّ ليلة إلى الصباح، يقوم. ويسقط على هذا البيت، والناس قيام يبكون، والبيت:
بالله فأردد فؤاد مكتئب ... ليس له من حبيبة خلف
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بالبصرة يقول: سمعت أبي يقول: خدمت سهل بن عبد الله سنين كثيرة، فما رأيته تغير عند سماع شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن وغيره، فلما كان في آخر عمره قُرىء بين يديه " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " رأيته تغير، وارتعد، وكاد يسقط، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك، فقال يا حبيبي ضعفنا.
وحكى ابن سالم قال: رأيته مرَّة أخرى قرىء بين يديه الملك يومئذ الحق للرحمن فتغير وكاد يسقط، فقلت له في ذلك، فقال: ضعفتُ وهذه صفة الأكابر لا يرد عليه وارد وإن كان قوياً إلا وهو أقوى منه.
سمعت ألشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما تقول البكرة؟ فقلت: لا، فقال: تقول الله. الله.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن طاهر يقول: سمعت عبد الله بن سهل يقول: سمعت رويماً يقول: روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه سمع صوت ناقوس فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: سبحن الله، حقاً، إن المولى صمدٌ يبقي.
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن علي الكرخي الوجيهي يقول: كان جماعة من الصوفية متجمعين في بيت الحسن القزاز، ومعهم قوالون يقولون ويتواجدون، فأشرف عليهم ممشاد الدينوري؛ فسكتوا، فقال: أرجعوا إلى ما كنتم فيه، فلو جمع ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي.
وبهذا الإسناد عن الوجيهي قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: بلغنا في هذا الأمر إلى مكان مثل حد السيف إن قلنا كذا ففي النار.
وقال خبر النساج: قص موسى بن عمران، صلوات الله عليه، على قوم قصة، فرزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجودي صاحوا، فلم تنكر على عبادي؟! وقيل: سمع الشبلي قائلاً يقول: الخيارُ عشرةٌ بدنق فصاح وقال: إذا كان الخيار عشرة بدانق فكيف الشرار؟! وقيل: إذا تغنت الحور العين في الجنة توردت الأشجار.
وقيل: كان عون بن عبد الله يأمر جارية له حسنة الصوت فتغنى بصوت حزين حتى تبكي القوم.
وسئل أبو سليمان الداراني عن السماع، فقال: كل قلب يريد الصوت ألحسن فهو ضعيف يداوي كما يداوي الصبي إذا أريد أن ينام، ثم قال أبو سليما: إن الصوت الحسن لا يُدخل في القلب شيئاً، وإنما يحرك من القلب ما فيه. قال أبن أبي الحواري: صدق والله أبو سليمان.
وقال الجريري: كونوا ربانيين، أي سماعين من الله، قائلين بالله.
وسئل بعضهم عن السماع فقال: بروق تلمع ثم تخمد، وأنوار تبدوا ثم تخفى، ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين، ثم أنشأ يقول:
خطرة في السر منه خطرت ... خطرة البرق ابتدي ثم اضمحل
أي زور لك لو قصداً سري ... وملمِ بك لو حقاً فعل
وقيل: السماع فيه نصيب لكل عضو؛ فما يقع إلى العين تبكي، وما يقع إلى لسان يصيح، وما يقع على اليد تمزق الثياب وتلطم، وما يقع إلى الرجل ترقص.
وقيل: مات بعض ملوك العجم، وخلف ابناً صغيراً، فأرادوا أن يبايعوه قالوا: كيف نصل إلى معرفة عقله وذكائه؟!.. ثم توافقوا على أن يأتوا بقوال، فلما قال زال شيئاً ضحك الرضيع، فقبلوا الأرض بين يديه وبايعوه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: اجتمع أبو عمرو بن نجيد، والنصراباذي، الطبقة في موضع؛ فقال النصراباذي: أنا أقول إذا اجتمع القوم فواحد يقول شيئاً ويسكت الباقون خير من أن يغتابوا أحداً.
فقال أبو عمرو: لأن تغتاب أنت ثلاثين سنة أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لستَ به.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: الناس في السماع ثلاثة: متسمع؛ ومتسمع؛ وسامع؛ فالمتسمع يسمع بوقت؛ والمستمع يسمع بحال: والسامع يسمع بحق.
وسألت الأستاذ أبا علي الدقاق: رحمه الله تعالى، غير مرة. شبه طلب رخصة في السماع، فكان يحيلني على ما يوجب الإمساك عنه، ثم بعد طول المعاودة قال: إن المشايخ قالوا: ما جمع قلبك إلى الله قلبك إلى الله سبحانه وتعالى فلا بأس به.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد ألأهوازي قال: أخبرنا أ؛مد بن عبيد البصري قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن يعلي الرازي قال: حدثنا حفص بن عمر العمري قال: حدثنا أبو عمر وعثمانبن بدر قال: حدثنا هارون ابن حمزة عن الغدافري قال: حدثنا أبو عمر وعثمان بن بدر قال: حدثناهارون ابن حمزة عن الغدافري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام: إني جعلت فيك عشرة آلاف سمع حتى سمعت كلامي، وعشرة آلاف لسان حتى أحببتني، وأحبُّ ما تكون إلي وأقربه إذا أكثرت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: رأى بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: الغلط في هذا أكثر؛ يعنى به: السماع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر النهاوندي يقول: سمعت عليا السائح يقول: سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: رأيت أبليس، لعنه الله، في المنام علي بعض سطوح أولاس وأنا على سطح، وعلى يمينه جماة، وعلى يساره جماعة، وعليهم ثياب نظاف، فقال لطائفة منهم: قالوا.. فقالوا، وغنوا، فاستفزعني طيبه، حتى همست أن أطرح نفسي من السطح.
ثم قال: ارقصوا، فرقصوا أطيب ما يكون..
ثم قال لي: يا أبا الحارث، ما أصبتُشيئاً أدل به عليكم إلا هذا.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: اجتمعت ليلة من الشبلي، رحمه الله، فقال القوال، شيئاً، فصاح الشبلي، وتواجد قاعداً فقيل له: يا أبا بكر، مالك من بين الجماعة قاعداً؟! فقام وتواجد، وقال:
لي سَكْرَتان، وللندمانِ واحدةٌ ... شيء خُصِصْتُ به من بينهم وحدي
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: جزت بقصر، فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً، وحوله خلص، فسألت عنه، فقالوا: إنه جاز بهذا القصر وفيه جارية تغنى:
كبُرَت همَّة عبد ... طمعت في أن تراكا
أو ما حسب لعينٍ ... أن ترى من قد رآكا
فشهق شهقة ومات.
باب كرامات الأولياء

قال الأستاذ أبو القاسم: ظهورُ الكرامات على الأولياء جائز.
والدليل على جوازه أنه أمر موهومٌ حدوثه في العقل لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجبٌ وصفه، سبحانه، بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدوراً لله، سبحانه، فلا شيء يمنع جواز حصوله.
وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله، فمن لم يكن صادقاً فظهور مثلها عليه لا يجوز. والذي يدل عليه أن تعريف القديم سبحانه إيانا، حتى نفرق بين من كان صادقاً في أحواله، وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لايوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هو الكرامة التي أشرنا إليها.
ولابد أن تكون هذه الكرامة فعلاً ناقضاً للعادة في أيام التكليف، ظاهراً على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله.
وتكلم الناس في الفرق بين الكرامات وبين المعجزات من أهل الحق؛ فكان الإمام أبو إسحاق الإسفرايني، رحمه الله، يقول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي، كما أن العقل المحكم لما كان دليلاً لعالم في كونه عالماً لم يوجد ممن لا يكون عالماً.
وكان يقول: الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعاء، فأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا.
وأما الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله، فكان يقول: المعجزات: بدلالات الصدق، ثم إن ادعي صاحبها النبوة فالمعجزات تدل على صدقه في مقالته، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت المعجزة علي صدقه في حلته، فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة وإن كانت من جنس المعجزات للفرق.
وكان رحمه الله يقول: من الفرق بين المعجزات والكرامات: أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها والوليّ يجب عليه سترها وإخفاؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعى ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعيها ولا يُقطع بكرامته، لجواز أن يكون ذلك مكراً.
وقال أوحد فنه في وقته القاضي أبو بكر الأشعري، رضي الله عنه: إن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء ولا تكون للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوة النبوة بها، والمعجزة لم تكن معجزة لعينها، وإنما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط، لا تكون معجزة. وأحد تلك الشرائط: دعوة النبوة، والولي لا يدعي النبوة، فالذي يظهر عليه لا يكون معجزة..
وهذا القول الذي نعتمده ونقول به، بل ندين به.
فشرائط المعجزات، كلها أو أكثرها، توجد في الكرامة إلا هذا الشرط للواحد. والكرامة فِعْل لا محالة محدث، لأن ما كان قديماً لم يكن له اختصاص بأحد، وهو ناقض للعادة، وتحصل في زمان التكليف وتظهر على عبد تخصيصاً له وتفضيلاً. وقد تحصل باختياره ودعائه، وقد لا تحصل له، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات، ولم يؤمر الوليّ بدعاء الخلق إلى نفسه ولو أظهر شيئاً من ذلك على من يكون أهلاً له لجاز.
واختلف أهل الحق في الولي: هل يجوز أني علم أنه ولي؟ أم لا؟ فكان الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله يقول: لا يجوز ذلك: لأنه بسلبه الخوف ويوجب له الأمن.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول بجوازه.
وهو الذي يؤثره ونقول به.
وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء حتى يكون كلُّ وليًّ يعلم أنه وليَّ واجباً، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم كما يجوز أن لا يعلمه بعضهم. فإذا علم بعضهم أنه ولي كانت معرفته تلك كرامة له انفرد بها.
وليس كل كرامة لوليّ يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء. بل لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في النيا لم يقدح عدمها في كونه وليا. بخلاف الأنبياء فإنه يجب أن تكون لهم معجزات؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه؛ ولا يعرف إلا بالمعجزة.
وبعكس ذلك حال الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضاً، العلم بأنه وليّ.
والعشرة من الصحابة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به أنهم من أهل الجنة.
وقول من قال لا يجوز ذلك لأنه يخرجهم من الخوف فلابأس أن يخافوا تغيير العقابة، والذي يجدونه في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق سبحانه، يزيد ويربوعلى كثير من الخوف.
وأعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا له ملاحظة. وربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أن ذلك فعل الله، فيستدلون بها على صحة ما هم عليه من العقائد.
وبالجملة، فالقول بجواز ظهورها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة ما تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها على الأولياء في الجملة علماً قوياً أنتفى عنه الشكرك. ومن توسط هذا الطائفة وتواتر عليه حكاياتهم وأخبارهم لمتبق له شبهة في ذلك على الجملة. ومن دلائل هذه الجملة: نص القرآن في قصة صاحب سليمان عليه السلام. حيث قال " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " ولم يكن نبياً.
والأثر: عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، صحيح أنه قال: يا سارية الجبل في حال خطبته يوم الجمعة، وتبليغ صوت عمر إلى سارية في ذلك الوقت حتى تحرز من مكامن العدو من الجبل في تلك الساعة.
فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنكل من له بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقاً لم تظهر على يد من تابعه الكرامة. فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ ربتةَ الأنبياء عليهم السلام: للإجماع المنعقد على ذلك.
وهذا أبو يزيد البسطامي سئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأنبياء عليهم السلام كمثل زِق فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرةُ مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلى الله عليه وسلم.
الكرامات

قد تكون إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوان فاقة من غير سبب ظهار، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليصاً من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة.
وأعلم أن كثيراً من المقدورات يعلم اليوم قطعاً أنه لايجوز أن يظهر كرامة للأولياء؛ وبضرورة أو شبه ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين، وقلبَ جمادٍ بهيمة أو حيواناً، وأمثال هذا كثير.



شارك فى نشر الخير